محتوى مترجم
المصدر
Jacobin
التاريخ
2017/04/03
الكاتب
سامويل إيرل

تعد السلطوية، في الخطاب الشائع، هي النقيض الدراماتيكي للرأسمالية الليبرالية. ولا تظهر الاختلافات المزعومة بينهما بشكل أكثر بروزًا بقدر ما تظهر في توجهات كل منهما فيما يخص الخصوصية الفردية. فبينما يُعد منزل الشخص في العالم الرأسمالي الليبرالي هو قلعته الخاصة؛ ما هو في النظم السلطوية إلا قفص آخر تراقبه الدولة.

ومع ذلك، تختفي اليوم الخصوصية في الديمقراطيات الرأسمالية المتقدمة. وتتولى الشركات متعددة الجنسية –والتي ترفع شعارات الشفافية الكاملة- مهمة الهجوم.

في عام 1999، أعلن سكوت ماكنلي، المدير التنفيذي لشركة Sun Microsystems بعد ذلك: «أنتم لا تملكون اليوم أي خصوصية، تجاوزوا الأمر» .

وحذّر المدير التنفيذي لـGoogle إيريك شميت: «إذا أردتم ألا يعرف كل الناس شيئًا ما، ربما يجب عليكم ألا تفعلوه من الأصل». وقرر مارك زوكربرج، سادس أغنى رجال العالم، أن الخصوصية لم تعد معيارًا اجتماعيًا، و«نحن أيدنا ذلك»، بينما تفاخر أليكساندر نيكس، من شركة البيانات Cambridge Analytica الشهيرة بتوظيف بريكست وترامب لها في حملاتهم: «قمنا بعمل سيرة ذاتية لكل فرد بالغ في الولايات المتحدة الأمريكية».

وهذه الأيام، لا يمكن التمييز بين خطاب الرأسماليين الخاصين، وبين خطاب طغاة الدول. لقد تم الخلط بين نصوص كل منهما. «لقد» كان يتم دومًا تضخيم الاختلافات «بين الخطابين»، وإن لم يكن من الممكن تخيلها، كان يمكن على الأقل الاعتماد عليها للحديث بشكل مختلف. فماذا تغير؟


الرابطة المتبخرة

من المفترض أن تحمي الرأسماليةُ الخصوصيةَ الفردية باعتبارها نظامًا اقتصاديًا قائمًا على مفهوم المجال الخاص المتكون من أفرادٍ خصوصيين لديهم ملكيات خاصة ويحققون أرباحًا خاصة في أسواق خاصة. فتضمن حرمة المجال الخاص الحرية القصوى للفرد، باعتباره مُنتجًا ومُستهلكًا تحرر من كل التدخلات غير المرغوب فيها من قبل الدولة وجيرانه المتطفلين.

لقد انتقد دومًا مناهضو الرأسمالية ميلها لتقعير كل فرد ودفعه إلى فقاعاتهم الخاصة، بينما يحتفل داعموها بهذه التذرية atomization. فكما كتب آين راند عام 1943 أن «الحضارة هي التقدم نحو مجتمع الخصوصية. والهمجي يقع وجوده بكامله في المشاع، الذي تحكمه قوانين قبيلته. فالحضارة هي تحرير الإنسان من الإنسان».

ومن هذا المنظور، أدى اعتماد الرأسمالية على المجال الخاص، والخصوصية الناشئة، إلى جعلها أعظم مُمدني العالم.

إلا أنه بدءًا من السبعينيات، بدأت الرابطة بين الرأسمالية والخصوصية الفردية تضعف.

وفي عام 1977 عرض الفقيه القانوني اليميني ريتشارد بوزنر «النظرية الاقتصادية للخصوصية»، والتي نشرها في النهاية في ورقة بحثية عام 1984. والتي ناقش فيها أن الخصوصية الفردية تُعيق الرأسمالية من خلال تعطيلها للانسياب الحر للمعلومات التي تحتاجها الأسواق كي تعمل بكفاءة. وختم بوزنر بأنه «لا يحق للناس في أي حال – من ناحية اقتصادية – أن يخفوا حقائق مادية عن أنفسهم».

