من بين كل الجماعات المتناثرة في بقاع الأرض، والتي أعلنت الانتماء -اسمًا أو فعلاً- إلى «تنظيم الدولة-داعش»، ربما كانت جماعة «بوكو حرام» -ذراع التنظيم في غرب أفريقيا وأكثر الحركات التي بايعته في القارة السمراء قوة وتوحشًا- هي الأكثر قدرة على جذب الانتباه، فحين تكون قائدًا لمجموعة لا تتورع عن اختطاف مئات الفتيات القاصرات، ولا تستحي من أن تخرج أمام الشاشات متباهيًا بفعلتك، ومعلنًا عن أنك ستبيع هؤلاء الفتيات كالسبايا، وستوزعهن على مقاتليك كزوجات بالإكراه، حين تبلغ أفعالك هذا الحد من القسوة والشذوذ، فأنت -بكل تأكيد- قادرٌ على جذب الانتباه.

لم يكد العام الجديد يقترب من نهايته، حتى طارت عبر وكالات الأنباء «بُشرى» يزفها الرئيس النيجيري محمد بخاري إلى العالم، إذ أكد أن جيش بلاده قد تمكن من «سحق جماعة بوكو حرام نهائيًا»، قبل أن يخرج زعيمها «شيكاو» لينفي تلك المزاعم. تستعرض السطور التالية مسيرة الحركة، وجهود الحكومة النيجيرية في القضاء عليها.


بوكو حرام: الطريق من التمرد المحلي إلى بيعة داعش

شهد العام 2002 أول تأسيس لجماعة بوكو حرام في مدينة مايدوغوري شمال شرقي نيجيريا،كانت حركة تغيير اجتماعي مدعومة برجال الدين والقادة المحليين، ينادون بالقضاء على الفساد والبطالة. تعني «بوكو حرام» حرفيًا بلغة الهوسا المحلية: «التعليم الغربي حرام» وهو ما يشير إلى رفضها للثقافة الغربية وتمسكها بطرق التعليم التقليدية، ويبدو أنها كانت في ذلك معبرة عن ثقافة محلية متأصلة في المناطق التي بدأت تنتشر فيها.

انتمى أغلب مقاتليها إلى إثنية «الكانوري»، وهي قبيلة كبيرة تشكل أغلبية سكان ولاية بورنو بشمال نيجيريا، ولها امتدادات وفروع بالنيجر والتشاد والكاميرون، ويُقَدَّر عدد الكانوري بـ2.5 مليون نسمة.

وتتفاوت تقديرات المراكز البحثية بشأن عدد مقاتلي الجماعة، فمراكز البحث النيجيرية تذكر 30 ألفًا، وباحثون من جنوب أفريقيا يُقَدِّرون مسلحي بوكو حرام بـ15 ألفًا، ومراكز فرنسية تذكر 13 ألفًا، ويذهب مركز شاتام هاوس البريطاني إلى أنهم 8 آلاف، أما بعض التقارير الأميركية فتقدرهم بـ6 آلاف.

في العام 2009، وبعد أربعة أيام من أولى هجمات الحركة على مقار أمنية في مايدوغوري، تصورت السلطات النيجيرية أنها ستتنفس الصعداء أخيرًا بقضائها على زعيم الحركة «محمد يوسف» وسبعمائة من أتباعه، لكن الأيام كانت حُبلى بما هو أشد وأقسى، كان الزعيم الجديد «أبو بكر شيكاو» يتأهب لصبغ الحركة التي سيقودها بصفاته. عُرف شيكاو بعنفه المفرط، وبأنه زعيم لا يرحم، يتبنى أفكارًا متشددة جدًا، وبأنه رجل منعزل ومتناقض، ولا يعرف الخوف، ومستعد للتضحية بحياته من أجل معتقداته.

