يوليو/ تموز 2013 ذلك التاريخ الذي لن يمحى من ذاكرة المصريين حينما أزيح الرئيس المنتخب وأحد قادة الإخوان المسلمين محمد مرسي عبر تدخل الجيش، تلى ذلك مواجهة مفتوحة بين الجماعة والنظام الجديد الذي كان قيد التشكل.

قامت الأجهزة الأمنية خلالها بقتل المئات من مؤيدي الجماعة واعتقلت وطاردت عشرات القادة حتى وصل الأمر لاعتقال مرشدها العام محمد بديع، في هذا الوقت بادرت مجموعة من القادة بتولي زمام الأمور ومحاولة لم شمل الجماعة من جديد، بل والعمل على تطوير الصراع بطريقة ندية مع النظام.

بصورة متوقعة وكعادة النضالات ضد النظم العسكرية ولما لم يجد الإسلاميون في النضال السلمي هدفهم المنشود وما بشرهم به مرشدهم حينما ردد: « سلميتنا أقوى من الرصاص» بدأت تتسرب مجموعات منهم إلى تبني النضال العنيف علهم يجدون ما فقدوه.

هذا التوجه وجد تربة خصبة في أذهان وقلوب الإسلاميين خاصة الشباب والمتضررين من القمع، فها هو المسار الديموقراطي قد أغلق وحسم الصراع السياسي بقوة الجيش، وها هي الأدلة والأسانيد الدينية التي تحرض على الجهاد وتناقش عقائد المخالفين قد عادت للسطح، وها هي المعتقلات قد أثخنت فيهم الآلام فتولدت رغبة في الانتقام لا توازيها رغبة.

أمام هذه العوامل استسلمت القيادة الجديدة تدريجيًا لنداءات الأتباع المتحمسين وتسربت تلك الروح إلى مستويات القيادة العليا، فبدأ كل شيء تدريجيًا حتى أصبح العنف بدرجاته خيارًا مطروحًا بقوة.

على هامش هذا المشهد دار صراع آخر تمثل في:

أولاً: ثمة أطراف إقليمية تشجع اقتلاع الجماعة نهائيًا ومواجهتها في كل مكان، بدا لها هذا التوقيت بالتزامن مع مقدمات انخراط الجماعة في العنف كفرصة قد لا تعوض في محاولة لاستغلال الانهيار الذي يعيشه الكيان على كافة المستويات وخاصة المستوى الاستراتيجي.

ثانيًا: شعرت قيادات الجماعة في الخارج وتحديدًا لندن أن خطرًا دوليًا قد اقترب، وأن الجماعة مهددة أن تصبح مطاردة في العالم كله، وأن العنف لن يكون حلاً للمشاكل المستعصية التي يمر بها الإسلاميون، بل سيثقل كاهل الجماعة ويجعلها تسير في نفق مظلم محددة معالمه نحو النهاية وتجارب سابقة في سوريا والجزائر كان من المخيف تكرارها.


كاميرون يفتح تحقيقًا حول علاقة الجماعة بالإرهاب

مبكرًا في أبريل/ نيسان 2014 بدا أن المساعي الإقليمية تتوجه صوب لندن مدينة الضباب وعاصمة الإخوان في الغرب، رئيس الحكومة السابق ديفيد كاميرون يعلن تشكيل لجنة برئاسة سير جون جينكنز لإعداد تقرير حول الإخوان المسلمين وعلاقتها بالإرهاب.

وجينكنز هو واحد من كبار خبراء شؤون الشرق الأوسط في الخارجية البريطانية، حيث عمل سابقًا قنصلاً عامًا لدى إسرائيل، وسفيرًا سابقًا في كل من سوريا والعراق وليبيا، قبل أن يكون سفيرًا للمملكة البريطانية في السعودية في الفترة 2012-2015 أي وقت رئاسته لتلك اللجنة.

لاحقًا نشرت الجارديان البريطانية أن الدافع وراء فتح هذا التحقيق تمثل في ضغوط إماراتية حثيثة وتحديدًا من ولي عهد أبوظبي محمد بن راشد الذي هدد بوقف صفقات بمليارات الجنيهات، كما قدم عروضًا اقتصادية ودبلوماسية غير متخيلة في سبيل الدفع نحو مواجهة بريطانيا للجماعة.

الثقة بين البلدين تعاني من تحد بسبب موقف بريطانيا من الإخوان المسلمين، ولأن حليفنا لا ينظر إليهم مثلما ننظر إليهم: تهديدًا وجوديًا ليس للإمارات فقط ولكن لكل المنطقة.

