يعدّ الاستثمار الزراعي واحدًا من أهم إستراتيجيات النمو الاقتصادي وخفض نسبة الفقر في مناطق الريف، التي يعيش فيها غالبية الفقراء في العالم، وأكثرها فاعلية. وقد ثبت أن نمو الناتج المحلي الإجمالي (GDP) في مجال الزراعة كان فعالًا في تخفيض الفقر أكثر بما لا يقل عن ضعفي فاعلية النمو في القطاعات الأخرى.
البنك الدولي، تقرير التنمية في العالم 2008.

لقد حلت نخب رجال الأعمال محل النخب البيروقراطية التي سادت الفترة (1956-1990م) باعتبارها مصدر دعم حيوي وهام للنظام الحاكم. ويذهب «ألترمان Alterman» إلى أن الحكومات التي توالت على مصر بعد الحقبة الناصرية تخلت عن كل الدعاوى الشعبوية حتى صار توزيع القوة مائلًا بشدة نحو نخبة صغيرة جدًا تمثلت في صفوة رجال الأعمال. ومن أجل تعزيز هيمنة النخب الجديدة اتجهت تلك الحكومات إلى اتباع ما أطلق عليه أوراق سياسات الإصلاح لإعادة هيكلة النظم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.

كان لتلك الأوراق أثرها السلبي على الاقتصاد الزراعي لمصر، كما أنها لم تحقق تطورًا كبيرًا في الاقتصاد الصناعي. فما الأحجية من وراء ذلك؟


الحقبة الناصرية من الفشل الزراعي إلى الخسارة الصناعية

من أجل القضاء على الإقطاع (كما وصف النظام آنذاك ملكيات الأراضي الكبيرة)، أصدر النظام في سبتمبر/أيلول 1952م قانون الإصلاح الزراعي الأول. وضع هذا القانون 200 فدان (حوالي 200 هكتار) سقفًا لملكية الأرض، ولم ينفذ ذلك القانون من أجل إعادة توزيع الأراضي الزراعية؛ وإنما في الأغلب اعتقادًا بأن هذا القانون من شأنه أن يحرر رأس المال من الزراعة ويوجهه نحو الاستثمار الصناعي. وقد أسهم القانون في خفض نصيب كبار ملاك الأراضي من حوالي 20% من ملكية الأراضي الكلية إلى 6% فقط، بينما ارتفع نصيب أفقر الملاك من 35% إلى 46.6%.

وبعد ذلك أصدر قانونين آخرين للإصلاح الزراعي في عامي 1961 و1969م. خفض قانون 1961 سقف ملكية الأراضي الزراعية إلى 100 فدان للشخص، ثم خفضها قانون 1969 أكثر إلى 50 فدان للشخص و 200 فدان للأسرة. وبهذه الإجراءات قضى النظام الناصري على القاعدة الاقتصادية لقوة نخب ملاك الأراضي وخفف التوزيع غير المتساوي للأرض الزراعية.

إضافةً إلى قانون الإصلاح الزراعي، سعى عبد الناصر إلى تثبيت نظام إيجار الأرض الزراعية عند مستويات منخفضة، وأصبحت عقود الإيجار قابلة للتوريث بما اختزل دور الملاك إلى مجرد محصلين لإيجارات منخفضة جدًا لا تتغير على مدى سنوات قادمة، وبالفعل أصبح المستأجرون شركاء في ملكية الأراضي الزراعية. فإذا أراد الملاك أن يبيعوا ممتلكاتهم، كان عليهم أن يحصلوا على موافقة المستأجرين الذين كانوا يحصلون على 50% من إيراد البيع في مقابل إخلاء الأرض.

نجحت تلك الحزمة من القوانين في أن تجعل الزراعة المصدر المباشر لأكثر من ثلاثة أرباع الصادرات من السلع، كما تصدت الزراعة لمنافسة واردات الأطعمة التي بلغت 20% من جملة الواردات في عام 1961م، إلا أن ذلك التقدم لم يستمر كثيرًا، خاصةً مع تقدم الحكومة المصرية بطلب قرض من صندوق النقد الدولي. وفي مايو/أيار 1962م قدم الصندوق قرضًا لمصر بمقدار 20 مليون جنيه مصري، ومعه منهج أسماه صندوق النقد الدولي (منهج الاستقرار)، وكان في طيات ذلك المنهج شيء من شد الأحزمة، فقد تم رفع أسعار الفائدة المحلية وزيادة سعر الصرف من 35.2 إلى 43.2 قرشًا للدولار الأمريكي في جميع المعاملات ما عدا رسوم قناة السويس والمنح الدراسية للخارج.

الأمر الذي أدى إلى اتباع الدولة لسياسات أجور جديدة بجانب ارتفاع أسعار الأسمدة؛ وهو ما جعل من الحماية الحكومية للمحاصيل الزراعية حماية سلبية، وبالتالي أصبحت الزراعة غير قادرة على المنافسة في ظل سعر الصرف الجديد.

