في عام 1881م صدر منشور الدعوة الأول للثورة المهدية بالسودان على يد «محمد المهدي بن عبد الله» نصه التالي:

أخبرني سيد الوجود بأني المهدي المنتظر، وخلفني عليه الصلاة والسلام بالجلوس على كرسيه مرارا، بحضرة الخلفاء الأربعة والأقطاب والخضر عليه السلام وأيدني بالملائكة المقربين وبالأولياء الأحياء والميتين من لدن آدم إلى زماننا هذا، وكذلك المؤمنين من الجن. وفي ساعة الحرب يحضر معهم سيد الوجود صلى الله عليه وسلم بذاته الكريمة، وكذلك الخلفاء الأربعة والأقطاب والخضر عليه السلام. وأعطاني سيف النصر من حضرته صلى الله عليه وسلم، وأعلمت أنه لاينصر على معه أحد ولو كان الثقلين الإنس والجن

استجاب لدعوة المهدي الكثير من سكان البلاد الذين وجدوا في دعوته خلاصا من الظلم الجاثم على صدورهم جراء الحكم التركي الذي عاث في الارض فسادا، كون المهدي جيشه من الدراويش والمظلومين واستعد جيدا للتخلص من الأتراك وفي عام 1884 منتصف شهر أبريل/نيسان اندلعت «الثورة المهدية» وتولى «محمد المهدي» حكم البلاد والذي توفي بعد خمسة أشهر من اندلاع الثورة وترك الحكم لخلفائه من بعده.

ولقد استطاعت رواية «شوق الدرويش» للكاتب السوداني «حمور زيادة» تناول حكم المهدية في السودان ببراعة منقطعة النظير صورت خلالها شكل الحكم العسكري عندما يرتدي حلة دينية.


حكم العسكر وأبطال الرواية

عوالم الرواية شديدة القتامة جعلت جميع شخصيات العمل يتخبطون في التيه ويغرقون في وحل العبودية والاستبداد؛ خيط الرواية الأساسي يجسد قصة حب «بخيت منديل» الذي عاش القسط الأكبر من حياته عبدا ثم درويشا بثورة المهدي ثم عسكريا بالجهادية، و«ثيودورا» الراهبة المصرية التي أتت السودان في بعثة تابعة للكنيسة وتم اجبارها على اعتناق الدين الإسلامي وتغيير اسمها إلى «حواء» بعد ذلك، والتي تم قتلها على يد رجال المهدي لأنها حاولت الفرار إلى مصر، وقرر بخيت أن ينتقم من كل من شارك في قتل حبيبته. وخلال تجهيزه لخطة الانتقام تم سجنه لمدة سبع سنوات بتهمة شرب الخمر، ولكن السجن لم يجعل بخيت ينسي ثأره ولو للحظة وعندما خرج بعد سقوط دولة المهدي قرر أن يقتل السبعة الذين شاركوا في قتل حبيبته وانتهي انتقامه بقتله هو شخصيا في النهاية.


حكم العسكر واللغة

لكي يتسني لأي حكم السيطرة على عقول محكوميه عليه أولا أن يضمن ولاء عسكره في البداية ثم امتلاك اللغة؛ وفي هذه الرواية كانت المهدية تملك مفهوما واحدا للرب وطريقا واحدا إليه يتمثل في الجهاد؛ وهذا هو ما أجبر «الحسن الجريفاوي» على تطليق زوجته والانطلاق إلى نصرة الحق على يد رجال المهدية حتي يحظي برضا الله والذي لن يكون بغير هذا الطريق، فلقد انتشرت وقتها واحدية التفسير، واحدية المفهوم، واحدية الطريق، وكان لهذا أثرا تدميرا كبيرا تجلي في المصير الذي لاقي حسن في النهاية حيث أدرك بأنه تورط في سفك الدماء وانتهي به الأمر إلى التخبط والخسارة؛ خسارة زوجته وحبيبته «فاطمة» وخسارة ضميره ودينه.


