لا تحلموا بعالم سعيد؛ فخلف كلّ قتيلٍ يروح: قتيلٌ جديدٌ!
عن أمل دنقل، بتعديل طفيف

مجدي مكين خليل، قتيل جديد يخرج من قسم الشرطة إلى المستشفى ضحية للتعذيب، كالعادة تبرر السلطة أنه حالة فردية وأن الأمر يخضع للتحقيق، سبقه بأسابيع الطالب «أحمد مدحت» الذي استلم ذووه جثمانه من المستشفى أيضا بعد اعتقاله على أيدي أفراد الشرطة المصرية، لجأت السلطة حينها لتبرير مختلف وإن كان مستهلكا هو الآخر «الطالب لقي حتفه أثناء هروبه من شقة دعارة».

شهر مارس/ آذار من العام الماضي، لقي ثلاثة أفراد في قسم شرطة المطرية حتفهم جراء التعذيب الشديد خلال أسبوع واحد، حسب تقرير منظمة العفو الدولية. ناهيك عن عشرات غيرهم منذ مطلع العام 2014م، والمبرر دائما لا يخرج عن أمرين: حالة فردية تخضع للتحقيق أو أن الضحية مستحق للقتل بشكل أو بآخر، حتى وإن كان هذا القتل خارج إطار القانون.

في كتابها الجاد والمهم «ذاكرة القهر»، تتجاوز الدكتورة بسمة عبد العزيز الإطار الخارجي المتكرر للظاهرة، والتفسيرات السطحية المستهلكة، لتضعنا أمام صورة تشريحية دقيقة لمنظومة التعذيب.


النظام الجلّاد والمواطنون الضحايا

التعذيب ليس حالة فردية، لم يكن يوما كذلك ولن يكون. إنما هو جزء من منظومة كاملة ذات أركان متجذرة في عمق المجتمعات الإنسانية، هكذا تجادل الدكتورة بسمة في مقدمة الفصل الخامس من الكتاب الذي خصصته لدراسة هذه المنظومة من الداخل، عارضة خصائصها البنيوية والتشغيلية والسيكولوجية.

تتكون منظومة التعذيب بشكلها الاعتيادي من ثلاثة أركان: الضحية، الجلاد، والجمهور المشاهد.

غريزة التعذيب لدى السلطة

لا يقتصر تعريف الجلاد على الشخص القائم على عملية التعذيب فقط، إنما هو منظومة كاملة تبدأ من هذا الشخص ثم الأشخاص الأعلى منه رتبة الذين يصدرون له أوامر التعذيب، ثم المؤسسة التي تنتج هذا وذاك، وأخيرا النظام بأكمله الذي تعمل لأجله ومن خلاله هذه المؤسسة. فالتعذيب إذا ليس حالة فردية؛ إنما هو جزء من بنية النظام يؤدي غرضا وظيفيا وحيويا مهما في ضمان بقائه.

لإلقاء دور أكبر على حاجة النظام ككل للتعذيب، تلجأ الدكتورة بسمة لوضع فاصل ضروري في هذا السياق بين مصطلح «القوة» ومصطلح «السلطة». الفرق هنا بين المصطلحين مستمد من المشروعية، بمعنى أن النظام الذي يمارس السلطة هو نظام يستمد مشروعيته وبقاءه من المجتمع، ولهذا يكون استعماله للقوة محدودا ومنضبطا، أما النظام الذي لا مشروعية له فهو يلجأ إلى القوة المجردة الغاشمة لبسط نفوذه ويكون التعذيب أحد مفردات هذه القوة.

ينتج النظام إذًا – أي نظام حاكم مختل المشروعية- أفراده القائمين على عملية التعذيب عبر عملية أشبه بسياسة العصا والجزرة، حيث يغريهم لدخول المنظومة بإغداق الكثير من الحسنات والميزات والوعود، وحين يكونون داخلها بالفعل تمارس عليهم الضغوط والتهديد إذا رغبوا في الخروج منها.. بهذا تظل منظومة التعذيب حلقة مغلقة ومتماسكة وحيوية بالنسبة للنظام نفسه وبالنسبة للأفراد القائمين على عملية التعذيب «الجلادين».

