في الحلقة الثامنة في الموسم الثاني من المسلسل الشهير «Breaking Bad» والتي جاءت بعنوان «Better Call Saul»، وفيها تم تقديم شخصية المحامي «سول جودمان» لأول مرة، شخصية سول تنتمي لنوعية الشخصيات محترفة النصب، فهو قادر على استغلال أقل ثغرة قانونية، ولا يجيد سوى الدفاع عن المجرمين وإرشاد عملائه لعمليات غسيل الأموال، التركيبة المميزة للشخصية ببشرته البيضاء الناعمه وثرثرته وكلامه الشعبي وألفاظه الخارجة كانت أحد مسببات الكوميديا الأساسية في المسلسل.

كل هذه العوامل تجعل المشاهد وهو مقبل على الحلقة الأولى من مسلسل «Better Call Saul» يتوقع مسلسلاً كوميدي الطابع خفيفًا مليئًا بالنكات والنصب وخلافه، ولكن المفىجأة ستكون في ظلامية المسلسل الشديدة، من الحلقة الأولي سُيلاحظ ذلك، فالمسلسل خالٍ من الكوميديا مليء بالضياع والفشل منذ اللحظة الأولى، العنصر الكوميدي شبه مخفي وعنصر الإثارة غير متواجد بكثرة، فالدراما هي الجانب المسيطر. اعتمد المسلسل بشكل كامل على الشخصيات ودوافعها النفسية مع ندرة الاعتماد على الأحداث المثيرة أو الخطرة، ولذلك سنستعرض الشخصيات الهامة التي ركز عليها المسلسل.


سول جودمان: أن تكون ذاتك

المسلسل من تأليف «فينس جيلجان» وهو بالطبع مبدع «Breaking Bad»، وكما علمنا عن جيلجان فهو أستاذ في كتابة الشخصيات ورسم الدوافع النفسية وصنع البنى الدرامية. بالتأكيد كانت مخاطرة لصنع مسلسل يمثل امتدادًا لأحداث سابقة في مسلسل آخر، وأغلب شخصياته معروف مصيرها منذ اللحظة الأولى، فأغلب شخصيات المسلسل قتلت في «Breaking Bad» وحتى من لم يقتل نعلم بعدم وجوده في حياة «جيمي ماكيجل» مستقبلاً، جيمي ماكيجل هو الذي نعرفه بسول جودمان، أما سبب تحول اسمه من ماكيجل لجودمان غير معروف حتى الآن، سنعرف مستقبلاً بكل تأكيد.

كعادة جيلجان لا يراهن بدرجة كبيرة وخصوصًا في المواسم الأولى على جذب تركيز المشاهدين للأحداث، بقدر انشغاله بجذبهم للشخصيات وتحولاتها وكيفية تأثرها بالأحداث الخطرة النادرة. «سول جودمان» نراه في الموسم الأول شخصًا لا يعرف ذاته أو بمعنى أصح يسير في الطريق الذي يرضي المجتمع، فهو محامٍ لم يكتب له النجاح، يعمل في غرفة ضيقة زائدة عن حاجة مركز لتجميل السيدات، ينتظر كل يوم رسائل العمل التي لا تأتي ويصبر على ذلك الوضع ليرضي أخاه، غرفة عمله الواقعه في مركز التجميل تخبرنا الكثير عن شخصيته أيضًا، فهو اعتاد على استخدام «ماء الخيار» والتدليك المجاني والماسكات وخلافه، هكذا نعرف سبب اهتمام جيمي الدائم بنفسه ونضارته.

