في العاشر من يونيو/ حزيران من عام 2014 تمكن تنظيم الدولة الإسلامية في العراق و الشام من السيطرة على مدينة الموصل وكذلك على منشآت حيوية في المدينة من أهمها مبنى محافظة نينوى والمطار، وقنوات تلفزيونية، وأعقب ذلك إطلاق ألف سجين من السجن المركزي، بعد انسحاب 75 ألفًا من عناصر الجيش والشرطة العراقية التابعة لحكومة نوري المالكي، دون قتال، وبأوامر مباشرة قضت بالانسحاب السريع دون إبطاء من كافة القطاعات العسكرية والأمنية في مدينة الموصل و محافظة نينوى. تاركين وراءهم أسحلتهم ومعداتهم العسكرية وقواعدهم ومخازن الأسلحة هناك.

بين ذلك التاريخ وإعلان حيدر العبادي في 17 أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي، عن بداية العمليات العسكرية التي تهدف لإنهاء سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية علي مدينة الموصل، وإعادتها إلى الحكومة العراقية، وهي العملية التي تتم بمشاركة قوات الحشد الشعبي، وقوات البيشمركة في كردستان العراق، وقوات التحالف الدولي، أصبح تنظيم الدولة الإسلامية الآن هو التهديد الأكبر في الشرق الأوسط، كما يقدم ذلك التنظيم في التحليلات والتغطيات الإعلامية السائدة.

و لكن بعد نسيان ملابسات ما جرى منتصف عام 2014 حيت تم فسح الطريق أمام ذلك التنظيم ليصبح دولة فعلية تضم مناطق واسعة من شرقي سوريا وغربي العراق، البلدين اللذين تغيرت ديموغرافيتهما وخرائطهما السكانية والمذهبية خلال الأعوام القليلة الماضية، للمفارقة بعد قيام ذلك التنظيم الذي لطالما ادعى أنه قام لحماية أهل السنة منذ البداية.

وسنحاول هنا في هذا التقرير أن نستعرض سريعا ملابسات ما جرى بدايةً أثناء سقوط الموصل، وأن نرصد كذلك التغييرات التي المستمرة التي جرت في التركيبة السكانية و المذهبية في العراق في السنوات الأخيرة الماضية، وتبعات معركة تحرير الموصل المرتقبة في هذا السياق.


كيف سلمت حكومة المالكي الموصل لتنظيم الدولة الإسلامية؟

أعلنت لجنة النزاهة البرلمانية العراقية في يونيو/ حزيران 2015، أن قائد القوات البرية في الجيش العراقي السابق، علي غيدان، أقرّ خلال التحقيق معه بشأن أسباب سقوط الموصل بيد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، أنّ الانسحاب من محافظة نينوى تمّ بأمر من القائد العام للقوات المسلحة آنذاك، نوري المالكي.[[1]]

و بعد أن أضحى في حكم المستقر اليوم أن حكومة المالكي المقربة من طهران هي التي تسببت بشكل مباشر وجلي في سقوط الموصل، فكما ذكر أحد المحللين العراقيين لا يخلو تفسير أمر الانسحاب من الموصل والذي تبعه سقوط أجزاء واسعة من أربع محافظات عراقية، بأثر رجعي اليوم، من أمرين، أولهما أنه كان انسحاباً تكتيكياً لأجل استجماع القوى قبل معاودة الهجوم على التنظيم، أو أنه أمر المقصود منه ترك التنظيم يحتل مدينة الموصل.[[2]]

في كلتا الحالتين بحسب المحلل العراقي فإن مسؤولية ما حصل تقع على عاتق المالكي. و الاحتمال الأول، كما يذكر يبدو مستبعدًا، لأن الهجوم الذي شنه التنظيم على المدينة ليس كبيرًا إلى الحد الذي تنهزم أمامه فرقتان عسكريتان وفرقة شرطة فائقة التسليح. حيث كان أفراد تنظيم الدولة في ذلك الوقت مسلحين بأسلحة خفيفة وكان تعدادهم في تلك الفترة وفقًا لأفضل التقديرات يبلغ 3000 مقاتل، و لا يضاهي عدد القوات العسكرية المتواجدة في المحافظة، ولذا لم يكن هناك معتى للانسحاب التكتيكي، بل كان صمود القوات العسكرية العراقية في نقاط تمركزها على الأقل كفيلاً بدحر التنظيم كما فعلت في مدينة سامراء قبل أيام من إحتلال الموصل، إلا أن أوامر الانسحاب التي صدرت إلى القادة العسكريين الذين توجهوا نحو إقليم كردستان أدت إلى انهيار القوات العسكرية العراقية التي هرب معظم إفرادها.

أماالاحتمال الثاني في هذا الإطار و هو الأرجح بحسبه هو أن إصدار المالكي لأوامر الانسحاب، كان بقصد السماح للتنظيم باحتلال المدينة.

وقد فتح سقوط الموصل بيد تنظيم الدولة الطريق أمام هذا التنظيم ليشق طريقه بقوة للسيطرة على 40 بالمائة من الأراضي العراقية في المحافظات ذات الغالبية السنية في صلاح الدين وكركوك و الأنبار وبعقوبة، حتى كاد يصل إلى بغداد بنهاية المطاف.