كيف يبرر النظام إذا هذا التعذيب؟ يلجأ النظام غالبا لاستراتيجيات وخطابات مختلفة لشرعنة عملية التعذيب والتقليل من فداحتها. يبتدئ الخطاب من مسلمة «مصلحة الوطن العليا» الشهيرة، وفي سبيل هذه المصلحة العليا التي هي بالطبيعة مصلحة النظام نفسه، يكون أي عمل وإن كان إجراميا في طبيعته مبررا. ثم يلجأ لخطاب أكثر قربا لقلوب قطاعات مختلفة من الشعب، فيبرر هذه الممارسات أنها بهدف الحفاظ على الاستقرار، هذا الاستقرار الذي يشكل أولوية قصوى عند فئات كثيرة من الشعب عن مسائل حقوق الإنسان والحريات.

يلجأ النظام بعدها لسلسة متواترة ومتلازمة من الخطابات التي يبرر بها ممارسات القمع تبتدئ بـ”«وصم» الضحية، يوصم الضحية بأنه مجرم أو إرهابي، أو يتم وصمه بما يشين أخلاقيا كالدعارة – كما في حالة الطالب أحمد مدحت- أو تجارة المخدرات أو الفساد المالي.

ثم يلجأ النظام بعدها للتهديد، أي أنه يقوم بتهديد المجتمع بأزمة وشيكة تصبح المطالبات الحقوقية والسياسية في ظلها ضربا من الجنون الغير مبرر كـ«الأزمة الاقتصادية» أو «الحرب على الإرهاب».

يلجأ النظام بعد ذلك لتغليف ممارسات القمع والتعذيب عبر اختراع جهاز أو مؤسسة تصبغ عليها اسما وطنيا كجهاز «أمن الدولة»، الذي من مهامه حماية الوطن من المؤامرات الداخلية والخارجية بأي ثمن.

هنا تصبح مهمة الشعارات مهمة حيوية لتسطيح القضايا وقطع الطريق على أي مناقشة جادة وحيوية لهذه القضايا، فتكون شعارات «الجيش والشعب إيد واحدة»، أو «تحيا مصر»، أو «عشان ما نبقاش زي سوريا والعراق».

خطاب «الطرمخة» على الجريمة

حين تتسرب بعض هذه القضايا أو حالات التعذيب أو القتل خارج إطار القانون الذي يمارسه النظام إلى الإعلام، يتبع النظام حينها مجموعة أخرى من الخطابات التبريرية، فيلجأ لـ«تهميش الانتهاك وتضخيم المساوئ»، لنرى مثلا عنوانا لخبر مقتل مواطن في قسم الشرطة مصاغا بالطريقة التالية «وفاة أحد المواطنين في قسم شرطة كذا، وقد كان هذا الفلان متهما في قضية اتجار بالمخدرات ومسجل خطر وأدين في كذا وكذا»، هنا تفرد المساحة الرئيسية في الخبر لذكر مساوئ الضحية بينما يتم تهميش قضية مقتله خارج إطار القانون أو التعدي عليه وتعذيبه.

وقد تلجأ السلطة لخطاب آخر وهو خطاب «التجهيل والتعميم»، حيث تتعمد تجهيل مصادر الخبر، أو تجهيل المجموعة المعارضة التي ينتمي إليها الضحية بعبارات مثل «جماعات الظلام» أو «الأجندات الخارجية».. هذا التجهيل يكون بقصد نزع صفة المواطنة من الضحية أو التشويش عليها، بينما يتم استخدام خطاب التعميم لتبرير انحياز النظام لفئة في الشعب على حساب أخرى فيقال «المواطنون الشرفاء» أو «انحاز الجيش إلى جموع الشعب»، وهنا لا يتم اعتبار المعارضة من الشعب الذي انحاز إليه هذا الجيش.


