قليلة هي تلك الأعمال السينمائية المصرية التي تعالج قضايا فلسفية تتعلقُ بصميم بنية المجتمع، وربما يعد فيلم «شحاذون ونبلاء» رائدًا في هذا الصدد. فبنهاية الحرب العالمية الثانية، وفي حي شعبي تُقتلُ فتاة ليل، ويتولى التحقيق في مقتلها ضابط شاب، فيتعرف من خلال التحريات على ثلاثة شبان مثقفين بلا عمل محدد، كانوا من المترددين عليها. الصعاليك الثلاثة هم (جوهر) الشاب ذو الثقافة، شديد الإحباط بعد فقدان عمله كأستاذ للفلسفة لاعتراضه على تزييف التاريخ والجغرافيا لتلاميذ المدارس، والثاني (الكردي) المثقف الأكثر واقعية، أما الثالث (يكن) وكان من أشد المعجبين بجوهر وبفلسفته في الحياة. تتابع الأحداث فيما بعد وسط الكثير من الصراعات وأصابع الاتهام التي توجه للجميع بُغية معرفة القاتل.[1]

ويطرحُ الفيلم تصورًا ذا نزعة تشاؤمية للواقع المصري أثناء الحرب العالمية الثانية، ذلك الواقع الذي عَجّ بالفساد، والجهل، والفقر، وانتشار الدعارة، وتخلى فيه المثقفون عن دورهم التغييري ونزعوا نحو العدمية، محاولين بها الهرب من لعنة المسؤولية الملقاة على أعناقهم بحكم ما يمتلكونه من معارف.

وأحاول في هذا المقال الاقتراب من تلك المعضلة التي تجابه المثقفين في كل وقت وحين، ما بين عجزهم عن التغيير وبين دورهم المنوط بهم القيام به لإصلاح مجتمعاتهم. وبادئ ذي بدء، يلزمني التأكيد على أن هذا المقال ليس بصدد تقديم إجابات، أو إصدار حكم قيمي حول مدى أخلاقية أن يكون المثقف عدميًا في زمن المحنة والنكبة، بقدر ما هو محاولة مني للتساؤل ودعوة جادة لمحاكمة منظومتنا الأخلاقية والفلسفية.


بين المثقف العضوي والمثقف العدمي

كان التناول لعلاقة المثقف بالمجتمع، ومدى تعاطيه مع مشكلاته وأزماته، أكثر النقاط عمقًا في التحليل في ثنايا الفيلم، وإذا كنا هنا بصدد الحديث عن علاقة المثقف بالمجتمع خصوصًا في لحظات المجتمع الأكثر حرجًا وتعقيدًا كتلك التي عاشها المجتمع المصري إبان الحرب العالمية الثانية، فإنه يلزمُنا في هذا السياق أن نُفرقَ بين صنفين من المثقفين.

الصنف الأول يمكن تسميته بالمثقف المشتبك، أو المثقف العضوي -حسب تعبير المفكر الإيطالي انطونيو جرامشي- والمثقف العضوي هو ذلك المثقف الذي يحتك بالجماهير ويعبر عن أحلامها وتطلعاتها.

وهذا الاشتباك يعده جرامشي نفسه شرطًا أساسيًا وجوهريًا لأن يوصف أحدهم بالمثقف من الأساس.

والأمثلة على هذا الصنف لا تنضب، رغم ما تعانيه أمتنا مما اصطُلحَ على تسميته بخيانة المثقفين. فمن الرئيس والمفكر البوسني علي عزت بيجوفيتش، مرورًا بالمفكر المصري والمناضل دكتور عبد الوهاب المسيري، إلى الفلسطيني غسان كنفاني تطول القائمة. ربما لن يكون الشهيد المثقف الفلسطيني باسل الأعرج آخرها وهو صاحب مقولة: «إذا بدك تكون مثقف تكون مثقف مشتبك، إذا ما بدك بلا منك ومن ثقافتك» والتي تعد بيانًا واضحًا لطبيعة المثقف العضوي.

الصنف الثاني وهو ما يمكن تسميته بالمثقف العدمي، وهو الصنف الذي جاء الفيلم مدافعًا ومنافحًا عن فلسفته ونموذجه. وتُعرفُ العدمية بأنها «موقف فلسفي يقول إن العالم كله بما في ذلك وجود الإنسان، عديم القيمة وخالٍ من أي مضمون أو معنى حقيقي».[2] وإن كان البعض يضيف إلى هذا التعريف أن العدمية تدفع إلى رؤية الجوهر الأفضل للحياة. والمثقف العدمي بناءً على هذا التعريف المسبق للعدمية يكون ذلك المثقف الذي يئس من التغيير، ونحا نحو اللامبالاة بالواقع وما فيه.

هذه العدمية تعبّر في حقيقة الأمر عن حالة من الاغتراب العميقة داخل الذات المثقفة؛ نتيجة للفشل المستمر في التغيير بسبب ما تفرضه الوقائع البشرية بالغة القسوة، والتي ترفع من درجات اليأس إلى أقصاها، وهو ما ينعكس بالضرورة على وعي المثقف وطبيعة رؤيته للحياة والكون برمته. فحين يجد المثقف نفسه أمام صيرورة تاريخية صارمة ليس له إلى تغييرها من سبيل، ووسط عجزه المهين أمام السرديات الكبرى للحياة، فإنه يعلن عجزه التام، ويرفع راية بيضاء، ومن ثمَّ يعتزلُ الحياة وما فيها.