كان بوزنر يكتب في Chicago Unbound، مجلة القانون الخاصة بجامعة شيكاغو، والتي كانت مركز العاصفة النيوليبرالية التي كانت تنتشر حول العالم. وكان ميلتون فريدمان أحد أقرب زملاء بوزنر، ويتم التعامل كثيرًا مع بوزنر نفسه باعتباره منضويًا تحت لواء مدرسة شيكاغو.

وكانت جذور بوزنر الرأسمالية، مع تمجيدها اللانهائي للخصوصية الفردية، هي التي جعلت مناقشاته ضد الخصوصية أمرًا صادمًا. فقد تم الإفصاح عن كون العلاقة الغرامية القائمة بين الخصوصية والرأسمالية، والتي سلّم بها الليبراليون المسالمون، من أضعف العلاقات، فقد كانت زواجًا مصلحيًا لم يعد مُجديًا.

وفي العصر الرقمي، تحولت هذه العلاقة إلى أكثر العلاقات سوءًا. فقد نشأ نوع جديد من الرأسمالية على الإنترنت، يُشار إليه بأشكال متنوعة: الرأسمالية المعلوماتية؛ الرأسمالية الرقمية؛ أو رأسمالية المراقبة. تُعد البيانات الشخصية هي شريان حياة الاقتصاد الجديد، فالشركات تجمع بيانات مستخدميها لتبيعها للمُعلنين وتحقق العوائد. وكلما عرفت الشركات أكثر عن الأفراد، أصبحت أكثر قدرة على توجيه إعلاناتها، وتنشيط «أسعار التحويل»، وجمع الأرباح.

وبكل ثقة، هناك الكثير من المال لجنيه. ففي الربع الثالث من 2016، تم إنفاق 17.6 بليون دولار على الإعلان الرقمي، تنتج 20% منها عن العام الماضي.

وكوّنت جوجل مع فيسبوك احتكارًا ثنائيًا في هذه البيئة الجديدة، مسئولًا عن تقريبًا منتصف الإجمالي: فقد كان الاثنان معًا مسئولين عن 99% من نمو العام الماضي الذي بلغ 2.9 بليون دولار.

ومن خلال هذه العملية، أصحبتا أسرع الشركات نموًا في تاريخ الرأسمالية، بقدرتها على جمع ومراقبة وبيع بيانات العملاء بطرق كانت الشركات الأخرى لا تستطيع إلا مجرد تخيلها. وأصبح صافي رأس المال لهما معًا يساوي 800 بليون دولار، أي أكثر من الدخل القومي الإجمالي لدولة هولندا.

ويُظهر نموذج الأعمال الخاص بهما أنه في الرأسمالية المعلوماتية، لم تعد الخصوصية تُعيق تحقيق الربح، بل تمنعه. فالاعتقاد في كون الأفراد يجب أن يُسمح لهم بالسيطرة على بياناتهم الشخصية أصبح يُناقض طريقة تحقيق الربح الرأسمالية.

فعلى عكس حماية الأفراد الخصوصيين من التدخلات الخارجية، كما تخيل آين راند، تريد الشركات الآن أن تعرف الأفراد كما يعرفون أنفسهم. وتناضل الشركات وراء الشفافية التامة، كي يستطيع مُحرك البحث أن «يعرف ما تريد ويخبرك به قبل أن تسأل السؤال»، كما يقول هال فارين كبير خبراء جوجل الاقتصاديين.

ويمكننا التصُبّر بحقيقة أن هذه الشركات لا تملك قوة الدولة – فإذا كانت نيتهم تحسين استهداف الإعلانات وبيع البيانات بأرباح أكثر، قد يعود هذا الأمر بالنفع على المستخدم.

فالعديد من الناس يستمتعون باستخدام خدمات تعرفهم جيدًا وتلاحظ عاداتهم الشخصية وتفضيلاتهم وهواياتهم. وجودة تجربتهم تزداد بكمية المعلومات الشخصية التي يقدمونها –ومن منا لا يريد خدمات أفضل؟

لكن في الأمر أخطار. فعلى الرغم من أن البيانات التي تجمعها شركات التقنية ضئيلة، إلا أنه يجب علينا الحذر من الأثر الإجمالي: فعلى مستوى الفرد، تبدو البيانات غير مؤذية، ولكن بجمعها معًا، تُعطي صورة واضحة عن شخصيتنا.