الجلّادون والتصالح مع الذات

على عكس التصور الشائع عن القائمين بعملية التعذيب، فـ«الجلاد» القائم بالتعذيب – سواء كان مخبرًا أو أمين شرطة أو ضابطًا- هو شخص طبيعي تماما، من الصعوبة بمكان تفريقه عن أي شخص طبيعي آخر، حتى بواسطة الأطباء النفسيين المختصين.

قبل أن نسرد الصفات الشخصية التي يتميز بها هؤلاء الجلادون في المنظومة الأمنية، نستعرض ثلاثة أوساط أو سياقات مهمة تصبح فيها عملية التعذيب مبررة تماما من تلقاء نفسها.

الوسط الأول هو «الوسط العسكري»، حيث الولاء للقادة وصرامة تنفيذ الأوامر وتراتيبيتها وسهولة تفتيت المسؤولية داخلها، في سياق هذه المؤسسات العسكرية يصبح انتقال الفرد من خانة الفرد العادي إلى الجلاد أمرا سهلا وبسيطا كجنود الشرطة العسكرية أو الأمن المركزي الذين مارسوا أبشع أنواع الضرب والسحل والتعذيب لمواطنين عاديين إبان ثورة الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني.

الوسط الثاني المولد لممارسات التعذيب هو «الوسط الأيديولوجي»، حيث الآخرون غير المنتمين للأيديولوجيا أعداء لله أو أعداء للوطن، هنا قد يتحول الفرد العادي في الجمهور إلى جلاد في لمح البصر إذا اقتضت الضرورة لذلك، كما في أحداث قصر الاتحادية ومظاهرات الشرعية.

الوسط الأخير هو «الوسط الطبقي» في مجتمع يفرق بين إنسانية كل طبقة وأخرى، يصبح التعذيب هنا فعلا إجراميا بشعا في حق فرد من الطبقات العليا، بينما يصبح أمرا اعتياديا تماما إذا مورس ضد فرد من الطبقة المهمشة أو المقموعة.

إذا تابعتَ الصفات المنتشرة والمتكررة لكثير من أفراد الأجهزة الأمنية، فسيتضح بسهولة انطباقها على صفات «الجلاد»، صفات مثل: حب التسلط والتمتع بدرجة ولاء كبيرة للنظام وانتمائهم إلى طبقة دنيا أو فقيرة وتمتعهم بمكونات ثقافية ومعرفية وبيئية مولدة للعنف وميلهم للتسطيح واعتيادهم على المعاملة الطبقية. حسنا، هذه الصفات هي التي تؤهل المتصفين بها للقيام بدور «الجلاد»، وتنتقيهم المؤسسات والأجهزة الأمنية على أساسها.

لكن هل يكون «الجلاد» متصالحًا مع ذاته وهو يمارس التعذيب على «المواطنين الضحايا» يوميًا؟ الحقيقة أنه يجد طريقة لذلك، إذ يلجأ لبعض الحيل والدفاعات النفسية التي تمكنه من الاستمرار في عمله، أبرزها: تكوين ذات أخرى تعينهم على التعامل مع البشاعة والعنف الذي يمارسونه بشكل يومي دون أن يظهر تأثير هذه البشاعة على حياتهم العادية وتعاملاتهم خارج نطاقاتهم المهنية.

يلجأ «الجلادون» أيضا لبعض الحيل الأخرى لتخفيف الآثار النفسية والقانونية كالإنكار والتنصل من المسؤولية باعتبارهم مجرد منفذين للأوامر، ويلجأون أيضا للحط من قدر الضحية باعتباره أقل إنسانية ومختلفا ومستحقا لما يجري له، في هذا الإطار يخترع الجلادون لغة رمزية في تعاملهم مع وسائل وأدوات وأوضاع التعذيب، ومع المواطن الضحية نفسه، حيث يتم غالبا اعتباره مجرد رقم، ولا يتم مناداته باسمه، وإنما برقمه أو مناداته بألفاظ تحقيرية مثل «كلب» أو «حشرة».