حوّل شيكاو الحركة من محض تنظيم محلي لا يُذكر، إلى عصابة حقيقية قادرة على القتل واكتساب الأموال، وقد زادت شهرة الرجل وجماعته في أبريل/نيسان 2014، حين أقدم مسلحون من الحركة في ولاية بورنو شمالي نيجيريا على اختطاف أكثر من مائتي فتاة من مدرسة محلية، وبعد أيام من التشكك، خرج شيكاو في شريط فيديو لا مبالٍ، مقهقهًا، وهو يعترف بخطف الفتيات: «خطفت الفتيات، وسأبيعهن في السوق وفق شرع الله»، الأمر الذي أثار ردود فعل محلية ودولية مزلزلة، وسطع بعدها نجم شيكاو وجماعته كرمز للقسوة وانتهاك المحرمات.

وقد شهد العام 2014 أيضًا تطورًا في تكيتيكات الحركة وسعيها للتوسع،فنقلت هجماتها إلى دولتي النيجر والكاميرون، اللتين تعتبران امتدادًا طبيعيًا وديمغرافيًا لولايات شمال شرق نيجيريا الثلاث التي نشأت الحركة فيها وترعرت.

وفي مارس/آذار 2015،خطفت الحركة الأضواء من جديد حين قرر زعيمها مبايعة تنظيم الدولة بزعامة البغدادي، و جاءت تلك «البيعة» بعد بيعات مماثلة أعلنتها مجموعات مسلحة في عدد من الدول الأفريقية والآسيوية، وهو ما نُظر إليه على أنه محاولة من شيكاو للاستفادة من زخم التنظيم ماديًا ومعنويًا للتوسع في منطقة غرب أفريقيا.


هل نجحت نيجيريا أخيرًا في سحق جماعة «شيكاو»؟

لم ينجح الجيش النيجيري -إلى اليوم- في القبض على أو قتل شيكاو، لكنه نجح في قتل عدد من القادة الذين يمثلون حلقات الوصل بين شيكاو والمقاتلين، والأهم أنه عزل بشكل كبير التنظيم عن التواصل مع داعش، كان هذا قبل أن تتمكن قوات بخاري من استعادة السيطرة على مدينة «مايدوجوري» معقل الحركة، وهو ما شكّل ضربة قاصمة لها.

حمل الأسبوع الأخير من شهر ديسمبر أنباءً سارة لمعارضي الحركة، إذ أعلن الرئيس النيجيري محمد بخاري أن جيش بلاده قد تمكن من القضاء بشكل كامل على جماعة بوكو حرام بعد سيطرته على معقلها الرئيسي في غابة «سامبيسا» شمال شرق البلاد، وأضاف بيان لبخاري أن السيطرة على معسكر كامب زيرو تعد «عملية السحق الأخيرة لبوكو حرام في آخر جيب لهم في غابة سامبيسا» التي تقع بولاية بورنو.

لكن شيكاو رغم ذلك قد أبى الاعتراف رسميًا بالهزيمة، فقد خرج بعد تصريح بخاري بأيام، في تسجيل مدته 25 دقيقة يحيط به مقاتلون مسلحون، ليدحض تصريحات بخاري. نفى الرجل تصريحات الرئيس النيجيري ووصفه بالكاذب، ونفى الأنباء المتجددة التي تحدثت عن مقتله، كما تعهد بمواصلة القتال، ولم يتضح بعد مكان تصوير التسجيل، لكن شيكاو الذي تحدث بالهوسا والعربية، قال إنه صُوّر يوم عيد الميلاد.

رُغم محاولة شيكاو إظهار الصمود، إلا أن الوقائع على الأرض تظهر أن الجماعة ينتظرها مزيد من الانحسار في المستقبل القريب، فخلال أقل من عام ونصف من رئاسته،نجح الرئيس النيجيري في إلحاق ما يمكن وصفه «هزيمة تقنية» ببوكو حرام، صحيح أن الجماعة لم تختفِ من الوجود تمامًا، لكن تدريجيًا وبفضل تضافر الجهود الإقليمية والدولية،لم تعد الجماعة قادرة على اكتساح مدن نيجيرية بالكامل والاستيلاء عليها كما السابق، واقتصر نشاطها على الهجمات الانتحارية بشكل أساسي.