لكن حتى هذا لا ينفذ إلى قلب المشكلة، فالخطر الأكبر لا يكمن في ماذا تعرف هذه الشركات، بقدر ما يكمن في كيف يستخدمون هذه المعرفة. فالخدمات التي يقدمونها فاتنة للغاية، مفعمة بوسائل الراحة والإمكانيات الجديدة، ومُصممة لكل حاجاتنا. إلا أننا عندما نُسلّم الكثير من المعلومات الشخصية للشركات، فإننا نُعطيهم قوة ومسئولية لا تُصدق. فالمعرفة قد تعني القوة، إلا أن المعلومات تعني عادةً الهيمنة.

ومنذ الجهود الأولى لجمع البيانات على نطاق واسع في القرن التاسع عشر والشركات تستخدم التكنولوجيا لممارسة سيطرة اجتماعية ضخمة.


ماكينة هوليريث

ماكينة هوليريث، مصدر الصورة: ويكيبيديا

في عام 1880، ومع عدد السكان المتزايد، والإقليم المُتسع بشكل مستمر، والرغبة المتزايدة في الإحصاء، مع نقص كامل لاستراتيجية تقنية، استغرقت معالجة البيانات التي تم جمعها في تعداد الولايات المتحدة عِقْدا كاملا تقريبًا. ومعه حلول وقت التعداد الذي يليه في عام 1890، كان وقت المعالجة قد انخفض إلى ثلاثة شهور.

فقد اخترع مُهندس شاب اسمه هيرمان هوليريث النظام الذي أدّى إلى هذا التسريع الفائق. حيث استخدم، مستلهمًا عمل قاطعي التذاكر في القطارات، بطاقات مُثَقّبة تقوم تلقائيًا بجدولة المعلومات على مجموعة من السمات الموحدة، كالجنس والعرق ومستويات التعليم والدين، على مستوى جميع السكان.

ويتم الآن اعتبار ماكينة هوليريث، كما سُميت بعد ذلك، أول نظام معلوماتي استغنى بشكل ناجح عن الورقة والقلم. واستخدمتها كل البلاد حول العالم لجمع البيانات عن مواطنيها.

وفي عام 1991، باع هوليريث شركته وحقوق ماكينته لاتحاد، تحول ما يُعرف الآن بشركة ماكينات الأعمال العالمي (IBM). وتحت إدارة توماس ج. واتسون، وهو شخص يتم تبجيله باعتباره «أعظم رجال المبيعات في العالم»، امتلكت IBM 90% من ماكينات الجدولة في الولايات المتحدة. فهم يرسلونها إلى أي مكان يطلبه المال.

وفي الثلاثينيات، طلبها رايخ أدولف هتلر الثالث. فتحت إشراف الفرع الألماني لـ IBM، حددت ماكينة هوليريث اليهود وسهّلت «معالجتهم». فالأرقام غير المشهورة الموشومة على أذرع المساجين كانت أرقام التعريف الخاصة بـ IBM، والمناظرة لأماكنهم على نظام الكروت المثقوبة الخاص بها.

وكافأ النازيون واتسون مقابل خدماته بمنحه نيشان النسر الذهبي الرفيع عام 1937. وعلى الرغم من أنه رد الجائزة عام 1940، إلا أن شركته استمرت في مساعدة ألمانيا طوال الحرب.

لم تساعد IBM النازيين، هي لم تكن مهتمة ببساطة. ففي نفس الفترة، قامت بمشروع مشابه للولايات المتحدة، جمعت فيه الأمريكيين من أصول يابانية، وهم أكثر من مائة ألف، لمعسكرات الاعتقال على الساحل الشرقي.

قد تمثل مشاركات IBM في الحرب العالمية الثانية حالة متطرفة، إلا أنه من السذاجة تجاهلها باعتبارها غير هامة. ففي الحقيقة، تحتوي أفعال الشركة على حقيقة شائعة، ألا وهي كون الشركات والدول لديها مصالح مشتركة في العادة وتعمل معًا من أجل المكسب المشترك.

