تشهد منطقة القرن الأفريقي تنافسا وتكالبا عليها من قبل القوى الإقليمية والدولية؛ لما تمثله من موقع إستراتيجي يتحكم في مجموعة من ممرات التجارة البحرية الهامة، مثل مضيق باب المندب وخليج عدن، إضافة لتأثيرها على الدول المجاورة لها. فالقوى الكبرى عملت على العودة لهذه المنطقة مرة أخرى تحت مبررات اقتصادية وأمنية وسياسية، والتي سعت لاستمرار الصراع والتشرذم في هذه المنطقة من أجل كسب قدر من النفوذ عليها. لذا هل سيستمر هذا التنافس الإقليمي والدولي في القرن الأفريقي؟، وما هي تداعيات هذا التنافس؟، وما هو مستقبل الدور العربي والمصري في هذه المنطقة؟


القرن الأفريقي بين تنافس القوى الكبرى

يربط القرن الأفريقي بين قارات أفريقيا وأوروبا وآسيا عبر مضيق «باب المندب» الذي يعتبر رافدا أساسيا للتجارة الدولية، وكذلك يعتبر مدخلا لقناة السويس، ونقطة انطلاق عسكرية في عدد من الدول الهامة بالمنطقة، وتضم المنطقة إريتريا وجيبوتي وإثيوبيا والصومال، ويمكن أن يضاف إليهما السودان وكينيا.

بالإضافة للولايات المتحدة، تتابع بناء القواعد العسكرية التابعة للدول والجيوش الكبرى كفرنسا والصين وتركيا بالإضافة لتواجد قوات يابانية.

نظرا لما تمثله المنطقة من موقع جيوستراتيجي هام عملت القوى الكبرى على التواجد بها، فالولايات المتحدة عملت على تأكيد تواجدها بالمنطقة، إذ وقعت اتفاقا مع جيبوتي عام 2003 لاستخدام المنشآت العسكرية وإنشاء قاعدة «ليمونييه» في حملتها ضد الإرهاب، وجددت الاتفاقية الخاصة بالقاعدة في مايو 2014، وذلك بخلاف دعمها لإثيوبيا وبعض الدول المجاورة لمنطقة القرن الأفريقي مثل كينيا. ومن أجل بسط واشنطن سيطرتها وإعادة ترتيب التوازنات والتحالفات الإقليمية أطلقت مشروع القرن الأفريقي الكبير، ويشمل دول إثيوبيا والصومال وإريتريا وجيبوتي وأوغندا والكونغو ورواندا وبوروندي.

بالإضافة للولايات المتحدة تتابع في القرن الأفريقي بناء القواعد العسكرية التابعة للدول والجيوش الكبرى كفرنسا والصين وتركيا بالإضافة لتواجد القوات اليابانية. فمؤخرا عقدت فرنسا وجيبوتي اتفاقا في 2011، تدافع بموجبه باريس عن وحدة وسلامة أراضي جيبوتي، إضافة لوجود قاعدة عسكرية أساسية لفرنسا في جيبوتي منذ مائة عام، وتشيد الآن الصين قاعدة لها تنتهي في 2017، لكن بكين وصفت المنشأة بأنها قاعدة لوجيستية وإجلاء سريع.

أما روسيا فقد عمدت إلى اتباع سياسة نشطة للعودة لأفريقيا وخاصة منطقة القرن وخاصة بعد تنامي التنافس مع المحور الأمريكي الأوروبي، وتمثل اهتمام موسكو بمنطقة القرن في تعيين سفراء جدد بها، وعقد شراكات وتحالفات مع دول أخرى. ففي فبراير 2014، عينت سفيرا لها لدى دولة جنوب السودان، وسفيرا جديدا في جيبوتي، واعتمدت السفير ذاته سفيرا غير مقيم في الصومال، لكن هذا السعي يصطدم بالوجود الأمريكي والصيني والأوروبي وهو ما يحد من نفوذها، إذ رفضت جيبوتي على سبيل المثال عرضا روسيا لتأسيس قاعدة لها في البلاد.


