محتوى مترجم
المصدر
aeon
التاريخ
2017/03/14
الكاتب
بين ميدلوك

من المغري أن نفكر في العقل كطبقة أرقى، ترقد على قمة تركيبات إدراكية أكثر بدائية. ففي نهاية الأمر نختبر أنفسنا ككائنات واعية، بطريقة تبدو مختلفة عن دقات قلبنا وقرقرة معدتنا. إذا كان من الممكن فصل وظائف المخ وترتبيها طباقيًا، فلربما استطعنا حينها بناء شيء مشابه للطبقة العليا فقط وتحقيق ذكاء اصطناعي مماثل للإنساني (Human-like artificial intelligence AI)، بينما نتجاوز الجسد الفوضوي الذي يميز أشكال الحياة العضوية.

باستطاعتي تفهم جاذبية وجهة النظر هذه، حيث ساهمت في تأسيس سويفت-كي SwiftKey، شركة برمجيات التنبؤ اللغوي predictive language software، التي اشترتها مايكرسوفت. حيث نهدف إلى محاكاة العملية المذهلة التي يمكن من خلالها للكائنات البشرية فهم اللغة ومعالجتها.

لقد حققنا تقدمًا لابأس به، فقد كنت فخورًا بشكل خاص بنظام التواصل الأنيق الذي قمنا ببنائه للفيزيائي «ستيفن هوكينج» بين عامي 2012 و2014. وعلى الرغم من النتائج المشجعة، أُذَكر، أغلب الوقت، أننا لسنا على مقربة من تحقيق ذكاء اصطناعي مماثل للإنساني.. لماذا؟ لأن النموذج الطبقي للإدراك مُخطئ. يفتقد معظم باحثي الذكاء الاصطناعي، حاليًا، إلى قطعة محورية من الأحجية: التجسد.

اقرأ أيضا:دعوا الذكاء الاصطناعي يتطور

أخذت الأمور منحنى خاطئًا في الخمسينيات، بداية عصر الذكاء الاصطناعي الحديث. حينما قرر علماء الحاسوب أن يحاولوا مضاهاة التفكير الواعي conscious reasoning، عبر بناء أنظمة منطقية logical systems مبنية على الرموز، تتضمن المقاربة ربط كيانات واقعية بأكواد رقمية لخلق نماذج افتراضية من البيئة، يمكن إسقاطها مرة أخرى على العالم الواقعي نفسه.

فعلى سبيل المثال، يمكنك تلقين الحاسوب أن «يتعلم» أن القطة حيوان بتكويد معلومة محددة باستخدام صيغة حسابية كـ (قطة<هي<حيوان). يمكن تحويل هذا النوع من الصيغ لتُكَوّن بيانات أكثر تعقيدًا، تُمكن النظام من معالجة واختبار فرضيات، مثل ما إذا كانت القطة العادية بحجم الحصان، وهل من الأرجح أن تطارد الفأر.

يستخدم التعلم الآلي مقاربة تسمح للخوارزميات بإدراك العلاقات عبر تكرار المهمات، كتصنيف الأغراض البصرية في الصور أو نسخ الحديث المسجل إلي نص

وجدت هذه المقاربة بعض النجاح المبكر في البيئات المختلقة البسيطة؛ في «SHRDLU»، العالم الافتراضي الذي شيده «تيري وينوجراد»، عالم الحاسبات الآلية بمعهد ماساتشوستس للعلوم والتقنية MIT بين الأعوام 1968 و1970. أمكن للمستخدمين توجيه الحديث للحاسب الآلي لتحريك قوالب بسيطة، كالمخاريط والكرات. اتضح أن المنطق الرمزي symbolic logic غير وافٍ، وقاصر عند مواجهته بمشاكل العالم الواقعي، حيثما انهزمت الرموز الدقيقة أمام التعاريف المبهمة، وما لا يُعد ولا يُحصى من مختلف التأويلات.

انتقل الباحثون، بعد نمو قوة الحوسبة في العقود الأخيرة، لاستخدام الإحصائيات لاستخراج الأنماط من بين كميات مهولة من البيانات. يُشار إلى هذه الأساليب، في الغالب، بالتعلم الآلي machine learning. يستخدم التعلم الآلي مقاربة تصاعدية من أسفل لأعلى bottom-up، تسمح للخوارزميات بإدراك العلاقات عبر تكرار المهمات، كتصنيف الأغراض البصرية في الصور أو نسخ الحديث المسجل إلى نصٍ، بدلًا من محاولة برمجة الصورة النهائية للمعرفة وللتفكير المنطقي.