وفي تلك الحقبة اتجهت الدولة إلى التصنيع كسبيل لتعويض العجز الذي خلفه التراجع الكبير في الاقتصاد الزراعي، واتجه النظام إلى تنفيذ خطته الخمسية الأولى من 1960 إلى 1965م، وذلك بالسيطرة على غالبية الموارد الاقتصادية وتوجيه الجهود الاقتصادية من أجل التصنيع، وقد توجهت الحكومة في استثمار 500 مليون جنيه في قطاع الصناعة؛ وهو ما أدى إلى نمو الصناعة بمعدل سنوي يصل إلى 9%، وبلغ نصيب الصناعة من الناتج المحلي الإجمالي 19%.

كما نمت قوة العمل بشكل كبير خلال فترة الخطة من 6 مليون عامل إلى 7.3 مليون عامل؛ أي بزيادة تصل إلى 22%. وبالرغم من ازدهار موجة التصنيع في تلك الفترة إلا أن الحكومة تناست وتغافلت الزيادة الضخمة في فاتورة استيراد المنتجات الوسيطة والتي وصلت إلى 38% من قيمة الواردات الكلية بجانب تضخم فاتورة استيراد السلع الإنتاجية والتي بلغت 24% من الواردات الكلية؛ الأمر الذي جعل مصر آنذاك أمام ديون كبيرة إضافة إلى فواتير واردات متضخمة وبالتالي تراجع كبير في ميزان المدفوعات المصري، وبهذا تغلق الحقبة الناصرية بفشلها في كلا المجالين الزراعي والصناعي.


من الاشتراكية إلى الليبرالية وتمديد عقود الفشل

اتجهت مصر إلى الانفتاح الاقتصادي والتحرير الاقتصادي عام 1974م وذلك بعد معاهدة السلام السوفييتية الأمريكية عام 1972م، والتي رأى فيها السادات أنه لم يعد بمقدوره الاعتماد على دعم الاتحاد السوفييتي، ولكي يتوصل السادات إلى تفاهم مع الغرب وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية.

وفي عام 1974م، أعلن السادات اتباعه لسياسة الباب المفتوح الاقتصادية، وأصدر قانون الاستثمار رقم 43 لسنة 1974م والذي نص على أن أي مشروع ستتم الموافقة عليه سيعتبر تلقائيًا جزءًا من القطاع الخاص وإن كانت تشارك فيه شركات القطاع العام، وكان هذا القانون بمثابة رسالة عن نية مصر في إعادة دمج اقتصادها في النظام الاقتصادي الدولي الليبرالي.

وكان السادات مقتنعًا بأن جذب الاستثمارات الأجنبية لن يتم إلا بتحالف مصر مع الغرب وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، وقد بادر هنا لعقد معاهدة السلام مع الكيان الصهيوني، وهي المعاهدة التي أدت لعزل مصر عن العالم العربي وانقطاع المعونة العربية عنها. وقد عوضت الولايات المتحدة مصر عن ذلك بمعونة سنوية قدرها 2.1 مليار دولار سنويًا كمكافأة للسادات على عقد معاهدة السلام، وبدأت هنا جذور التبعية الاقتصادية. لكن كل محاولات السادات فشلت في جذب الاستثمارات الخارجية؛ فمن عام 1974 حتى عام 1982م كان الاستثمار المصري يشكل 61% من إجمالي الاستثمارات، والاستثمار العربي 23%، والغربي 16% فقط.

في ظل هذه السياسات أخذ القطاع الخاص دورًا أكبر في الاستثمار، وتم توسيع الإقراض الرخيص نسبيًا لرجال الأعمال مما دفع رجال الأعمال في ظل عدم التخطيط من قبل الدولة إلى توجيه هذه الأموال للاستثمار في أنشطة غير إنتاجية مثل البنايات الفاخرة والمضاربة في العقارات واستيراد السلع الكمالية، بل ونجح بعض رجال الأعمال في تحويل جزء من هذه القروض إلى حساباتهم الشخصية خارج مصر.

وبذلك تحول الاقتصاد المصري إلى اقتصاد ريعي يعتمد على مصادر الدخل الخارجية في الوقت الذي أهملت فيه قطاعاته الإنتاجية الزراعية والصناعية، وبالتالي إجراءات التحرير الاقتصادي لم توجه نحو إستراتيجية التصنيع من أجل التصدير وفقًا لنموذج شرق أسيا وإنما إلى اقتصاد مفتوح نسبيًا سرعان ما قضى على التصنيع.