خلدون المبارك – مالك نادي مانشستر سيتي لسفير بريطانيا في الإمارات

في المقابل التقطت القيادات التاريخية بالجماعة الخيط، وأدركت ما يحاك لها، فدقت ساعة عملها وبدأت ربما بإشارة من لندن، حيث إبراهيم منير الذي تم تعيينه لاحقًا كنائب للمرشد العام في الظهور عبر مقالات وموضوعات منشورة تؤكد على سلمية الجماعة وتحذر من الانجرار للعنف.

تطور الأمر سريعًا لمطالبة تلك القيادات باستعادة دورها التنظيمي وتحركت عبر مفاصل التنظيم وأدوات التحكم به التي تعرفها جيدًا من أجل كبح جماح هذا التيار الهادر نحو العنف.

لم يستطع الطرفان تسوية تلك الخلافات داخل أروقة الجماعة، ورمى بها الطرف الراديكالي إلى الإعلام قاصدًا بذلك الاستعانة بجمهور الجماعة عبر المزايدة المستمرة والتلميحات المشينة، واعتمادًا كذلك على جمود طرف القيادة التاريخية وفشله في تقديم أي حلول تتقدم بالتنظيم للأمام، فبدا كتيار إصلاحي داخلي، وهو الأمر الذي الذي لا يتسم بالدقة، نظرا لأن كلا التيارين في الحقيقة شريكان في الفشل الأول، وشريكان كذلك في عدم تقديم ما يسير بالجماعة نحو الخروج من أزمتها ما بعد عزل مرسي.

نجحت القيادات التاريخية بعد جهد شاق في استعادة زمام القيادة وإزاحة تيار العنف، وإن كلفها ذلك خسارة عدد من كوادرها الذين سقطوا في أيدي قوات الأمن بعدما اضطروا لتكثيف تحركاتهم.


بماذا نصح كارنيجي قادة الإخوان؟

كان جون كاسون سفير بريطانيا في مصر على متن الطائرة ذاتها عندما جلست بجانبه لم يبد أنه كان يفكر في الأهداف الاقتصادية لزيارة السيسي.
كان كاسون يدرس ملخصًا لتقرير من تقارير مؤسسة كارنيجي بعنوان «تصاعد التمرد الإسلامي في مصر» وأشار التقرير إلى عدد الجنود المصريين الذين قتلوا في سيناء خلال السنتين الأخيرتين.
قال السفير : «العدد أكبر من سبعمائة وهو عدد أكبر من عدد الجنود الذين فقدناهم في حرب أفغانستان كلها».
بيتر هسلر – ثورة مصر الفاشلة

لا يبدو أن السفير البريطاني صديق اللاعب رمضان صبحي مهتم فقط بمتابعة مباريات الكرة ونشر المنشورات المضحكة على موقع تويتر، بل يبدو أعمق من هذه الصورة الإعلامية فبينما يزور السيسي بريطانيا في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015 وعينه على الملف الاقتصادي، كانت أعين البريطانيين أكثر تركيزًا مع الملف الأمني وتنامي العنف السياسي.

كما تزامنت تلك الزيارة مع حادث الطائرة الروسية فبدأت بريطانيا في ترحيل مواطنيها وتوصلت لمعلومات تشير لمسؤولية عناصر إرهابية قبل أن تصل الحكومة المصرية لنفس النتيجة.

تقرير كارنيجي الذي اهتم السفير البريطاني بدراسته نشر في أكتوبر/ تشرين الأول 2015 وتعرض بالتحليل لمختلف حركات العنف التي ظهرت بعد عزل مرسي وكيف تحولت الاحتجاجات السلمية إلى مجموعات عنيفة، وخلص إلى تقديم توصيات لكل من قادة النظام العسكري وقادة الإخوان المسلمين، حيث أشار إلى أنه على الرغم من خوضهما معركة صفرية إلا أن لهما مصلحة متبادلة في إخماد هذا التمرد الجهادي الناشئ، كما قدم توصية للمحاورين الغربيين الذين لا يزالون على تواصل مع قيادة الإخوان أن يعززوا هذا الواقع.

ينبغي على كبار القادة العقلانيين في جماعة الإخوان كبح جماح المتطرفين الذين يحرضون على العنف بهدف تهيئة قاعدتهم لضرورة التوصل إلى تسوية مع الدولة في نهاية المطاف، إذ إن المسار الحالي يفتت الجماعة من الداخل وربما يكون آخر مسمار في نعش التنظيم على النحو الذي عرف به منذ وقت طويل.
تقرير كارنيجي: تصاعد التمرد الإسلامي في مصر

لماذا فتح البرلمان تحقيقًا جديدًا؟

الشهر الأخير من العام 2015 وبعد انتظار طويل أعلن كاميرون أن لجنة جينكنز قد أنهت تحقيقاتها، لكنه لم ينشر سوى ملخص لما توصلت إليه، كما أضاف بيان موجز من مكتبه حول الأمر، جاء فيه، أن الحكومة البريطانية لا تعتقد أن الإخوان جماعة إرهابية أو عنيفة إلا أنها تمثل قناة عبور إلى التنظيمات الإرهابية.

