الخميس، العشرين من أكتوبر/تشرين الأول،أعلن الرئيس سعد الدين الحريري ترشيحه «العماد ميشيل عون» لرئاسة لبنان، لتكون جلسة الاثنين، الحادي والثلاثين من أكتوبر/تشرين الأول، الموعد المنتظر لإسدال الستار عن الأزمة التي عصفت بلبنان على مدى عامين نتيجة شغور المنصب الرئاسي.

وفقًا للمادة 43 من الدستور اللبناني، ينتخب مجلس النواب رئيًسا للجمهورية بأغلبية الثلثين في الدورة الأولى، وبالأغلبية المطلقة (النصف + 1) في الدورات التالية، وهي النسبة التي تعتبر في التفسير الدستوري الأكثر شيوعًا في لبنان، نصابًا قانونيًا لجلسة انتخاب الرئيس أيضًا، أي أن جلسة انتخاب الرئيس لأول مرة لا تعد شرعية إلا بحضور ثلثي عدد أعضاء مجلس النواب، أي 84 من أصل 128 عضوًا.

لكن المجلس، وعلى مدى 45 جلسة، انعقد آخرها في الثامن والعشرين من سبتمبر/أيلول الماضي، فشل في استكمال النصاب القانوني بسبب تغيب نواب التيار الوطني الحر، الفصيل الأكبر بين ممثلي المسيحيين، الذي يتزعمه العماد ميشيل عون، وداعمه القوي حزب الله.

يصر حزب الله، المدعوم من إيران، على تعطيل الجلسة ما لم يضمن قبل الحضور فوز حليفه من المسيحيين، العماد ميشيل عون، بينما تمسك تيار المستقبل، الكتلة البرلمانية الكبيرة المعبرة عن الطائفة السنية، والمدعوم من السعودية، بعدم تمرير العماد ميشيل عون، قبل أن يبادر الحريري بقراره الأخير المثير للجدل.

قبل سبعة وعشرين عامًا، في أكتوبر/تشرين الأول 1990، غادر العماد ميشيل عون القصر الرئاسي في بعبدا كأضحية على مذبح اتفاق الطائف، أحد أهم إنجازات السياسة السعودية في حقبة سيادتها العربية. اليوم، يعود عون، إذا تم ترتيبه لجلسة 31 أكتوبر/تشرين الأول المنتظرة، إلى بعبدا، ويبدو أن عودته ستكون إعلان وفاة للبنان في صيغته التي وضعتها السعودية في الطائف.


هكذا تفعل السعودية بحلفائها

منذ اغتيال رجلها القوي، رفيق الحريري، 14 فبراير/شباط 2005، عرف نفوذ السعودية في لبنان تراجعًا مستمرًا. فسعد الحريري، الابن الأصغر الذي اختارته السعودية لخلافة أبيه، بدا واضحًا أنه ليس بنفس قوة أبيه، فضلًا عن أن علاقة الحريري الابن بالمملكة تورطت بتوازنات العائلة المالكة، وهو الخطأ الذي لا زال الحريري يدفع ثمنه إلى اليوم.

كان التسريب الذي أذاعته قناة الجديد اللبنانية، في يناير/كانون الثاني 2011، لإفادة أدلى بها الحريري الابن إلى أحد محققي المحكمة الدولية في اغتيال رفيق الحريري، إحدى حلقات ذلك التورط؛ إذ لدى سؤاله عن آصف شوكت، رجل المخابرات السورية القوي، قال الحريري «أنهم يقولون عنه في سوريا أنه سفاح، كما يقولون في السعودية عن محمد بن نايف». وعلى الرغم من اعتذار الحريري، إلا أن طعنة جديدة كانت قد أصابت علاقته بالسعودية على كل حال.

في يناير/كانون الثاني 2011، سقطت حكومة الحريري في لبنان، بعد استقالة وزارء 8 آذار من حكومته، وتحولت، وفقًا للمادة 69 من الدستور اللبناني، إلى حكومة تصريف أعمال إثر استقالة أكثر من ثلث وزرائها. عشية سقوط حكومته، ذهب الحريري مغاضبًا وغادر لبنان نتيجة تهديدات أمنية، خاصة وأن البرلمان قد اختار، بأغلبية 68 صوتًا، أن يعطي تشكيل الحكومة التالية إلى نجيب ميقاتي، السني المستقل الذي حظي بقبول 8 آذار.