القرن الأفريقي في ميزان القوى الإقليمية

http://gty.im/462134148

تخوض تركيا وإيران وإسرائيل سباقا من أجل تكثيف نفوذهم بالقرن الأفريقي. فإسرائيل تعمل على تعزيز تواجدها حيث تقيم علاقات أمنية وعسكرية مع أفريقيا عامة وخاصة إثيوبيا منذ ستينات القرن الماضي، ويعتزم رئيس الوزراء الإسرائيلي «بنيامين نتنياهو» زيارة إثيوبيا بنهاية يونيو الجاري في زيارة تعد الأولى منذ 50 عاما وذلك لبحث تعزيز التجارة والاستثمار ومناقشة القضايا الاقليمية، كما تتواجد إسرائيل في جزيرتي «دهلك» و«فاطمة» الإرتيريتين، وتقيم مراكز رصد على البحر الأحمر تستهدف السعودية والسودان واليمن، وتقيم في «دهلك» أكبر قاعدة بحرية لها خارج حدودها، وقد وقعت إرتيريا اتفاقية أمنية مع إسرائيل في 1996 تسمح لـ«الموساد» بحرية الحركة داخل إريتريا مقابل التزام إسرائيل بتوفير احتياجات أسمرة في المجال الدفاعي والأمني. زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي من المنتظر أن تشمل أيضا لقاءات بمسؤولين كينيين خاصة في ظل توقيع الرئيس الكيني «أوهورو كينياتا» ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو اتفاقا في فبراير الماضي لمساعدة كينيا في التصدي لحركة الشباب الصومالية.

أما تركيا فقد سعت للتواجد في العمق الأفريقي لتعزيز نشاطها الاقتصادي والسياسي ولتوسع من نفوذها العسكري، فقد ارتفعت مساعداتها الرسمية لأفريقيا من مليار دولار عام 2010 إلى 3.9 مليار دولار عام 2015. تقيم تركيا علاقات اقتصادية قوية مع إثيوبيا التي تعد رابع أكبر شريك تجاري لأنقرة في القارة السمراء،وتتلقى وحدها 2.5 مليار دولار من إجمالي ستة مليارات دولار تستثمرها تركيا في القارة. في المقابل ينصب اهتمام أنقرة الإنساني والعسكري باتجاه الصومال، إذ بلغت المساعدات التركية الإنسانية والتقنية للصومال ما يربو على 400 مليون دولار، تضمنت بناء وتجهيز أكبر مستشفى في العاصمة الصومالية مقديشو، ويجري على قدم وساق بناء قاعدة عسكرية تركية في الصومال بجانب كلية عسكرية لتدريب الضباط الصوماليين، اهتمام توجه الرئيس التركي «أردوغان» خلال زيارته الأخيرة لمقديشو بافتتاح أكبر سفارة لبلاده في العالم على مساحة 80 ألف متر مربع.

بالانتقال لإيران فقد اتبعت الجمهورية الإسلامية سياسة نشطة في أفريقيا عامة والقرن الأفريقي خاصة، من خلال شراكات اقتصادية وتحقيق اختراقات ثقافية والعمل على نشر التشيع، بجانب تعزيز وجودها العسكري حيث تشير بعض التقارير إلى أنها تمكنت من بناء قاعدة بحرية عسكرية في إريتريا، ومركز لتموين سفنها، إضافة لتدريبها عناصر من الحرس الثوري والميليشيات التابعة لها في إريتريا، وكانت أسمرة حلقة وصل ودعم عسكري للحوثيين في اليمن في انقلابهم على حكم “عبد ربه منصور هادي”؛ الأمر الذي عملت الرياض على مقاومته من خلال دعوة الرئيس الإرتيري «أسياس أفورقي»لزيارة السعودية في أبريل 2015، ومرة أخرى في ديسمبر 2015، لتنسيق المواقف بين البلدين بخصوص مكافحة الإرهاب والقرصنة والأوضاع في اليمن.

