الأصل في الكتابة الإبداعية أنها جنوحٌ للخيال، ولمّا كان الواقع مأزومًا ومربكًا لجأ الكثيرون إلى إعمال خيالهم فيما يمكن أن يكون عليه عالمٌ يريدونه أو يحبونه، كما لجأ آخرون إلى محاولات عدة لعكس ذلك الواقع وتصويره والكشف عنه بكتابتهم الأدبية، ولكن بقي الخيال سماءً مفتوحةً قادرة طوال الوقت على تقديم الجديد والمفارق، وبقي عددٌ من الكتّاب يصبون إلى تلك المساحات الخاصة الفريدة، يسعون جاهدين لاكتشافها والتعرّف عليها وتقديمها لقارئٍ مختلف، لا يسعى لمتعة عادية أو قصص تقليدية، وإنما يصبو دومًا إلى ذلك النوع النادر في الخيال والتجريب المفتوح.

في روايته الجديدة «سيرة سيد الباشا» يواصل «أحمد الفخراني» بناء عالمه الروائي الخاص به تمامًا، ذلك العالم الذي كشف عن تفاصيله منذ أربعة أعوام بروايته الأولى «ماندورلا» التي حصلت على جائزة «ساويرس» في الرواية مؤخرًا، والذي ينهض على الاحتفاء بالحكاية الفانتازية بشكلٍ مفارق، آخذًا تفاصيله الغريبة من الواقع اليومي الذي نتعامل مع بكل بساطة.

في هذه التجربة المختلفة والجديدة يأخذنا «الفخراني» إلى عالم «الألعاب الإستراتيجية»/«ألعاب الكمبيوتر» التي يعرفها الكثيرون، ولكنه ينطلق من عالم هذه الألعاب للواقع ليس إسقاطًا عليه أو تمثيلًا له، وإنما على اعتبار تحوّل تلك الألعاب إلى حقائق وعوالم موازية، يبحث فيها اللاعبون عن «المجد» و«الشهرة»، بل السيطرة على «الكون» من خلال جمع النقاط والحصول على عملة اللعبة التي سمّاها «الأمبروزيا»

لا يمكن اختزال الرواية ولا اختصارها، ولا حكايتها أصلاً بهذا الشكل، بل إني أعتقد أن ثمّة تحديًا حقيقيًا أمام القارئ يتمثل في قدرته على التعبير عن رواية كهذه وعالم مختلق بالكامل، صادم في أحيانٍ كثيرة، غير متوقع، وهو مع ذلك ممتع، ويمتلك قدرة عالية على جذبك لتفاصيله، ومواصلة رحلة بطل روايته العجيب «سيد الباشا» الذي ليس سيدًا وهو قطعًا ليس باشا، ولكنه يعمل فيما أسماه «هيئة الأمن القومي للكوكب»، ويطمح في أن يحصل أخيرًا على رتبة «مشاء عظيم»، وتبدأ الرواية بالاحتفال بتوليه هذا المنصب، ذلك الاحتفال الذي يبدو أنه لا يتم أبدًا!

رسبت في كلية التجارة عدة مرات، فشلت في كل المهن السهلة، وتلك التي لا تطلب موهبة إلا القدرة على فعل شيءٍ ما بآلية، لم أنجح في بيع شيءٍ من علب التونة إلى الأقلام الرصاص، لم تفلح في نجدتي كورسات «الوفوتشوب» أو صيانة الموبايل، أو فيديوهات التنمية البشرية على «يوتيوب»، لم يشعل أي شيءٍ حماسي بعد انتكاساتٍ متتالية، وكدت أؤمن أني ربما كنت كما يراني أبي فاشلاً بالفطرة. لعبة «شمس المعارف» كانت نجدتي الحقيقية، الشيء القادر رغم رتابته على إشعال حماسي وإشعاري أني قادر على التفوق في شيءٍ ما خاصة بعد أن ظهرت براعتي في اللعبة بين آلاف اللاعبين.