ويحدث هذا في معزل عن المبادئ الأخلاقية. وفي النهاية، تتواجد الرأسمالية بنجاح في الديكتاتوريات (كبينوشيه في شيلي أو الصين الحالية) كما تتواجد في الديمقراطيات. فالرأسمالي، متحرك بروح المغامرة العظيمة، يرى كل ترتيب جديد ترتيبًا من الفرص. والسؤال الوحيد هو من المستعد لاستغلالها.


الملابس الجديدة للأخ الأكبر

كشف التسريب الكبير الذي قام به إدوارد سنودن لملفات وكالة الأمن القومي عام 2013 عن الدور النشط الذي تلعبه الشركات في المراقبة التي تقوم بها الدولة. حيث أبلغ عن «طمس للحدود بين العام والخاص في أنشطة المراقبة» مع «مساهمات وحالات اعتماد متبادل بناء بين سلطات أمن الدولة وشركات التقنية العالية».

فقد أصبحت جوجل وفيسبوك ومواقع أخرى هي كاميرات المراقبة الجديدة للحكومة ولكن بفرق كبير وحيد: فنحن لم نقم فقط بعرض أنفسنا أمام تقنيات المراقبة، بل استمتعنا بها.

وخلف واجهة من الولاء للمستخدم، تحقق شركات التقنية البلايين من خلال وعد العامة بشيء والحكومة بعكسه. فكما كشف سنودن، تصرّح ميكروسوفت بأنها «تؤمن بأنه من المهم أن تمتلك (أنت كمستخدم) السيطرة على من يستطيع إدخال البيانات الشخصية على الإنترنت» بينما تعمل مع الحكومة الأمريكية لتسهيل الوصول إلى هذه البيانات نفسها.

يقوم هذا التجسد الجديد للمراقبة بالجمع بين ديستوبيا أورويل وعالم جديد شجاع لألدوس هكسلي. ففي مُنتج أورويل، تقوم دولة المراقبة السلطوية بالحفاظ على النظام، بينما في هكسلي، يقوم علاج السوما المضاد للاكتئاب، والذي يُبقي الجميع مُبتسمين، بنفس المهمة.

واليوم، يقوم بالمراقبة مجموعة من الأصدقاء بدلًا عن الأخ الأكبر: فهذه الخدمات تتذكر أعياد ميلادنا، وتجيب عن أسئلتنا دون إصدار أحكام، وتقترح علينا أفلامًا وكتبًا قد تعجبنا. فنظام المراقبة الجديد، بعيد تمامًا عن الخوف، ممتع ومُهتم ومتعاون. فعندما تعطل فيسبوك في بعض مدن الولايات المتحدة عام 2014، اتصل العديد من الأمريكيين بالنجدة (911).

تؤكد لنا شركات التقنية أن منتجاتهم تركز علينا، نحن العملاء. إلا أن هذه الأقنعة لا تغطي فقط دوافعهم الربحية، بل أيضًا مصالحهم المنسجمة مع مصالح الدولة. فالحكومات تسمح لهذه الشركات بجمع معلومات الأفراد بشكل منظم –مهما كانت أخطار أو تبعات هذا على المستهلكين- لأنها تتلقى إمكانية الوصول لهذه البيانات في المقابل.

يظهر هذا الانسجام بشكل واضح عندما ننظر في الباب الدوار بين الدولة وشركات التقنية. فقد وجد مركز سياسات الاستجابة The Center for Responsive Politics أن الشركات التقنية الخمسة الأكبر –آبل وأمازون وجوجل وفيسبوك وميكروسوفت- قد أنفقت 49 مليون دولار في ممارسة الضغط السياسي في 2015 وحدها، أي أكثر من ضعف العشرين مليونا التي أنفقتها البنوك الخمسة الأكبر وأكثر بثلاثة ملايين تقريبًا من شركات النفط الخمسة الأكبر.