لذا يتبين أن إسرائيل تعمل على إقامة شراكة اقتصادية وسياسية وعسكرية؛ من أجل دعم نفوذها بالمنطقة وكسب تأييد لعدوانها الدائم على الشعب الفلسطيني ومحاصرة الدول العربية. أما تركيا تحاول تعزيز شراكتها الاقتصادية بصفة أساسية بخلاف إيران التي عملت على توسيع نفوذها الثقافي المتمثل في نشر التشيع إضافة للحشد السياسي في صراعها الإقليمي والدولي.


التواجد العربي في القرن الأفريقي

بلغت المساعدات التركية الإنسانية والتقنية للصومال ما يربو على 400 مليون دولار، تضمنت بناء وتجهيز أكبر مستشفى في العاصمة الصومالية مقديشو.

تميز الدور العربي بالضعف ليس فقط في القرن الأفريقي ولكن في عموم القارة، وخاصة الدور المصري إذ فشلت مصر في الحفاظ على نفوذها الأفريقي التاريخي بل وأصبحت مهددة في أمنها المائي من قبل إثيوبيا ورضخت لذلك معتبرة إياه أمرا واقعا، هذا بخلاف التواجد الإسرائيلي بدول المنطقة والذي يتعارض مع المصالح المصرية لكن القاهرة وقفت عاجزة إزاء ذلك ولم تتبن سياسة حقيقية للتصدي لهذه التدخلات أو محاولة كسب الدول الأفريقية.

بخلاف القاهرة، والتي أعلن وزير خارجيتها «سامح شكري» أنها «لا تسعى للريادة»، يلاحظ تنامي الدور الخليجي في القرن الأفريقي وخاصة بعد زيادة حالة العداء مع إيران.

بخلاف القاهرة، والتي أعلن وزير خارجيتها «سامح شكري» أنها «لا تسعى للريادة»، يلاحظ تنامي الدور الخليجي في القرن الأفريقي وخاصة بعد زيادة حالة العداء مع إيران، حيث عمدت دول القرن على دعم الرؤية الخليجية في حرب اليمن وقامت بسحب سفرائها من إيران على إثر التعدي على البعثات الدبلوماسية السعودية في طهران ومشهد، كما تسعى السعودية للاتفاق مع جيبوتي على بناء قاعدة عسكرية لها، ودعم إثيوبيا في مشاريعها الكبرى، وعلى رأسها بناء السدود كما صرح وزير الاعلام الإثيوبي مؤخرا. الإمارات هي الأخرى بجانب تواجدها الاقتصادي، تقدم دعما أمنيا وعسكريا لدول القرن الأفريقي في مواجهة الحركات الإرهابية مثل «حركة الشباب»، حيث دشنت في مايو/أيار 2015 مركزا للتدريب العسكري لمواجهة الإرهاب، كما أبرمت جمهورية «أرض الصومال» في ديسمبر 2015، مع شركة “موانئ دبي العالمية”، لتحويل ميناء “بربرة” إلى مرفأ تجاري محوري في القرن الأفريقي.

أدركت دول الخليج أهمية المنطقة مؤخرا لدورها في الصراع مع إيران، إلا أنه وعلى الرغم من ذلك يظل الوجود الإسرائيلي الذي يضر الدول العربية قائما ومزدهرا بالقارة، دون اتخاذ إجراءات فاعلة ضده، إضافة لاختيار بعض الدول العربية الانزواء بعيدا عن عمقها الإستراتيجي؛ الأمر الذي شجع قوى كبرى عالمية وإقليمية على استغلال هذا الفراغ والتمدد فيه لتوسيع نفوذها ودائرة مصالحها في هذه المنطقة ذات الأهمية الإستراتيجية الفريدة.