لم يعد الحريري إلى لبنان عودة نهائية إلا في فبراير/شباط 2016، لكن خمس سنوات كانت كفيلة بإضعاف الحريري أكثر مما كان. ففي الثلاثين من مايو/آيار الماضي، اكتسحت لائحة «قرار طرابلس»، المدعومة من اللواء أشرف الريفي، الانتخابات البلدية في طرابلس، ضد التوافق المدعوم من الزعامة السنية التاريخية، الحريري وميقاتي.

اللواء المتقاعد رفع شعار مواجهة المشروع الإيراني في لبنان، واستئناف ثورة الأرز. شعر السنة في طرابلس بأنه القائد القوي الذي انتظروه بعد رفيق الحريري، فلم يعطوا المسيحيين أو الأقلية العلوية مقعدًا واحدًا في طرابلس. ضحايا اغتيالات الأرز، حتى من غير السنة، وجدوا في الريفي ضالتهم. كان الريفي قبل الانتخابات بشهر واحد في السعودية بدعوة تلقاها من الأمير محمد بن نايف لحضور المؤتمر الذي تنظمه جامعة الأمير نايف بن عبد العزيز للعلوم الأمنية.

وبما أن المصائب لا تأتي فرادى، فقد جاءت أزمة «سعودي أوجيه»، عملاق المقاولات المملوك لعائلة الحريري، لتضع عائلة الحريري في أزمة اقتصادية طاحنة، وتُضاعف أيضًا من فتور العلاقات بين السعودية وعائلة الحريري. وقد نقلت رويترز في سبتمبر/أيلول الماضي أن السعودية علقت مفاوضاتها مع الشركة لدفع 8 مليارات دولار، هي دين على المملكة سداده للشركة لقاء أعمال قدمتها. تعاني الشركة على إثر تأخر تلك المستحقات إلى أزمة سيولة طاحنة، وهي مدينة بحوالي 5 مليارات دولار لجهات مختلفة، من بينها رواتب للموظفين والعمالة.

تلقي المملكة باللوم على حلفائها في لبنان، وهو ما أدى إلى قرارها في 19 فبراير/شباط الماضي قطع المعونة العسكرية والأمنية التي تقدر بحوالي 4 مليارات دولار للبنان، على خلفية امتناع لبنان عن إدانة الاعتداءات التي تعرضت لها السفارة السعودية في طهران، في الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي، وبسبب ممارسات حزب الله.

في المقابل، يُحمِّل نهاد المشنوق، وزير الداخلية اللبناني، والوجه البارز بتيار المستقبل، السياسة السعودية في عهد الملك عبد الله، مسئولية الانهيار الذي يعانيه تيار المستقبل. ففي مقابلته مع مارسيل غانم على قناة LDC، صرح المشنوق بأن «السياسة السعودية السابقة هي التي أجبرتنا على الذهاب إلى دمشق من أجل المهادنة مع النظام السوري»، وأن الجهود السعودية هي ما أدى إلى زيارة سعد الحريري إلى دمشق في ديسمبر/كانون الأول 2009، ولقائه الرئيس بشار الأسد.

أيًا من كان المسئول، فقد أدرك الحريري مؤخرًا أن السعودية لم تعد ظهيره الموثوق، وعليه إذن أن يلجأ إلى الداخل معتمدًا على قدرته على المناورة. يقدم الحريري نفسه اليوم كسني معتدل، على استعداد أن يتفاهم مع كل الأطراف، وأن يضحي بالمصالح الضيقة من أجل مصلحة لبنان العليا، ويستخدم، بذكاء، أشرف الريفي الذي كان طعنة في ظهره، كفزاعة في المفاوضات مع عون ليحصل على الوزارة لقاء رئاسة الأخير.


الرجل الأقوى في الطائفة

تعيش في لبنان طوائف عديدة، أكبرها، وفقًا لإحصاء 1932 الذي تمت وفقًا له الترتيبات السياسية للجمهورية اللبنانية، هي: المارون، السنة، الشيعة. اتفق فراس خوري ورياض الصلح عام 1943، أن يكون رئيس الدولة مارونيًا، ورئيس الوزراء سنيًا، ورئيس مجلس النواب شيعيًا، وهو الاتفاق الذي اعتُبر ميثاقًا وطنيًا للبنان.

لكن الميثاق تضمن أيضًا، إلى جانب ذلك، تخلي المارون عن الهوية الغربية والتزامهم بعروبة لبنان، وهو ما لم تلتزمه الأحزاب اليمينية المسيحية، كما تضمن أن يكون نسبة المسلمين إلى المسيحيين في البرلمان (5 : 6)، وهو ما عده المسلمون غبنًا ناضلوا ضده على مدى عدة عقود.