وفي سنوات أوباما، دمجت صناعة التقنيات نفسها في واشنطن. فتقريبًا 200 شخص من العاملين في إدارة أوباما عام 2015 عملوا في جوجل بنهاية 2016، وقام 58 شخصًا بالعكس. ففي عهد أوباما، نُقل أن تنفيذيي جوجل يجتمعون في البيت الأبيض أكثر من مرة في الأسبوع في المتوسط.

على الرغم من أن وادي السيليكون يميلون إلى الديمقراطيين، إلا أنهم وجدوا حظوة لدى البيت الأبيض في عهد ترامب. حيث يشغل بليونير وادي السيليكون بيرت ثييل أحد المستشارين الرئيسيين لترامب، وكانت إحدى أول خطوات ترامب بعد انتخابه هو عقد قمة تقنية في برجه، داعيًا الرؤساء إلى استقبال لم تتلقه أي صناعة أخرى. ووعد قائلًا: «أنا هنا لأساعدكم أن تعملوا جيدًا يا رفاقي».


وسيلة للسيطرة

ماكينة هوليريث
ماكينة هوليريث

في التسعينيات، بدا الإنترنت واعدًا بعصر جديد للحرية وتوسعة التواصل العالمي. وعندما عبر أستاذ القانون في هارفارد لورنس ليسج عن خوفه عام 2000، تم تجاهله على نطاق واسع. وحذّر بأنه «إذا تم تركها لنفسها، سيصبح الفضاء السايبري أداة ممتازة للسيطرة». وسخر منه أحد المراجعين الشكاك بأن «ليسج لا يقدم أي إثبات على أن خسارة للخصوصية والحرية من النوع السوفيتي تحدث الآن».

لقد مر سبعة عشر عامًا اليوم، وأصبح لدينا جهاز مراقبة يتعدى أي شيء امتلكته الدول السلطوية في الماضي.

لكن لا يجب أن نختزل أخطار الرأسمالية المعلوماتية في المراقبة الحكومية وحدها. فالفلسفة الكامنة وراء شركات التقنية هذه يمثل تهديدًا للحرية ذاتها. حيث تشبع الفضاء السايبري بأيديولوجيا وادي السيليكون التي تقوم بإعادة بناء العالم على صورته، مما يتجاوز أي شيء تخيله ليسج.

يحتفل مديرو شركات التقنية اليوم باعتباره «أكثر العصور المدروسة في التاريخ»، مساويًا جمع المعلومات بالمثال التنويري عن اكتشاف المعرفة. فالشركات تعِدُنا بأنه طالما يملكون الوصول إلى معلومات كل فرد، يمكنهم إصلاح كل أضرار المجتمع.

ويتضمن هذا عقلية البيانات الضخمة التي تقضي بأن حل مشاكل الإنسانية يتطلب فقط جمع معلومات كافية. وبإيمان كامل في هذه الأيديولوجيا، يتفق الرأسماليون المعلوماتيون مع فاريان كبير اقتصاديي جوجل أن أي مقاومة لفقد الخصوصية ستفشل لأن «المميزات، كالراحة والأمان والخدمات، ستكون عظيمة جدًا».

لكن فهم التقدم الذي تقوده البيانات هذا يكبل الفرد. فالخصوصية كانت تعني مجالًا للتجربة الابتكارية، متحررة عن أي حكم وبعيدة عن أي سيطرة خارجية. وعلى العكس، يقدم المجتمع الخالي من الخصوصية مجتمعًا من التطابق الكامل. ومثاليًا، تتحدى تجارب الأشخاص الخاصة المعايير والأيديولوجيات القائمة؛ ويدفع هذا الاحتكاك المجتمع إلى الأمام. لكن، في عصر الرأسمالية المعلوماتية، ما كان يطلب احترام الخصوصية، أي التقدم، يطلب الآن رفضها.

ففي عصر رأسمالية البيانات الضخمة، تم إدراج خصوصية الفرد في أيديولوجيا للتقدم المرتبط بالربح. فحين تتمسك الليبرالية بأن قمع حرية التعبير هو «الشر بعينه، والذي ينهب الجنس البشري»، تجدد الرأسمالية المعلوماتية هذا الأمر قائلة بأن رفض مشاركة البيانات الشخصية هو الذي ينهب الجنس البشري. فإبقاؤك على أشياء خاصة بك وحدك يقف الآن في وجه التقدم.