حكم العسكر والمكان

أبدع «حمور زيادة» كاتب العمل في وصف الأمكنة التي تناولتها الرواية بعد قيام «الدولة المهدية» ففي وصفه لسجن «الساير» ذلك السجن الذي دخله بخيت والذي كان يضم الآلاف من المظلومين الذين تم سجنهم دون محاكمة وتم نسيانهم في غياهب السجن، ذكر الكاتب على لسان إحدي الشخصيات محاورا بخيت «الهواء هنا داخل السجن مقيد مثلهم بقيود المكية يجثم ولا يقدر أن يهب .. عليك أن تحركه لتحصل عليه»

كما أبدع الكاتب في وصف مدينة «أم درمان» تلك المدينة التي أسسها المهدي واختارها مدفنا له، يصفها الكاتب بأنها «حزينة، كالحة، يجللها العناء تتخبط في مشيها، تنحني في مجلسها ويعصف بها الخوف»

والحق أن الكاتب هنا كان يود أن يخبرنا أن الحكم العسكري والاستبداد الناتج عنه هو حالة عامة وليس مجرد نظاما للحكم؛ هو طريقة حياة تتعمد سلب الحرية ويأتي وبالها على الجميع حتي الأماكن الصماء، وهنا تأتي أهمية الأدب الذي يستطيع تصوير هكذا صور وتقريبها للقارئ ليدرك بأن النظام السياسي لا يحكم فقط ولكنه يتخذ قرارات من شأنها تدمير شخصية الأفراد وذلك ما حدث مع شخصية «عطا منة» التي اضطرت أن تأكل رضيعها من شدة الجوع.

و«بخيت» الذي دفعه الظلم والتعطش للانتقام إلى قتل أحد قتلة «ثيودورا» بطريقة وحشية بأن قطع أصابعه واحدا بعد واحد وصب على جرحه الرمل الساخن وحين بدأ يئن كبعير قام بذبحه، و«ابراهيم ود الشواك» الذي كان أحد رجال المهدي المقربين واشتري «ثيودرا» من العسكر ودفعته السلطة بأن يتخذ قرارا بختانها لأنها امتنعت عنه، وقرر قتلها في النهاية لأنها حاولت الهرب، كل تلك ردود الأفعال كانت بسبب تردي النظام السياسي وغياب العدل ، ذلك العدل الذي انتظر المواطنين تحقيقه على يد المهدي ووقفوا وراءه بكل قوة وساندوه ولكنهم اكتشفوا في النهاية بأنهم تشبثوا بحبال واهية سرعان ما انقطعت، وعاش الأبطال لحظات مبتورة من النصر المزيف والحب المزيف ومفهوم الرب المزيف، كانت عوالمهم مليئة بالزيف على آخرها وظلت كذلك.

كما أدركنا مع الكاتب بشكل كبير وخلال تقليب صفحات الرواية صفحة بعد أخري بأن النظام السياسي الذي يتناوله أي عمل أدبي يأتي دائما على خلفية الأحداث؛ ينازع الأبطال على الصفحات البيضاء كما ينازعهم في الواقع. تارة يكون حضوره باهتا وحضور الأبطال قويا؛ حينها تجد أبطالا فاعلين ومؤثرين هم الذين يقودون زمام الأمور ويحددون وجهة الأحداث، وتارة يكون حضوره قويا فيسحب البساط من تحت أبطال العمل الروائي ويحتفظ لنفسه بالنصيب الأكبر من الصفحات ويكون حضور الأبطال محض رد فعل على البطل الأكبر؛ أما أسوأ تجليات حضوره تتمثل فى انتزاعه لحياة الأبطال فهو لا يكتف بمجرد البطولة ولكنه يصر علي أن يسحب الحياة من شخصيات العمل يتركهم بلا أرواحهم فقط أشباح تتحرك بلا حضور؛ فهو إما ديمقراطي يفسح المجال للأفراد كي يصبحوا أبطال حياتهم، وإما حكم مستبد لا يسمح لغيره بالحضور، أو هو حكم عسكري يسحب الحياة من أفراد مجتمعه والأسوا هو الحكم العسكري الذي يتخفي وراء الدين وهو الذي أبدعت رواية «شوق الدرويش» في تصويره.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.