قد لا يكون الموقف الفرنسي مؤثرًا بدرجة الموقف الأمريكي في مجريات أحداث الأزمة القطرية، إلا أنه من المهم معرفة خلفيات هذا الموقف ومحدداته كنموذج لمواقف دول الاتحاد الأوروبي عمومًا، إذ به تبطل العالمية المُدعاة للحرب على قطر.تميز الموقف الفرنسي خلال الأسابيع الماضية بالحذر، وحث الأطراف على التعقل والابتعاد عن التصعيد في منطقة لا تنقصها الأزمات، وككل الدول العظمى فإن فرنسا تلعب على حبال عديدة؛ فهي لا تريد إغضاب شريك اقتصادي مهم بحجم السعودية، كما لا يمكنها التفريط في بلد مقرب منها، وتربطها به علاقات وثيقة كما قطر، ولكي نوضح هذا ببعضٍ من التفصيل، علينا العودة إلى الوراء قليلًا.


كيف وصلت فرنسا لرمال الخليج المتحركة؟

غداة حرب الخليج الأولى سنة 1991 ورغم مشاركتها الفعالة في تحرير الكويت، تم استبعاد فرنسا من معظم صفقات إعادة الإعمار، وحتى المشاريع الكبرى في السعودية، واستفردت أمريكا بالقرار في منطقة الخليج والشرق الأوسط، عمومًا هذا ما جعل السياسة العربية للخارجية الفرنسية في مهب الريح.بتدمير العراق فقدت فرنسا حليفًا ذا وزن كبير في المنطقة، وما زال بإمكانها الاعتماد على دولة محورية كمصر وعلاقاتها التاريخية المعقدة مع بلاد الشام، لكن ظل الخليج منطقة موصدة أمام المصالح الفرنسية. منذ الخمسينات كانت هناك شركات فرنسية تنشط في الخليج، لكن الصفقات الكبرى سواء في مجال الطاقة أو التسليح أصبحت شبه حكر على الأمريكيين والإنجليز.في الخليج واجهت الدبلوماسية الفرنسية التقليدية صعوبة التعامل مع أعراف مختلفة حيث العلاقات الشخصية والاطمئنان للشخص وإثبات الولاء والقوة أهم من البروتوكول والخطابات والرسائل البليغة، ومنذ الألفية الجديدة دخل (الوسطاء) كقناة موازية للتمثيل الدبلوماسي التقليدي لفتح الأبواب المغلقة.كانت قطر استثناء في هذا الوضع؛ حيث أحدث وصول الأمير الوالد حمد بن خليفة للحكم في انقلاب على أبيه سنة 1995 تغييرًا لم يكن على هوى جيران الإمارة، الذين حاولوا التضييق ماليًا على النظام الجديد، فلجأ الأمير حمد لشركة النفط الفرنسية توتال للحصول على تمويل مسبق على عائدات مرتقبة، حينها لم تكن قطر بتلك القوة الفاعلة في سوق الغاز العالمي. هذه المساعدة في هذا الوقت الحرج جعلت لتوتال مكانة خاصة عند الأمير الذي أعطاها الأولوية في التنقيب عن الغاز واستغلاله وتطوير الحقول الموجودة.بعد حرب الخليج الثانية والإطاحة بصدام حسين، بدأ تقارب سعودي فرنسي كان مدخله لبنان عبر وساطة الحريري الذي كانت تربطه علاقة شخصية قوية بالرئيس الفرنسي وقتها جاك شيراك، فكان ثمرة هذا التقارب قرار الأمم المتحدة 1559 الخاص بلبنان، والذي يقضي بتجريد المليشيات من السلاح (كان المقصود به التضييق على حزب الله و إنهاء الوصاية السورية على لبنان).في نفس الوقت فتح وزير الداخلية الفرنسي الطَموح حينها نيكولا ساركوزي قناة تواصل خاصة مع نظيره السعودي نايف بن عبد العزيز، عبر وساطة رجل الأعمال اللبناني زياد تقي الدين، أسفرت عن صفقات تسليح كبيرة لقوات الداخلية السعودية وأنظمة رقابة لإمارتي مكة والمدينة.ومع وصول ساركوزي للحكم تعززت العلاقة مع دول الخليج عمومًا. ومع صعود الملف النووي الإيراني للواجهة بادرت الإمارات بالطلب من فرنسا إقامة قاعدة عسكرية على أراضيها لمراقبة الملاحة في خليج هرمز، كما شهد عهده توسعًا في الاستثمارات القطرية والإماراتية في فرنسا.تزامن وصول الرئيس هولاند إلى الحكم مع تصاعد أحداث الربيع العربي، الذي خلق مخاوف لدى حكام الخليج.كانت مشكلة هولاند أنه لم يرث الطابع الشخصي للعلاقات الجيدة التي بناها ساركوزي مع حكام الخليج، فلجأ للدبلوماسية التقليدية للبحث عن أرضية مشتركة مع دول مجلس التعاون، فاتخذت فرنسا موقفًا متشددا للغاية في المفاوضات الماراثونية حول المشروع النووي الإيراني، ولمرتين أفشل وزير خارجية هولاند اتفاقًا وشيكًا قبل به الإيرانيون والأمريكيون.لكن هذه الشدة مع إيران لم تكافَأ فرنسا لأجلها، وألغت السعودية بروتوكول اتفاق كانت قد وقعته يحمل صفقات قدرت قيمتها بـ 50 مليار دولار، ما أثار حفيظة وغضب الفرنسيين، خاصة و أنهم في نفس الوقت خسروا بفعل موقفهم مكانة مميزة في السوق الإيراني.لتصحيح هذا الوضع سيفتح هولاند قناة موازية بوساطة أحمد الجوهري، رجل الظل المقرب من وزير الخارجية السابق دومينيك دوفيلبان والسفير غير الرسمي لفرنسا في الإمارات العربية المتحدة؛ لتثمر عن صفقة بيع ناقلة الهلكوبتر ميسترال والمقاتلة رافال لمصر بضمانات سعودية إماراتية على التمويل الذي قدمته بنوك فرنسية.


ما الذي تغير اليوم مع ماكرون؟

بوصول الرئيس الشاب إيمانويل ماكرون للحكم فإنه اختار مهندس صفقة المسترال وزير الدفاع السابق جون إيف لو دريان، المقرب من الشبكات السعودية الإماراتية، ليكون وزير خارجيته.وفي نفس الوقت فإنه بصفته رئيسًا للجمهورية، يخوّل له الدستور الإشراف المباشر على السياسة الخارجية وسياسة الدفاع، ويحتفظ ماكرون بقناة تواصل مباشرة منذ وقت عمله مساعدًا للرئيس السابق.يمكن فهم الموقف الفرنسي الحذر من التصعيد السعودي الخليجي تجاه قطر بالتجارب المخيبة، التي كانت لفرنسا بالتماهي المطلق مع أي من الدول الخليجية، حيث في أحيانٍ كثيرة لم يكن يكافَأ هذا الدعم بعقود شراكة أو صفقات ذات قيمة.