كيف أعادت إيران صياغة البنية السكانية للعراق؟

عقب تفجير مرقد الإمامين العسكريين في مدينة سامراء في فبراير/ شباط 2006 ، بلغ الاحتقان الطائفي ذروته في العراق، وتحول إلى ساحة مفتوحة لمواجهات طائفية دامية بين الشيعة والسنة داخل المدن والأحياء العراقية، خلفت عشرات آلاف الضحايا و المهجرين قسرياً، وقد استمر الصراع الطائفي بعد ذلك طوال عامين، تغيرت خلالهما الخريطة السكانية للعراق بشكل جلي تماماً في العديد من المناطق، مثل بغداد والموصل والبصرة.[[3]]

ولقائد للقوات الأميركية السابق في العراق الجنرال جورج كيسي في هذا الإطار، شهادة لافتة وشديدة الأهمية،رغم ما تحمله من مفارقات، حيث أكد أن إيران «هي المسؤولة عن التفجير الذي تعرض له مقام الإمامين العسكريين في سامراء»، رغم تبني تنظيم القاعدة إعلامياً لتلك العملية، وذلك من خلال الأدلة التي توفرت لديه بعد الحادث، وقد اعتبر الأخير آنذاك أن استهداف مرقدي الإمامين العسكريين ما هو إلا جزء من مشروع لإشعال الفتنة الطائفية في العراق.

وكما تشير العديد من الشهادات الميدانية من على أرض العراق، فهناك زحف شيعي مستمر حتى اليوم باتجاه المناطق السنية، حيث تتهم الميليشيات أهالي المناطق السنية بأنهم متعاطفون مع تنظيم الدولة، هو الأمر الذي ترتب عليه أن أهالي بعض المناطق لا يسمح لهم بالعودة إلى مناطقهم إلا بشروط معينة، كما جرى في مدينة سامراء القديمة، حيث عملت المليليشيات الطائفية على إخراج من كان فيها من السنة من خلال عمليات من الترهيب والترغيب، كشراء المنازل بمبالغ أكثر من قيمتها، واعتقال من يرفض النزوح بتهم الإرهاب، وهو ما جرى كذلك في العديد من المناطق الأخرى في العراق كمنطقة الراشدية ببغداد. جرف الصخر في محافظة بابل، ومحافظة البصرة التي كانت نسبة السنة ٥٦٪، والآن نسبت السنة بها بالبصرة ١٥٪.[[4]]


في أي سياق تُقرأ معركة الموصل الأخيرة؟

هل هي حرب ضد داعش أم حسم لمستقبل العراق الطائفي والسياسي؟

كانت إحدى أسباب تركيا و لا تزال حتى الآن في المشاركة في معركة الموصل هو رغبتها في منع أي انتهاكات محتملة لميليشيات الحشد الشعبي الموالية لطهران، من شأنها تغيير التركيبة السكانية للمدينة، التي تقطنها أغلبية من السنة. حيث حذرت تركيا من نزوح مليون شخص وفق تقديراتها بعد إعادة السيطرة على المدينة، قد يتوجه قسم كبير منهم نحو تركيا إذا لم يتم إعداد خطة محكمة لعملية تحرير الموصل، والأخذ بعين الاعتبار التركيبة الديمغرافية للمدينة.

لاسيما و أن ما جري في الفلوجة ما يزال حاضراً في الأذهان، حين طوقت ميليشيات الحشد الشعبي الشيعية هذه المدينة ثم دخلتها، وقامت بارتكاب جرائم واسعة بحق سكانها المدنيين الفارين من القصف تفوق ما ارتكبه تنظيم الدولة، وهو ما تسبب في تهجير ما يزيد على الثلاثمائة ألف نسمة من المدينة.[[5]]

و كما يذكر الكاتب اللبناني حازم الأمين في مقال له بجريدة الحياة اللندنية المد الإيراني في المنطقة يعوقه حتى الآن الكثير من الحقائق حتى الآن: القاعدة التركية القريبة من بلدة بعشيقة العراقية، والبؤر الديموغرافية السنّية بدءاً من بعقوبة في العراق وصولاً إلى حمص في سورية. إلا أن مؤشرات تصاعد ذلك التمدد في الفترة الماضية رغم كل تلك العقبات بحسب الأخير واضحة بل مذهلة في وضوحها، و هو ما يعني بنهاية المطاف أن ذلك المد يكتسح الآن حقائق المدى الطويل في المشرق العربي، و يصنع واقعًا جديدًا تماماً على الأرض، يتشكل خلاله بحسب الأمين جسراً إمبراطورياً إيرانياً بين القصير السورية وتلعفر العراقية، سيتم تدشينه من خلال واحدة من أكبر عمليات الترانسفير السكاني في تاريخ المشرق العربي الحديث.[[6]]

http://gty.im/615654346

ويقول مارتن تشولوف في جريدة الأوبزرفر البريطانية، إن معالم الطريق الإيراني نحو المتوسط يبدأ من بعقوبة في محافظة ديالى وهي أقرب مدينة عراقية للحدود الإيرانية باتجاه الشرقاط في محافظة صلاح الدين التي سيطرت عليها الميليشيات في أيلول/ سبتمبر الماضي ويمتد باتجاه تلعفر وسنجار، ويستمر امتداد الممر من معبر ربيعة بين العراق وسوريا مرورًا بالقامشلي وعين العرب – كوباني – وصولاً إلى عفرين، وهي مناطق تسيطر عليها وحدات حماية الشعب الكردية، ويتطلب المشروع الإيراني إجراء تغييرات ديموغرافية بدأ بتنفيذها في وسط العراق وهي جارية حاليًا في شمال سوريا.

و كما ورد في الأوبزرفر فإن إيران تعمل بقوة الآن لتحقيق ذلك الهدف، بحيث يصبح بإمكانها نقل السلع والأفراد داخل ذلك الممر الذي تتولى حراسته من خلال قواها الذاتية أو قوى أخرى تابعة لها. حيث يمثل ذلك الممر الذي تسعى إليه إيران للوصول إلى شواطئ المتوسط، تعزيزاً للهلال الشيعي الذي تعمل على رسمه منذ عقود، فضلاً على أنه سيغير بنهاية المطاف من شكل حضور إيران في العالم العربي برمته.

المراجع