انتصار الفيلم للمثقف العدمي

وتأتي شخصية (جوهر) كتطبيق عملي لفلسفة المثقف العدمي، وهو أستاذ للفلسفة ذو ابتسامة هادئة وغير مكتملة تميز بها طوال الفيلم، كتعبير صارخ عن اللامبالاة وعدم الاكتراث لكل ما يجري حوله. وقد ُبحَ صوته طويلاً بصرخات محذرة من تزييف السلطة المنظم للتاريخ وللجغرافيا. وفي غيبة الأذان المصغية يضطر للاستقالة ويعتزل الحياة وما فيها، مكتفيًا بحد الكفاف، لينتهي به الأمر إلى حالة من العدمية واعتزال الحياة بشكل كامل، ليلخص في أحد المشاهد فلسفته في الحياة في أن هناك نوعين من الناس أحدهما يبحث عن راحة البال والآخر يبحث عن التقدم. وهو اختار الأول -أي راحة البال- والتي يختصرها هي الأخرى في قطعة حشيش وبعض المياه.

وإن كانت هذه الفلسفة تعبّر ولأول وهلة عن نظرة اختزالية للحياة، وتبسيط لمعادلات حياتية هي ليست بهذا التبسيط في حقيقة الأمر، إلا أنها وبقليل من التمحيص تنذر بعدمية فلسفية اجتاحت مجتمعنا المصري في تلك الحقبة، طُعِمَت فيما بعد بوجودية سارتر التي اجتاحت هي الأخرى الساحة الثقافية العربية في ستينات القرن الماضي، رغم وجود بعض المعارضة لها في الأوساط الفلسفية المصرية كعبد الرحمن بدوي الذي اعتبرها موضة باريسية «سخيفة» غاب عنها العمق الفلسفي.[3]

يعيد الفيلم أيضًا تعريف من هم النبلاء ومن هم الشحاذون، فقد يعتقد البعض أن شخصيات المثقفين الثلاثة تمثل الشحاذين، وأن ضابط الشرطة يمثل النبلاء، لكن الأمر ليس كذلك، أو هكذا نظن.

يعزز هذا الرأي جملة لالبير قصيري نفسه وهو صاحب الرواية التي اقتبس منها الفيلم حيث يقول: «إن مقياس النبالة في الشرق هو ألا تفعل شيئًا»، بهذه المقولة الموغلة في الانتصار للعدمية، يمكننا أن نفهم أن الشحاذين في الفيلم كانوا هم النبلاء، وأن النبلاء ممثلين في شخصية الضابط كانوا يرمزون إلى الشحاذين، وهي رمزية عبقرية من ألبير قصيري إن صح ما ذهبنا إليه.

وإذا كان البعض في لحظات تعثر الشعوب وتأخرها يبحث عن مخلص ومنقذ، فإن البعض الآخر يبحث عن قنبلة، نعم قنبلة!. إن أولئك الذين ملوا من الواقع ومن أحلام التغيير يبحثون عن قنبلة تزيل الواقع وما فيه. تبدو هذه الكلمات عبثية، وموغلة في العبث، لكن يأتي الفيلم ليقدمها في أبهى صورة. فمع انتشار أخبار اكتشاف الولايات المتحدة لقنبلة بإمكانها أن تزيل مُدنًا عن بكرة أبيها، يسخر المثقفون الثلاثة في الفيلم ويأملون لو تُلقى هذه القنبلة على واقعهم، بل ويحلمون بها كمخلص لهم من الواقع وعفانته وعبثيته، وهو التصور الذي يعبر عن درجة متقدمة للغاية من العدمية.


الفلسفة العدمية وواقعنا المعاصر

سيكون من نافل القول أن نؤكد على أن التفكير العدمي ليس وليد حقبة معينة، أو مكان بعينه في هذا العالم؛ ذلك لأن العدمية وليدة لمجموعة من الظروف ومتطلب لمجموعة من الشروط، وأينما تحققت هذه الشروط وتوافرت هذه الظروف فإن العدمية تكشر عن أنيابها وتسفر عن وجهها لتجتاج بنية المجتمع. فالعدمية هي وليدة الحروب والقهر والاستبداد والظلم وغياب الحرية وغيرها مما يصيب المجتمع من أمراض.

ولأن العدمية كما أسلفنا ليست وليدة حقبة معينة أو مكان محدد، فلن يكون من المستغرب أن نؤكد على أن ما يعيشه مثقفونا الآن بعد خيبات الربيع العربي لا يختلف البتة عما عاشه مثقفو ما قبل الحقبة الناصرية، وإن كانت شخصية جوهر خيالية فإن ثورات الربيع العربي أنتجت لنا ألف جوهر؛ مثقفين ملوا من محاولات التغيير، وهزمهم الواقع بوحشيته وقسوته، فهم وبحق مثقفون مهزومون.

لكن ولأن قدر المثقف في منطقتنا العربية أن يخوض حربًا لن تضع في يوم من الأيام أوزارها، فما إن ينتهي من حربه مع الاستعمار الخارجي حتى تبدأ حرب أخرى مع الاستعمار الوطني أو ما يمكن تسميته: الصدام مع السلطة الوطنية المستبدة. وسط هذه المعمعة، هل يمكننا الحديث عن مثقف عدمي؟، وهل تكون العدمية في هذا السياق إلا هروبًا من الواقع ومن تحدياته وعجزًا عن حل مشكلاته وأزماته، أم هي حيلة عاجز ليس له من الأمر من شيء؟


[1] لمعلومات أكثر عن الفيلم يمكن زيارة الرابط التالي: http://www.elcinema.com/work/1000983/[2] أعلام الفكر العربي: مدخل إلى خارطة الفكر العربي الراهنة، السيد ولد أباه، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2010.[3] المثقف العدمي والراهن العربي … ظاهرة غياب المضمون، علي حسين عبيد، 2012، يمكن قراءة المقال على الرابط التالي: http://larbi.maghrebworld.net/t1717-topic

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.