منذ البداية نحن إزاء حكاية رئيسية يرويها «سيد الباشا» بنفسه وعن نفسه، وتتقاطع معها حكايات أخرى متشابكة تدور رحاها في ذلك العالم الذي يعيشه، والذي يجمع بين الفانتازيا والواقع في أحداثه وشخصياته، بل يجمع حتى بين الشخصيات التاريخية (مثل محمد علي) والشخصيات الكارتونية (مثل ديزني)، ولكن الملاحظ أن الشخصيات هنا تحضر بأسمائها وبجزء من خلفياتها المعروفة، ولكنها تبقى طوع أمر السارد وتصرفه، وحركة الرواية التي تعتمد طوال الوقت على تفكيك الصور وإعادة تركيبها بشكل مختلف ومبتكر، يفاجئ القارئ باستمرار، ويجعل توقع الخطوة التالية أو الحدث التالي أمرًا بعيد المنال!

ولكن الرواية لا تعتمد فقط على تلك الحركة، أو ذلك اللعب، بل تلجأ بشكل أساسي إلى تفكيك المقولات الكبرى مثل الأهداف، والغايات، والثورات، والحقائق، بل حتى محاولات السيطرة على العالم التي تحدث بوسائل عديدة أكثر من مرة ويبدو أن فيها خططًا محكمة، يفاجئ القارئ بأنه يتم التصدي لها بطرق أخرى تبدو أكثر عبثية وبساطة من كل الخطط والمؤامرات الكبرى التي تحاك للمواجهة!

كان كل شيء آمنًا عندما أخرج القزم الأصلع عصا حطّم بها زجاج المحل الكبير، رغم الخضة التي شعر بها العاملون والمارّة من صوت تحطم الزجاج فإن شيئًا بديهيًا جعلهم على يقين أن التحطم المفاجئ للزجاج على يد قزم أصلع سيكون تحت السيطرة.. سيمسكونه قبل أن يحطم التلفزيونات كما ينوي، يضربونه وينتهي الأمر… القزم الأصلع فاجأ الجميع، عبر فراغ الزجاج المكسور وبدأ أكل التلفزيونات من الأصغر إلى الأكبر. كان جسده يتضخم مع كل تلفزيون يأكله حتى تحوّل إلى قزم أصلع عملاق يمضي بعيدًا ليواصل حياته في هدوء بعد أن تأكد من أن لا أحد يستطيع الاقتراب منه. انفجر رأسه، نبتت مكانه شاشة كبرى، جرى فزعًا، حطّم السيارات في طريقه، لكنه كلما ركض أكثر كان الفزع يختفي ويحل محله الشعور بالقوة الجديدة التي يحملها.

والمفاجأة التي يصل إليها القارئ مع كل مشهد من مشاهد الرواية أن ثمة أحداثًا تخلق نفسها وتتوالد باستمرار، وثمة خيال منطلق فعلاً لا تملك له لجامًا، ولعل هذا أحد أهم أسباب الكتابة ومهارتها عند «الفخراني»، وهي التي يدركها تمامًا، ويعلم أنها قد لا ترضي قراءً كثيرين، اعتادوا على قصة بحبكة مفهومة إلى حدٍ ما، وبأحداث تفترض تسلسلًا ما، أو على أقل تقدير تحمل تأويلاً خاصًا، فكرة التأويل التي لا شك ستفرض حضورها على الرواية، ولكن الأحداث والمواقف التي تدور فيها الرواية ستضرب كل تلك التأويلات في مقتل!