ما تحقق في الطائف، هو حصول المسلمين على نسبة تمثيل في البرلمان تعادل نسبة المسيحيين، فضلًا عن أن رئيس الجمهورية لم يعد يتمتع بذات الصلاحيات الواسعة التي كانت له قبل ذلك. ومنذ ذلك الوقت، صار رئيس الجمهورية رمزًا توافقيًا بين اللبنانيين، لا زعيمًا مارونيًا يحكم لبنان باسم الطائفة، بينما يحكم بالفعل رئيس الوزراء السني المدعوم من السعودية أو سوريا، أو المتوافق عليه بين السنة والشيعة.

على الرغم من كونه مرشح حزب الله، إلا أن عون ليس مجرد حليف لحزب الله، أو أحد أذرع محور إيران. فجنرال الرابية يقدم نفسه باعتباره رجل المارون القوي، الذي يحاول أن يستعيد لبنان الدولة كما حاول قديمًا في بعبدا قبل أن يطيح به العائدون من الطائف. مهما حُسب عون اليوم على 8 آذار وحزب الله، لا يمكن أن يُمحى من الذاكرة أن رأس أولويات عون كان التخلص من الوجود الأجنبي في لبنان، وعلى رأسه الوجود السوري الذي خرجت قوى 8 آذار لدعمه.

بترشح عون، انهارت تحالفات 8 آذار و 14 آذار التقليدية. فجعجع، أحد أبرز وجوه 14 آذار، الذي كان مرشح التحالف الأول ضد عون، أعطى تأييده لعون في يناير/كانون الثاني الماضي، ليجتمع الغائبون عن الطائف في خندق واحد. عشية ذلك الاتفاق، أخرج الفنان اللبناني زين العمر أغنيته «أوعا خيك» احتفاء بالرموز الثلاثة الذين تضعهم الأغنية بصف واحد: بشير الجميل، وسمير جعجع، وميشيل عون. لا يبعد أن تتحقق النبوءة الساخرة لعادل كرم، مقدم برنامج «هيدا حكي» الساخر على MTV، بأن تصير تلك الأغنية نشيدًا وطنيًا للبنان بعد انتخاب عون!

من جهة أخرى، وقبل ذلك الاتفاق بشهر واحد، كان الحريري قد دعم سليمان فرنجية، زعيم تيار المردة، وصديق بشار الأسد، مرشحًا للرئاسة، كمبادرة لحلحلة الأزمة بترشيح أحد رموز 8 آذار، وهو ما رحب به إلى جانب الحريري، كل من وليد جنبلاط من 14 آذار، ونبيه بري من 8 آذار.

التحالفات القديمة ليس هو ما ينهار فحسب، بل قواعد اللعبة السعودية-الإيرانية هي أيضًا ما يهتز في تلك الفاعلية باستعادة المارون لكلمة قوية بين الطرفين السني والشيعي. صحيح أن حزب الله لا زال يحظى بقوة التحكم التي يمده بها سلاحه، وهو ما سبق أن فرض به إرادته منذ اغتيالات 2005-2007، مرورًا بأحداث مايو/أيار 2008، ثم الإطاحة بحكومة الحريري 2011؛ إلا أن ذلك لا يكفي لاعتباره لاعبًا وحيدًا في لبنان كما يتمناه المحور الإيراني.

يدرك الرئيس نبيه بري تلك التحولات العميقة التي تهدد اتفاق الطائف. بري يعتبر نفسه أحد أعمدة نظام الطائف، وهو النظام الذي أعطاه رئاسة مجلس النواب على مدى 24 عامًا حتى الآن، دون انقطاع. لا ينسى بري أيضًا أنه قد فقد اليوم داعمه القوي في سوريا. لذا يقف اليوم وحده، أو بدعم درزي من جنبلاط، لا يكفي وحده أيضًا، ضد انتخاب العماد ميشيل عون.

وقد كانت مبادرة بري في مايو/أيار الماضي التي عرفت بالسلة الرئاسية، التي طرح فيها بري انتخاب مجلس نواب ثم تشكيل الحكومة قبل انتخاب رئيس الجمهورية وفقًا لالتزام مخطوط بين مختلف القوى على النزول للمجلس وانتخاب رئيس، محاولة للحفاظ على التوازنات القائمة حاليًا.

تراجع النفوذ السعودي، تصدع الاصطفاف التقليدي بحسب محوري إيران والسعودية، عودة المارون إلى الواجهة كقوة محلية، هذه هي التغيرات الكبرى التي تتعالى على عرضيات السياق اللبناني، الذي لطالما كان، ولا زال، مرآة تعكس النظام العربي القائم.