يُمكن لمثل هذا النظام تعلم التعرف على صور القطط، على سبيل المثال، عن طريق النظر إلى ملايين من صور القطط، أو صنع اتصال ما بين القطط والفئران، بناءً على الكيفية التي يُشار بها إليهم خلال كميات ضخمة من النصوص.

نتج عن التعلم الآلي العديد من التطبيقات العملية المذهلة خلال السنوات الأخيرة. فتمكنا من بناء أنظمة متفوقة علينا في التعرف على الكلام speech recognition، معالجة الصور الرقمية image processing وقراءة الشفاه. يمكنها التغب علينا في لعبة الشطرنج، جيبوردي Jeopardy، ولعبة جو Go. كما تقوم بتعلّم صنع فنون بصرية، تأليف الموسيقى، وكتابة البرمجيات الخاصة بهم.

تحاكي هذه الخوارزميات ذاتية التعليم، إلى درجة ما، ما نعرفه عن عمليات المخ العضوي اللاواعية. تبدأ خوارزميات التعلّم الآلي بـ «سمات» بسيطة (كحروف فردية أو بكسلات على سبيل المثال)، تُجدّلهم في «فئات» أكثر تعقيدًا، آخذة في الاعتبار، عدم اليقين والغموض الجوهري في بيانات العالم الحقيقي. يماثل هذا ، إلى حد ما، القشرة البصرية visual cortex، التي تستقبل الإشارات الكهربائية المرسلة من العين منفردة وتقوم بتفسيرها والتعرف عليها كأنماط وأغراض.

مازالت الخوارزميات على مسافة بعيدة من القدرة على التفكير مثلنا. حيث تمنحنا بيولوجيتنا المتطورة وكيفية معالجتها للمعلومات أكبر مميزاتنا. تتكون الكائنات البشرية من تريليونات الخلايا حقيقية النواة eukaryotic cells، التي ظهرت لأول مرة في السجل الأحفوري منذ حوالي 2.5 بليون سنة.

فالخلية الإنسانية مثال مذهل للآليات المدمجة في شبكات، فهي تحتوي على عدد مكونات طائرة بوينج 747 عصرية نفسه، نتج كل هذا عن التحام ضمنّي طويل الأمد مع عالم الطبيعة. كتب «جون مكفي»، في أول أعماله الحوض والسلسلة (Basin and Range – 1981):

إذا ما وقفت مادًا ذراعيك على مصراعيهما تمثيلًا لجامع تاريخ الأرض، لم تبدأ الكائنات العضوية المعقدة تطورها إلا عند رسغك البعيد، لكن، بضربة واحدة من مبرد أظافر متوسط الحبيبات يمكنك أن تمحو التاريخ الإنساني.

يقترح المنظور التقليدي لعملية التطور أن تعقيدنا الخلوي بدأ من الخلايا حقيقية النواة البدائية، عبر طفرات واختيارات وراثية عشوائية. لكن في عام 2005، أوجز «جايمس شابيرو»، الأَحيائِي بجامعة شيكاجو، سردية جديدة راديكالية، تقضي بأن الخلايا حقيقية النواة تعمل «بفطنة» لتُأقلم الكائن العضوي المضيف على بيئته عن طريق التلاعب ببنية الحمض النووي خاصته، كاستجابة للمحفزات الخارجية.

فعلى سبيل المثال، يميل جهاز الثدييات المناعي إلى نَسخ تسلسلات من الحمض النووي، لتخليق أجسام مضادة فعالة يمكنها مهاجمة الأمراض، ونحن نعرف، بالفعل، أن 43 بالمائة من الجينوم البشري human genome مُكون من تسلسلات أحماض نووية يمكن نقلها من مكان لآخر، عبر عملية تُعرف بالهندسة الوراثية الطبيعية natural genetic engineering.

الانتقال من خلايا ذكية ذاتية التنظيم إلى المستوى المتقدم من الذكاء العقلي الذي يهمنا هنا قفزة واسعة للغاية. لكن المغزى، أنه قبل زمن طويل من تطورنا إلى كائنات واعية مُفَكِرة كانت خلايانا قادرة على قراءة البيانات من البيئة والتفاعل معها، لقولبتنا إلى عناصر قائمة بذاتها وقادرة على الصمود.