الجانب الآخر في شخصية جيمي وهو أنه شخصية آسرة للقلوب، فهو شخص محبوب مقنع، ودود مقنع غير رسمي يستعين دائمًا بالأمثال الشعبية والأفلام وبسيط بدرجة كبيرة. بالإضافه لأنه شخصية محتالة، فهو عاش مراهقة شديدة التمرد واعتاد الاحتيال على الأغنياء في الحانات، ووقع بسبب تلك المغامرات في عدة مشاكل قانونية وأخرجه منها أخوه المحامي المرموق «تشاك ماكجيل». نجد سول دائمًا مشغولًا بإرضاء من يحبهم، فهو يسعى دائمًا لرفع شأنه أمام أخيه، هكذا اتجه للمحاماة ودرس القانون، ولكنه رُفض تعيينه في شركة «HHM» التي يعتبر أخاه الأب الروحي لها بحجة أن رئيسها «هاورد» لا يحب جيمي. بعد ذلك يكتشف في نهاية الموسم الأول أن تشاك هو الذي لايرغب في تعيين جيمي؛ بسبب أنه لا يؤمن به كمحامٍ، هو يؤمن به كموظف شريف بلا أهمية ولا فائدة، أما محامٍ فهي مهنة للعظماء وليس للمحتالين السابقين. هكذا يتحدى جيمي أخاه ليثبت له جبرًا أنه محامٍ مبدع وشريف، تساعده حبيبته «كيم ويكسلر» على العمل كمحامٍ في شركة أكبر من شركة أخيه، توفر له شقة وسيارة «مرسيدس» ومكتبًا فاخرًا، هكذا يتحول جيمي لشخصية ناجحة مجتمعيًا وماديًا.

قصة نجاح وتحدٍّ تقليدية بكل تأكيد، ولكن هل سيجعل المبدع جيلجان الأمور تنتهي عند هذا؟، بالطبع لا فالطبيعة البشرية عند جيلجان ليست بهذه البساطة، فتحقيق الأهداف التي تبدو حقيقية ولكن في حقيقة الأمر يُجبر عليها الشخص نتيجة لاستسلامه لمعايير مجتمعه عن النجاح، تلك الحالة ليست أفضل ما يفضله جيلجان، فكما وجد «والتر وايت» ذاته في عالم المخدرات وعرف أنه العالم الذي يعطيه سلطة ورونقًا وهيبة ومجالًا لاستغلال قدراته التي لم يستغلها طوال حياته، يكتشف سول بعد نجاحه هذا وتسليم أخيه بالأمر الواقع أن هذا لم يكن ما مبتغاه في الحياة، فسول اكتشف أنه يستمتع بكونه مهرجًا محتالًا محبوبًا غير مبالٍ بالرسميات، أما المحامي الناجح الرسمي الذي يعمل في شركة كبيرة ويلبس أجود انواع البذل ويتعامل كمستشار قانوني لكبرى المؤسسات، لهو الشخصية التي أرغمها عليه المجتمع وأخوه وحبيبته.

مشهد مبدع حيث يقرر جيمي الخروج عن التقاليد وارتداء سترات ذات ألوان غريبة «حمراء- برتقالية- وردية – صفراء» مع رابطات عنق شعبانية (نسبة لشعبان عبد الرحيم) بامتياز، ومقارنة رائعة من المخرج حيث قسم الكادر لنصفين؛ الأول يظهر فيه سول بزيه الغريب والنصف الثاني يظهر فيه صورة بالون على شكل بهلوان موضوع أمام أحد المطاعم. هكذا يقرر سول أن يستقيل وأن يكون ذاته ويفتح مكتب المحاماة الخاص به الذي يسمح له بأن يكون بهلوانًا ومهرجًا ومحتالًا ولكن على جانب الخير وبدون مخالفة واضحة للقوانين. سول جودمان هو مثال للأشخاص الذين يريدون أن يكونوا ذواتهم حتى لو كانت غريبة عن المجتمع، الذين يعتمدون بدرجة كبيرة على الاستعراض وادعاء الأناقة والرقي.


الشخصيات المساندة: البقاء والنجاح والعظمة

الشخصيات المساندة لم تكن أقل عمقًا من شخصية جيمي، نستطيع القول بثقة إن المسلسل مسلسل شخصيات بالأساس وليس مسلسل أحداث. على رأس الشخصيات المساندة شخصية «مايك» الذي عرفناه من خلال مسلسل «breaking bad» ، القاتل المحترف المتقن الهادئ المخيف المساعد الأول لـ«جالاس»، أما مايك في better call saul فهو عجوز هادئ يعيش سنواته الأخيرة بعد تركه للعمل الشرطي، يعمل في موقف للسيارات، يتعرض ابنه للقتل ويعلم بخبرته من هم قاتلوه، فيضطر للانتقام لابنه وحماية حفيدته وأرملة ابنه، التي علمت بقتله لهم وتقبلت الأمر برضاء تام.

