قلب طفولي يجلس وحيدا في الظلام محتميا من الخوف بالنغمات.. يخادع هواجسه ومخاوفه، يكذبها ويتجاهلها حتى يدق الباب فجأة.. تتوالى الضربات قصيرة ومتلاحقة تليها ضربة طويلة، ويفتح الباب.. يقف القدر بعينيه الحادتان النافذتان يتطلع إلى ضحاياه بنهم.. يفزع القلب وتسكنه الرهبة وتفر النغمات هاربة، تركض بعيدا عن العذاب والظلام والخوف، تتعثر وتتخبط وتسقط، تنهض وتواصل محاولة الهروب، تتوقف لحظات لتسترجع أنفاسها، ثم تنصت فتستمع إلى أصوات سماوية، فتنظر حولها لتجد النور ينفجر من ورائها حتى يصل إليها ويغلفها ويدور حولها حتى تتلاشى.. انتصر القلب على القدر وانبعث النور حاملا النغمات نحو الخلود..

لمدة خمس سنوات هي عمر الحرب العالمية الثانية كان هذا اللحن هو إشارة الحرية للشعوب المحتلة تحت أقدام النازية، ومن ثم أصبحت دقات تلك السيمفونية، القصيرة المتلاحقة، والطويلة.. دقات الإنسان المنتصر دائماً، أصبحت تدل على الحرف (V) الإنجليزي في اختراع العالم موريس لآلة التلغراف، لتعبر عن أول حرف في كلمة النصر (فيكتوري).

السيمفونية هي غضبة إنسان مستضعف حيال الظلم والقهر والكبت والخوف والقدر، حتى يصل إلى الحرية المطلقة والخلاص الأبدي. ملحمة صراع وشجاعة تنتهي بانتصار الإرادة والأخلاق؛ انتصار الإنسان اللاأوديبي، وانتصار إنسان نيتشه الذي قال عنها: «إن السيمفونية تحمل جميع المشاعر الإنسانية السامية».

قضى بيتهوفن أربع سنوات في كتابة السيمفونية وكانت أول تعبير عن نضوج عبقريته. كتبها بعد ضربة القدر باحتجاب الأصوات والنبرات عنه، صُم بيتهوفن وتم نفيه من عالمه، عالم النغمات والهمسات، إلى عالم آخر لا يعرفه؛ عالم صامت تخترقه أصوات غريبة صادرة من فجوات روحه وقلبه. جذبته تلك الأصوات، اختلى بها واكتفى عن العالم. صدرت تلك النغمات مغلفة بحجاب صوفي روحاني مما حمل أهل الباطنية والثيوصوفية في الغرب على ضم تلك السيمفونية إلى موسيقاهم وأطلقوا عليها (سمفونية الكارما)؛ والكارما منسوخة عن الهندية بمعنى اتصال العلة بالمعلول والأسباب بالمسبب.

وقد وصف فاجنر تلك المرحلة من فن بيتهوفن بما يلي:

صم بيتهوفن فتلاشى العالم حياله، هو الذي لم يكن يصله بأرض غير حاسة السمع فيها، كان يعيش بعد انقطاعه عن كل ماعداها. أيمكن أن يكون في العالم موسيقى بلا سمع؟ وهل في وسع إنسان أن يتخيل رساما بلا نظر ومصورا بلا أصابع ولا يد؟ على تلك الحال ودون أن تقلقه جلبة الحياة، يقبع بيتهوفن متفرغا للإنصات إلى ما يدوي ويترنم في صميم ذاكرته، مساجلا عالما لا يخلقه له أحد. عالما يعيش في رجل! بصر الموسيقى وسمعه يتحولان إلى بصيرة ترى أشياء من الداخل. فيكلمه جوهر البرايا ويناجيه ضمير الوجود ويتكشف له ضياء الجمال الهادئ. أصبح يفقه سر الغاب والنهر والروض والأثير الأزرق، والجماهير المبتهجة، وغرام العشاق، ونشيد الطيور، وسوابح الغيوم، وزئير العاصفة ولذاذة الهناء. وفي هذا الوقت وفي هذا الصفاء العجيب تنتشر عبقريته في كل ما يتخيل، تتغلغل في كل ما يرى.
ويتحدث عن السيمفونية الخامسة تحديدا فيقول:
لقد بسط في هذه السيمفونية الخامسة فكره المكنون، وآلامه المبرحة، وغيظه المكتوم، وأحلامه المتأثرة بانكسار القلب والقنوط الكئيب. قصيدة وجيعة. بل مرثاة قبل الموت لرجل يحتجنه مقدور عنيد، وكل مغامرة في سبيل الخلاص باطلة. وحياة الرجل تنقضي يوما بعد يوم بين التمرد والامتثال. إلا أن يده ما فتئت مجاهدة، وجبهته عالية، ووجهه في مصابه يقابل وجه الشمس. ريثما يختم هذه المصنفات التي لا مثيل لها بنشيد جبار للمجد والانتصار تكسر فيه روح الملحن قيودها وتطير سنية متبلجة إلى النعيم.