هنا كتابةٌ لا تصبو إلا إلى خلق متعتها الخاصة من خلال عالمها، من خلال تلك الحكاية التي لا تعرف لها بداية من نهاية، وتستحضر أشخاصًا تضيع دلالة اختيارهم، مثل الفنان «مجدي وهبة» مثلاً الذي يحضر ويحتل مكانًا بارزًا في السرد، بل يأتي في لحظة ليكون غريمًا مقابلاً لبطل الرواية «سيد الباشا» في صراعه مع حبيبته «يوليا»، ومثل شخصية «فاروق علي» الذي وصفه بكونه «الرجل الذي لا يتوقف عن الكلام» وخصص له فصلاً في الرواية، وجعل له مسارًا خاصًا في تفاصيل الرواية.

كذلك يبدو «الفخراني» على وعي تام بكتابته والحالة التي يضع فيها القارئ، ولذا فلا عجب أنه يشير في حواره مع «أحمد شوقي» في موقع «المدن» إلى أنه «لا يخشى القارئ» وأن كتابته تنطلق من تجربة منعزلة لحدٍ ما عما يمكن أن نطلق عليه «سلطة القارئ» التي يراها ضارة في كثير من الأحيان، إذ إن غيابها عنه يمنحه قدرًا من التطوير والتجريب بلا خوف أو تشنج، على حد تعبيره.

والرواية تقسّم إلى عشرة فصول، تحمل ثلاثة فصول منها اسم «الحفل» باحتمالاته المختلفة، وفيها يلعب السارد والبطل مع توقعات الحدث بصورٍ مختلفة ومتباينة، وفي ثلاثة فصولٍ أخرى نجد أقسامًا لحكاية «سيرة سيد الباشا»، يقسمها من العادية إلى العظمة، ثم من العظمة إلى الفضيحة، ثم «شمس المعارف» تلك اللعبة التي غرق فيها «سيد الباشا» وأصبحت عالمه.

وبين هذا وذاك يضع «الفخراني» عددًا من «الحكايات» المهمة التي تتصل بسيرة سيد الباشا/البطل في جانبٍ منها وتنفصل عنها في الوقت نفسه، إذ نجد «حكاية الرجل الذي لا يتوقف عن الكلام»، و«عرض سماوي لإله»، و«الهبة»، وغيرها، وتبدو تلك الأقسام بعناوينها عوامل أخرى تضيف بعدًا بنائيًا آخر في الرواية، إذ يبني الحكايات وفقًا لتسلسلٍ خاص في هذه الفصول، وفي الوقت نفسه يلفت انتباه القارئ إلى أجزاء قد تغيب عنه في القراءة العادية أو العابرة.

قال القزم الأصلع: ربما لم تكن موهوبًا أصلاً .. ربما أنت محض ملعون، مريضٌ كهؤلاء الكتبة، الرسامين، المخترعين، أو أيًا ما كانت صفاتهم، ربما هم مرض العالم لا شفاؤه، منهم أدركنا المعرفة. من قال إنها حقيقة؟ من قال إن العالم هو ما رأوه أو أن الجمال هو ما أنتجوه؟ ربما العالم كما رأيته أنا.. تافهٌ حد أن إتقان السعادة تجاوز الليل والنهار هو نداؤها الوحيد، الموهوبون هم أداة تشويش الحقيقة .. لقد دفن الكتبة، الرسامون، المخترعون الحقيقيون أو أيًا ما كانت هوياتهم، أزيحوا إلى صف غريبي الأطوار… نحن لا نعرف سوى شكسبير، أديسون، بيكاسو، ديزني، كلهم خادمون في محراب «هيئة الأمن القومي» للكوكب تأثيرهم الطاغي يحاصر الحقيقة.

هكذا تسعى الرواية إلى تقويض المعارف والأفكار التي تشكّل العالم، وتخلق لنفسها أفكارًا ومعارف وعالمًا مغايرًا تمامًا، وتنجح بفرض سيطرته على القارئ بخيالٍ غير محدود، وهكذا تمثّل هذه الرواية ـ في الوقت نفسه ـ خطوة مهمة في عالم «أحمد الفخراني» الروائي شديد الخصوصية والتميز.