وفي عام 1991م اتجهت مصر إلى سياسات الإصلاح الاقتصادي والتكيف الهيكلي الذي قدمه صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لمصر، وفي الأعوام الأولى من تطبيق هذه السياسات شهدت مصر معدل نمو في الناتج المحلي الإجمالي لم يتجاوز الـ 5% عام 2005م، ويعد هذا النمو المتباطئ نتيجة لتباطؤ الاستثمار الخاص فضلًا عن الهبوط الحاد في الاستثمار العام دافعًا البلاد إلى ركود اقتصادي.

وكانت أهم النتائج للسياسات المباركية إصدار قانون 96 عام 1992م، والذي حل محل قانون الإصلاح الزراعي. حرر القانون أجرة الأراضي الزراعية بعد أن كان لها حدها الأقصى، وسمح لمالكي الأراضي بطرد المستأجرين فور صدور القانون، ملغيًا حقهم في تجديد عقود الإيجار بلا نهاية. أدى هذا إلى «عودة نمط من تملّك الأراضي الزراعية لم تشهده البلاد منذ أيام الملكية. فعلى سبيل المثال، تحكّم 0.05% من ملاك الأراضي في 11% من الأراضي الزراعية، وأثر هذا القانون في مليون بيت ريفي، وهو ما يمثل في ذلك الوقت 10% من تعداد السكان»، بالإضافة إلى تغير طبيعة الزراعة من الاعتماد على العمالة إلى طرق زراعة مكلفة تتبع النموذج الأمريكي، ساهم في رفع معدلات الفقر والعمالة غير الرسمية، وخفض المستوى المعيشي في الريف مقارنة بالمناطق الحضرية.

وفي مثل هذا العرض البسيط للانفتاح الاقتصادي في تاريخ الاقتصاد المصري نجد أن سياسات الانفتاح كانت بمثابة المقبرة لسبل النهوض للاقتصاد المصري، ولم تخلف لنا نحن الأجيال الصاعدة سوى مزيد من التخلف الاقتصادي والديون التي لا يمكن تفاديها بسهولة، فضلًا عن تدمير الموارد الزراعية والصناعية.


الثورة المصرية والريف: الفرصة الضائعة

بدأت المحنة الاقتصادية في مصر مع الاعتماد على المعونات الزراعية الأمريكية منذ عام 1957م والاقتراض من الخارج مع إهمال جوانب التصنيع والزراعة الوطنية.

القوة الوحيدة الأخرى الموازنة في الريف هي جماعة الإخوان، بالأخص في صعيد مصر. تحظى جماعة الإخوان بقاعدة شعبية واسعة ظهرت بوضوح في انتخابات 2012م، لكن الإخوان لم يفعلوا بتلك القوة شيئًا، بل دعموا سياسات تهميش الفلاحين، فموقفهم من قضية الإصلاح الزراعي متطابقٌ مع موقف النظام ومؤيديه، حيث دعموا قانون 96 والاقتصاد النيوليبرالي. ظهر هذا في برنامج الإخوان السياسي عام 2007م ودعمهم لإجراءات التقشف وخصخصة القطاع العام، كما أكد «محمد حبيب» النائب السابق لمرشد الجماعة.

لهذا حُكم على الحركة الريفية الوطنية بالتفتت. فالنخبة، سواءً دعمت النظام الحاكم أو الإخوان المسلمين، لها موقفٌ ثابت من الإصلاح الزراعي. وبالتالي لن يخرج في مصر من يمثل الحركة الريفية ويقودها لتحدي الأوضاع القائمة ووضع مطالبها في بناء أيديولوجي واضح، مثلما فعل المكسيكي «إيمليو زاباتا» في بدايات القرن الماضي.

ما يزيد الأمور تعقيدًا، أن الحركة السياسية الحضرية تعاني من قصر النظر. تتبنى رؤية حضرية خالصة للصراع غير مهتمّة بمشاكل الريف حيث يعيش أغلب المصريين، وتظل مشاكلهم بعيدة عن قلب الصراع، وبالتالي يبتعدون هم عنه.

إن قضايا الإصلاح السياسي وحقوق الإنسان والقطاع الأمني مهمة بالطبع، لكن الحركة الاحتجاجية السياسية يتوجب عليها إضافة مكون مجتمعي ينظر إلى قضايا مثل الإصلاح الزراعي بعين الاهتمام؛ لتتمكن من استقطاب الفلاحين كخطوة أساسية في اكتساب كتلتها الحرجة اللازمة لتحويلها إلى حركة وطنية حقيقية، وليست مجرد حركة حضرية ضيقة الأفق.

المراجع
  1. The revolution and rural Egypt: a lost opportunity?
  2. الاقتصاد السياسي لمصر: دور علاقات القوة في التنمية
  3. اقتصاديات الفساد في مصر: كيف جرى إفساد مصر والمصريين
  4. أنظمة التجارة الخارجية والتنمية الاقتصادية في مصر، بنت هانسن، كريم نشاشيبي، 1988