وعندما يتزايد الصراع الداخلي لدى الجلاد (ضابط أو أمين شرطة أو مخبر)، فإنه يلجأ إلى صب المزيد من العنف على المواطن الضحية، وأحيانا يكون عنفه المتزايد هذا نتيجة لشعوره بالدونية الطبقية أو حتى بالاستعلاء الطبقي تجاه الضحية، حيث يزيد جرعة العنف الموجهة بناءً على هذه الاعتبارات، بينما يميل جلادون آخرون لـ«عملية إحلال»، حيث يفرغون العنف أو الاستعلاء الممارس عليهم من قبل رؤسائهم على ضحاياهم بدل الشخص المقصود فعلا بشحنة الغضب هذه.


كلنا جلادون ننتظر الفرصة

ما موقف الجمهور؟ يتفاعل الجمهور – غير المشارك في الحدث غالبا- مع هذه الانتهاكات بلا مبالاة أو تحفظ، على اعتبار أن كل من يمارس ضده التعذيب قد ارتكب جرما يستحق عليه هذا العنف الممارس ضده، وهو ما تتضمنه نظرية «العالم العادل»، هم يستحقون، ونحن آمنون.

ليس هذا فقط، وإنما قد يصاب هذا الجمهور بتبلد الإحساس وفقدان الاهتمام بعد كثرة تكرار هذه الممارسات أمامه فتصبح في حكم الاعتيادية بالنسبة له.

وقد أثبتت التجارب النفسية المختلفة مثل «تجربة مليجرام» أو «تجربة سجن ستانفورد»، أن غالبية البشر لديهم القدرة على أن يصبحوا جلادين دون رحمة إذا توفرت لهم الظروف المناسبة لذلك، وغالبا ما تحتوي هذه الظروف وجود سلطة أو إشراف فوقي يدفع نحو هذه الممارسات.

في حالات تاريخية كثيرة تحوّل أولئك الذين كانوا ضحايا في العهود السابقة إلى جلادين حين أتيحت لهم الفرصة لذلك، ولم يوجهوا هذه الممارسات لجلاديهم السابقين فقط، إنما أصبحت هذه الممارسات جزءا من تكوينهم وممارستهم للسلطة.

وفي حالات واقعية كثيرة تلجأ الضحية للتعاطف مع جلادها، وهي الحالة الشهيرة التي تسمى بـ«متلازمة استوكهولم»، وينشأ هذا التعاطف نتيجة للحاجة العاطفية التي تنشأ لدى الضحية نتيجة العنف الساحق الممارس ضدها والعزلة التي تعانيها فلا تجد غير الجلاد تتبادل معه هذه الاحتياجات العاطفية.

يعاني الجلادون غالبا من ضغوط شديدة تمارس عليهم أثناء عملهم للحفاظ على تفانيهم وضمان أفضل النتائج، ولكن بعد خروجهم من المنظومة الأمنية أو انهيارها لأي سبب، غالبا ما ينتابهم شعور شديد بالغدر والنكران والإحساس بالتبلد واللاآدمية .

أخيرًا، تهدف منظومة التعذيب في النهاية لتحقيق عدد من الأهداف الأساسية، متمثلة في انتزاع الاعتراف من الضحية بخيانته للوطن، وإذلاله ومحق هويته وشخصيته ووصمها وصما أبديا بأنها أقل إنسانية وأقل استحقاقا لحقوق المواطنة والحرية.

أو كما يقول جورج أورويل على لسان أحد الجلادين في رواية «1984»: «سنعتصرك حتى الفراغ وبعد ذلك سنمؤلك بذواتنا».