يصطف مفهوم وادي السيليكون هذا عن التقدم مع مصالحها الربحية بشكل ممتاز. فهذه الأيديولوجيا لا تروج فقط لكون التقنية هي الحل لكل مشاكلنا – ومن سيقدّم هذه التقنية؟!- بل تجعل الربح والتقدم يتطلبان المصدر نفسه: معلومات شخصية أكثر وأكثر. إلا أن الانسجام بين الربح والتقدم ليس تامًا، وبذرة التناقض هذه تكشف الجانب السلطوي لوادي السيليكون بشكل أكثر وضوحًا.

وبينما فيما يخص «التقدم»، تعرض شركات التقنية نفسها باعتبارهم روادًا راديكاليين –فهم يتحركون بسرعة ويكسرون الأشياء، كما تفعل التعاويذ- ولكن عندما يأتي الأمر للربح تُغطي هذه «الراديكالية» رغبة معارضة في الامتثال الكامل. وكما يرى جولي كوهين الباحث في الخصوصية، تأمل الرأسمالية المعلوماتية مطلقًا نحو «إنتاج مواطن-مستهلك سهل الانقياد ومن الممكن توقعه تتحرك الأنماط المفضلة لتقريره لذاته في مسارات متوقعة وجالبة للربح».

ولفعل هذا، تؤسس شركات التقنية هذه شبكة مكثفة من الخيارات –كما في ترشيحات Spotify وNetflix المنضبطة- مصممة لشكل معين من الهوية الفردية، «مصممة للترويج لخيارات استهلاكية ومُعظّمة للربح، والتي ستحل تدريجيًا محل الابتكارات المصممة للترويج لقيم أخرى».

وكما يقرر تريستن هاريس المتخصص السابق في أخلاقيات الأعمال في جوجل: «إذا سيطرت على القائمة، تسيطر على الخيارات»-وإذا سيطرت على الخيارات، تسيطر على الأفعال.

لقد حاولت الرأسمالية دائمًا أن تنظم طموحات المجتمع في اصطفاف مع طموحاتها. ومع الإنترنت، أصبحت إمكانية وصولها لا يمكن الفرار منها. وما زال هناك القليل من القوى المعارضة. فمن بين المواقع الخمسة عشر الأكثر زيارة في العالم، لا يوجد إلا ويكيبيديا هو الذي لا يعمل بمنطق وادي السيليكون.

ومع أهمية الإنترنت المتزايدة باعتباره موقعًا للتنمية البشرية، لا يمكن لتأثيره المُختَرق أن يكون صحيًا لمجتمع ديمقراطي متنوع. وتشتد هذه الدينامية عندما تسيطر شركتان فقط، جوجل وفيسبوك، على السوق.

وباعتباره مكانًا للتشكل الذاتي والنقاش العلني والتنظيم الاجتماعي، يقوم الإنترنت بتأطير تفكيرنا ومعرفتنا وسلوكنا. واليوم، تمت هيكلته بشكل حصري تقريبًا في اتجاه تعظيم الربح.

وفي استهزاء بوعده اليوتوبي الأول، أصبح الإنترنت ليس مجرد أداة للمراقبة الجماعية، بل أصبح كذلك آلية للسيطرة الاجتماعية وتقنية إعلانية متطورة.

وإذا أردنا تحدي هذه الحالة، يجب علينا أن نبدأ بنقاشات ذات مغزى عن الإنترنت الذي نريده. فمن المهم جدًا أن نظل المراقب الوحيد للشركات.

فالبيانات، إن كان من الواجب جمعها، يجب أن يتم دمقرطتها، وليس تصفيتها من خلال لوغاريتمات سرية بهدف الربح الشخصي. وستتعمق الأخطار مادام لم تنكسر السيطرة الطغيانية للرأسمالية العالمية. وكما في حالات الطغيان، ستصبح حيوات المواطنين أكثر شفافية، في حين تصبح أنشطة القاهر أكثر غموضًا.