إذن ليس ما نعتبره ذكاءً، ببساطة، مجرد استخدام الرموز لتمثيل العالم بهيئته الموضوعية. لكن على الأحرى، منظورنا للعالم يمثل فقط ما كُشِفَ لنا منه، كجزء متجذر في احتياجاتنا المتطورة المدمجة ككائنات عضوية. كتب أنطونيو داماسيو، عالم الأعصاب في خطأ ديكارت (Descartes Error 1994) كتابه الرائد عن الإدراك المعرفي:

لم تشيد الطبيعة جهاز العقلانية فقط على قمة جهاز التنظيم البيولوجي، بل أيضًا منه ومعه.

بصياغة أخرى: نحن نفكر بجسدنا كله، ليس فقط بمخنا.

الحاجة الجوهرية الملحة للحفاظ على بقاء الجسد وسط عالم غير آمن، في ظني، هي قوام مرونة وقوة الذكاء الإنساني. للأسف، لم يتبنَ إلا عدد قليل من باحثي الذكاء الاصطناعي مُستنتجات هذه النظريات. استنتاج الأنماط من وسط مجموعات ضخمة من البيانات التدريبية، هو الدافع المحفز وراء أغلبية خوارزميات الذكاء الاصطناعي، لذا قد يتطلب الأمر ملايين، ربما حتى بلايين، من صور قطط متفرقة لاكتساب درجة عالية من الدقة في التعرف على القطط.

على النقيض، تحمل الكائنات البشرية بداخلها، بفضل احتياجاتنا ككائنات عضوية، «نماذج» ثرية مذهلة للجسد في بيئته الأوسع. فنحن نعتمد على خبراتنا وتوقعاتنا للتنبؤ بالنتائج المحتملة لعدد صغير نسبيًا من العينات الملاحظة. لذا عندما تفكر بشرية في قطة، يمكنها غالبًا تخيل طريقتها في الحركة، سماع صوت خرخرتها، الشعور بالخدش الوشيك من مخلب مُستَل. فبحوزتها مخزون غني من المعلومات الحسية، يُمَكنها من فهم فكرة «القطة» ومفاهيم أخرى ذات صلة، تساعدها على التفاعل مع مثل هذا المخلوق.

بمعنى، عندما يُقبل الكائن البشري على مشكلة جديدة، فقد تم إنجاز أغلب الجزء الصعب بالفعل. حيث قام جسدنا ومخنا، بداية من المستوى الخلوي فأعلى، ببناء نموذج للعالم بطرق بدأنا فقط في فهمها الآن. يمكننا تطبيق هذا النموذج على نطاق واسع من التحديات على الفور تقريبًا.

لكن لخوارزم الذكاء الاصطناعي، تبدأ العملية من الصفر في كل مرة. هناك خط مهم وفعال من البحث يُعرف بـ «النقل الحثي inductive transfer»، يركز على استخدام المعرفة السابقة المكتسبة من التعلم الآلي للتوصل إلى حلول جديدة. لكن، بالنظر إلى واقع الحال، إذا ما كانت هذه المقاربة قادرة على تحقيق ما يشابه ثراء نماذجنا الجسدية، فهذا موضع للكثير من الشك.

حذر هوكينج، أثناء مقابلة مع البي بي سي BBC، من احتمالية قضاء ماكينات الذكاء الاصطناعي على الإنسانية، في اليوم نفسه الذي كشفت فيه سويفت كي نظام التواصل المُصمم خصيصًا لهوكينج عام 2014. بمقدرتك أن تتخيل أي خبر منهما هيمن على عناوين الصحف.

أتفق مع هوكينج حول أهمية أخذ مخاطرة تطور ذكاء اصطناعي شريد بجدية. لكنني كذلك أومن أننا مازلنا بعيدين عن الحاجة إلى القلق حول تطور ما يقترب من الذكاء الإنساني، وفرصتنا في تحقيق هذا الإنجاز ليست بكبيرة، إذا لم نفكر كيف يمكننا أن نُعطي الخوارزميات نوعًا من علاقة متجسدة، طويلة الأمد مع بيئتها.

Aeon counter – do not remove
Aeon counter – do not remove