انتصر بيتهوفن على معظم الصراعات التي خاضها، إلا أنه وقف عاجزا أمام صراعين: الوحدة والمرض. فانتقل بسبب الوحدة من سكن إلى سكن ما لا يقل عن ثمانين مرة وعاش في قذارة مستفحلة مع أشهر دلو في التاريخ، والذي وضعه أسفل البيانو الكبير الخاص به ليتبول فيه. وبعدما أصابته مأساة الصمم وقد كانت أحلامه وطموحاته ما زالت في أوجها، فاختلطت بكبريائه وتمرده الزائدين والذين كانا واضحين في رسالته لأحد الأمراء: «أيها الأمير.. إن مكانتك وإمكانياتك ترجع إلى الحظ، وإلى الوراثة، ولكن أنا أختلف، لأن مجدي ينبع من نفسي، ولا يوجد سوى بتهوفن واحد».

رأى أنه لا يستحق كل ما أصابه ونقم على كل شيء، على الحياة والبشر والسماء. وولّد العذاب الروحي والنفسي عنده ينبوعا من الحسرات والكروب والآلام، كان مصدرا لطاقته الإبداعية، التي بلغت أوجها في السيمفونية التاسعة عندما ارتفع عن الانتصار الفردي القوي الكاسح ضد القدر، إلى انتصار إنساني جماعي حكيم، اتحاد وتناسق وتكامل مع البشر وبقية عناصر الكون.

اجتمعت الآلام واليأس والغموم على بيتهوفن واختلطت مع الآراء الثورية المنتشرة في جميع أنحاء أوربا، فضعف إيمانه وتحول عن مذهبه الكاثوليكي. غير أنه عاد بعد ذلك إلى الإيمان والامتثال بفعل اﻷلم نفسه، وصفت روحه صفاء روحانيا بديعا ظهرت في تلحيناته الأخيرة حيث تحدث عن الله وعن الإخاء الانساني. وخط على أحد دفاتره:

إلهي، عضدي، وملجأي الوحيد.. أنت تقرأ في هاوية نفسي وتعرف ما أكابده من الحسرة والمضض. فاصغ إلي أيها الكائن الذي أحار في تسميته، واستجب الصلاة الحارة المرسلة إليك من أشقى خلائقك وأتعس بني الانسان.
وكتب مرة أخرى يقول:
رباه.. إن نظرك من الأعالي يتغلغل إلى مجاهل ضميري وخفاياه، وأنت بقلبي عليم.. إنك تدرك بأن هذا القلب المتفطر لم يخفق قط إلا بحب بني الإنسان وبالرغبة في الخير والصلاح.

يقال إن الموسيقار الكلاسيكي الرومانسي يتحدّى القدر في شبابه، ثم يقصف القدر عمره في كهولته وشيخوخته.. وهذا ماحدث مع بيتهوفن وتشايكوفسكي من بعد.

فبعد سنوات من كتابة سيمفونيته، أصيب بيتهوفن بمرض في الكبد، علم عنده بإن نهايته قد أصبحت وشيكة. وفي يوم 24 مارس/آذار 1827 وصلته هدية من نبيذ الراين، علق عليها بقوله: «واأسفاه، لقد وصلت متأخرة». ثم قال: «هللوا أيها الأصدقاء، فقد انتهت المهزلة» وفقد الوعي حتى يوم 26 مارس/آذار حيث هبت عاصفة عظيمة وعلا دوي الرعد ولمعان البرق، فرفع رأسه وفتح عينيه.. ثم أغمضهما إلى الأبد.

ووجد بين أوراقه بعد وفاته وصية بالغة في التأثير، عكست حزنه وضعفه الذي كان يواريه دوما، ويقول فيها:

اعلموا أنتم الذين ترمونني بالكراهة والمرارة، وتجيزون علي نعوت التوحش والشكاسة، إنكم في هذه التهم أظلم ما تكونون. إنكم تجهلون اﻷسباب الخفية التي تضطرني إلى الانفراد والظهور بمظهر الوحشة والنفور. ذلك أن قلبي وفكري متعطشان إلى الرفق منذ نعومة أظفاري، وبي توق يدفعني دوما إلى تخيل أشياء عظيمة نبيلة والسعي إلى تحقيقها. وفوق جميع آلامي ومصائبي فجعت بسمعي في علة لا أرتجي منها الشفاء ولا يزيدها الأطباء إلا تفاقما. وعاما بعد عام أرى آمالي في تهدم وانهيار. لقد جئت العالم بنفس حارة، وروح مشتعلة، ومزاج رقيق حساس، فصدمتني الأحوال واقتسرتني على أن أسجن نفسي في العزلة وأن أفني حياتي في الوحدة والانزواء

ربما جعل ذلك البؤس والحرمان والوحدة وفقدان الحب والأمل – جعلوا من حياة بيتهوفن كابوسا لا يطاق. ولكن لولا ذلك لم تكن أنغامه لتكتسب ذلك التفرد الذي يجعلها أقرب إلى جميع النفوس البشرية، وتلك الشمولية في تضمين موسيقاه لكافة المشاعر الانسانية. كانت تلك العذابات ضرورية لإخراج ذلك الفن.. ولكن هل كان بيتهوفن نفسه ليقتنع ويوافق على ذلك؟!!