كما عرض التقرير لعدد من الانتقادات لسياسة الجماعة التي لا تتوافق مع السياسة الليبرالية في الموقف من الأقليات والحرية الدينية والمرأة.

أعلن كاميرون عن سلسلة من الإجراءات تتمثل في رفض منح تأشيرة دخول لقادة الجماعة من أصحاب المواقف المتطرفة والتأكد من أن الجمعيات الخيرية المرتبطة بالإخوان لا تقدم أموالا سوى فيما تعلنه من نشاطات خيرية، والأهم هو استمرار مراقبة أنشطة الجماعة والتعاون مع حكومات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في تبادل المعلومات وتحليلها.

بدا الأمر وكأن الحكومة الإنجليزية تحاول إمساك العصا من المنتصف، مما أغضب كلا الطرفين، ليس هذا وحسب، بل عبر أعضاء لجنة العلاقات الخارجية بمجلس العموم، برئاسة كريسبن بلانت عن غضبهم أيضًا من عدم نشر نص التقرير الكامل، وأعلن بلانت في نبرة تحد أن البرلمان سيعد تقريرًا في نفس الملف.

وبالفعل شرعت لجنة العلاقات الخارجية بمجلس العموم (أغلبيتها من حزب المحافظين الحاكم بما في ذلك بلانت) في إجراء تحقيق شامل عن الإسلام السياسي، عقدت خلاله عددًا كبيرًا من جلسات الاستماع وتم نشر بعضها بصورة كاملة.

استضافت واحدة من تلك الجلسات قيادات الإخوان وعلى رأسهم إبراهيم منير، وتناولت معهم مختلف القضايا محل النقاش، وبعد وقت طويل أصدرت في نوفمبر/ تشرين الثاني 2016 تقريرًا مطولاً تلاه في مارس/ آذار الجاري تقريرًا آخر تضمن حوارًا بين لجنة العلاقات الخارجية بالبرلمان والحكومة ممثلة في وزارة الخارجية.

إبراهيم منير-نائب المرشد العام

ما يثير الانتباه في كلا التقريرين أنهما جاءا أكثر إنصافًا لتيار الإسلام السياسي، الذي ذهب التقرير لحد اعتباره جدار حماية أمام التطرف، ودعا بشكل مباشر الحكومة البريطانية للانخراط في حوار مع قادتها.

كما ذكر أنه لا يمكن إغفال تدخل الجيش لعزل مرسي وما تلاه في محاولة قراءة سلوك أفراد الجماعة وتأثير غياب العشرات من قادتها والتعرض للقمع على يد السلطة العسكرية، وأشار كذلك إلى أن قادة الجماعة لا يؤمنون بالعنف بل هم أحد ضحاياه.

اتفق التقرير في المقابل مع ما أعلن من رؤية جينكنز حول الانتقادات السياسية لفصيل الإسلام السياسي وإن أشاد بنموذج حزب النهضة التونسي واعتبره مثالا على إمكانية أن يكون الإسلاميون جزءًا من نموذج ديموقراطي ناشئ.


هل انتهى سؤال حظر الإخوان بريطانيًا؟

أثناء التحقيق وافقنا على الالتقاء بالمسؤولين الأمنيين وكانت لقاءات واضحة تمامًا.

رغم تقدم الإخوان على خصومهم في الساحة البريطانية مؤخرًا وضمانهم أن تظل لندن آمنة للقادة والأنشطة المقامة بها في المستقبل القريب إلا أن قرار حظر الإخوان وملاحقتها ما يزال قيد النقاش الغربي خاصة بعد تصاعد تيارات اليمين المتطرف في أكثر من دولة وكذلك تواجد ترامب بالبيت الأبيض.

وبينما يعتبر القرار خاضعًا للتوازنات الدولية بصورة كبيرة إلا أنه تبدو مجموعة من المؤسسات البريطانية في مقدمتها لجنة العلاقات الخارجية بالبرلمان والأجهزة الأمنية التي ترى في تنظيم القاعدة الخطر الأكبر على بريطانيا بينما لا تدفع باتجاه محاربة الإخوان، مما يجعلها تقف حائط صد أمام الحكومة إذا ما اضطرت مجددًا تحت ضغوط خارجية من الشرق أو الغرب لإعادة النقاش حول الجماعة.