ولكن بعد هذه الحادثة تغيرت شخصية مايك كثيرًا، فقد عمل في بعض الأعمال الإجرامية التي عرضت عليه بشرط خلوّها من فعل القتل، يقوم فقط بدور الحماية وفي أصعب الظروف يقدم على ضرب ضحاياه ضربًا غير قاتل. أثبت كفاءته ومهارته وجدارته بالثقة، ومن جهة أخرى شعر أن هذا العمل يساعده في البقاء بعد أن ظن أنه يمر بحياة المسنين الرتيبة. مايك شخصية غنية جدًا، فهو جد حنون ولديه قلب طيب لا يحب القتل والإجرام، ومع ذلك شعوره ببراعته في الأعمال الإجرامية خصوصًا وأن ممارسيها على قدر عالٍ من الغباء يدفعه لهذا العالم، استحق الممثل «جونسون بانك» ترشيحًا لجائزة الإيمي عن أدائه لهذا الدور.

الشخصية الثانية وهي شخصية «كيم ويكسلر» حبيبة «سول» الجادة المخلصة له، ولكنها في نفس الوقت تغضب منه كثيرًا لمخاطرته ورغبته الدائمة في التمرد والاحتيال. علاقة حب مخلصة وتقليدية جدًا في الموسم الأول، ولكن شخصية «كيم» نمت ببراعة في الموسم الثاني، وخصوصًا عندما شاركت جيمي في بعض ألاعيب الاحتيال التي يفعلها في بعض الأغنياء من أجل الحصول على شراب مجاني، شعرت كيم بمتعة الاحتيال والتمرد مع جيمي بل وأحبت هذا الجانب بعد أن كان مصدر غضبها، وساعدتها تلك التجربة على قرار الاستقالة من «HHM» والعمل بشكل مستقل مع جيمي، فكل ما ترغبه أن تكون شخصية مرموقة وناجحة. أجادت الممثلة «ريها سيهورن» تأدية الدور؛ فهي تجمع ما بين الجدية والرسمية وفرحة الأطفال عند النجاح وشعورها الأمومي المسؤول تجاه جيمي.

أما «تشاك ماكجيل» وهو أخو جيمي، المحامي المتقن المتقاعد بسبب حالة نفسية تجعله لا يستطيع التواجد في مجال كهرومغناطيسي، لذلك يعزل نفسه عن كل مصادر الكهرباء ويعيش حياة بدائية. مع مرور الحلقات نعلم أن تشاك هو الحائل ما بين سول والنجاح في مهنة المحاماة، حيث منعه سرًا بحكم نفوذه من العمل في شركة «HHM» للخدمات القانونية بوصفه شريكًا في ملكيتها، يتحجج تشاك بأن جيمي شخصية تميل للتلاعب ولا تصلح كمحامٍ شريف، بل يصلح للعمل في وظيفة حكومية عادية.

يسيطر على تشاك إحساس بالعظمة، فهو المحامي المتقن الذي لم يخسر قضية، بجانب شعوره بالغيرة من جيمي، مواقف كثيرة تسببت في هذا الشعور يعرضها المسلسل من خلال تقنية الاسترجاع «Flash Back». فبرغم تميز تشاك في العمل وجديته واجتهاده،ولكنه لا يمتلك روح جيمي التي يحبها الجميع؛ أبوه وأمه وحتى حبيبته، هذه اللقطات عرضت في الوقت المناسب كلما اقترب المشاهد من التعاطف مع نظرة تشاك لجيمي، فهي نظرة دافعها الغيرة أكثر منها تقييم لشخص جيمي.

«Better call saul» مسلسل درامي مميز يعتمد بشكل كبير على رسم الشخصيات مقابل الأحداث المشوّقة، وساهم في هذا التميز الطاقم التمثيلي الذي أجاد دوره بعناية، والإخراج اللائق الذي لم يعبه سوى الظلامية الشديدة على مستوي الصورة، التي كانت أحيانًا تتسبب في صعوبة رؤية الممثلين، المسلسل استحق 3 ترشيحات لجوايز الإيمي من بينها أفضل مسلسل درامي.