انتشرت في الآونة الأخيرة برامج اكتشاف المواهب، وبات هنالك تنافس واضح بين القنوات الفضائية على استقطاب رموز فنية للترويج والعمل في تلك البرامج ما بين لجان تحكيم ومقدمين.

وربما يعطي هذا الزخم الهائل من هذه البرامج انطباعًا مهمًا عن نجاح الفكرة وانتشارها على صعيد صناعة الإعلام، الأمر الذي ساهم بفعالية في خلق حافز نحو تكرار إنتاجها بشكل مكثف، بتفاصيل ليست جوهرية في الاختلاف بين برنامج وآخر. إذ تقوم غالبية تلك البرامج على وجود لجنة تحكيم ومجال لاستقطاب المواهب من الشباب واتسع الأمر ليشمل كذلك الأطفال، ثم تشملهم بعض الاختبارات للتأكد من صلاحية هذه المواهب في المراحل الأساسية للبرنامج والتي تسبق البث المباشر على الجمهور، وعادةً ما يتم تقديم تلك المواهب والتعليق عليها من قِبل اللجنة التحكيمية، ثمّ التصفية بين المتبارين لاختيار فائز واحد بنهاية العرض من خلال الآراء الترجيحية للجمهور بالإضافة إلى لجنة التحكيم. وتكاد تتشابه كافة البرامج في هذا الخط العام وتختلف فقط في أمور ثانوية كشكل التصميم للبرنامج وهي بالأساس أمور تسويقية ودعائية.

والفكرة نفسها لا يمكن القول بأنها جديدة إذ انتشرت قديمًا في عدة صور لم تكن بالشائعة ويأتي على رأسها تجربة «ستوديو الفن» التي أخرجت العديد من الأسماء الفنية بعالم اليوم على رأسهم ماجدة الرومي، وائل كافوري، راغب علامة ونوال الزغبي وغيرهم، ولكن الصورة السابقة لم يعرفها التلفزيون المصري إلا من خلال برنامج «ستار ميكر» الذي بدأ في عام 2003 وتزامن معه أيضًا نسخة مُعربة من البرنامج العالمي آنذاك «ستار أكاديمي» وحملت نفس الاسم.

إلا أن التجربة الثانية حملت قدرًا أكبر من المعايشة للمشاركين وسعت إلى تصوير العديد والعديد من اللحظات والمشاعر الخاصة بهم، وإن كان السياق نفسه قد ابتعد عن التنافس الفني الذي هو بالأساس محور البرنامج، إلا أنه في سابقة جديدة، قدم لحظات متصلة بحياة هؤلاء المتسابقين للجمهور العربي.


مصداقية الأرباح

على الرغم من التنامي العددي لتلك الظاهرة، إلا أنه ببساطة شديدة نكاد نلحظ عدم وجود أسماء رنّانة شقت طريقها إلى عالم الفن على المستوى الجماهيري، وبالرغم من كثافة الإعداد والتسويق إلا أن هذه الزيادة لم تقدم إسهامات ملحوظة على صعيد الفن.

وكمؤشر بسيط على التطور الضخم في متابعة تلك البرامج، نجد أن أحد تلك البرامج وهو «The Voice» حقق نسب مشاهدة تجاوزت المائة مليون مُشاهد، وهو ما يؤكد أن الهدف الحقيقي لتلك البرامج لا يخرج عن التسلية والترفيه للمشاهد العربي، والذي يعي بدوره أيضًا هذه الأهداف، وبالتالي تدور العملية في حلقة مفرغة فليس ثمة مجال للخروج عن هذا الإطار. ووفقًا لآراء العديد من الفنانين والمهتمين بالحركة الفنية يكاد ثمة إجماع في وجود أهداف محددة لمثل تلك البرامج ليس من بينها رعاية المواهب الدفينة أو اكتشافها.

إضافة إلى ما سبق تثور شُبهات عدة في طريقة الاختيار لتلك البرامج والتي تعود إلى مؤهلات لجان التحكيم أنفسهم، إذ في كثير من الحالات يكونون من غير ذوي الاختصاص – عمرو أديب كان في لجنة تحكيم الموسم الأول من برنامج «اراب جوت تالنت» – وحتى كون المحكمين من أهل المجال، إلا أنهم وفي حالات كثيرة يفتقدون إلى معايير التقييم ذاتها لا سيما أننا نتحدث عن أنشطة غاية في التركيب مثل الغناء والذي يتألف من أنشطة معقدة ومتشابكة يلعب فيها المغني دور ًا واحدًا يعتبر هو الدور الأخير إلا أن اكتشاف الموهبة وتوجيهها وصقلها لا يقع بالأساس على المغني الذي يُشبه إلى حد كبير الممثل الخاضع لتوجيه المخرج، المسؤول عن توجيه ملكات هذا الفنان إلى مرحلة التأثير في المشاهد. ومن ثمّ فعملية التحكيم برمتها لا تعدو كونها أكثر من إطار صوري وواجهة تسويقية للبرنامج.

كذلك نظام التصويت، وهو القاسم المشترك الأهم بين كل البرامج، والذي يضرب مصداقية العملية برمتها، ويحول المشروع بأكمله من مشروع فنان إلي مجرد أداة استهلاكية تستهدف الوصول إلي أكبر ربح ممكن من خلال نظام الرسائل القصيرة، والتصويت الإلكتروني من خلال المواقع وصفحات التواصل الاجتماعية، مما يعطي القنوات مجالًا استراتيجيًا لتسويق المشاهدين لشركات الدعاية والإعلان سواء عبر الإنترنت أو عبر القناة الناقلة.

ولعل الفكرة الأبرز في بند الاعتماد على آراء الجمهور هي التأكد من صناعة الفنان جماهيريًا، وقياس مدى اقتناع الجمهور بتلك الموهبة من عدمه، إلا أن هذا الزعم يخفي من الحقيقة أكثر مما يبدي، فلا يكاد يخفي على أي متابع الوزن النسبي لتلك البرامج فضلًا عن موازين الدعاية التي يتم اللعب عليها باستمرار والترويج لها خاصة في ظل أزمات العديد من الأقطار العربية. فيتم التسويق دومًا للأمر باعتباره صراعًا إقليميًا على سيادة الفن، بالإضافة إلى اللعب على أوتار المشاعر الملتهبة بالتسويق لمتسابقي الضفة على سبيل المثال باعتباره ممثلًا عن القضية الفلسطينية، واللعب على أوتار الحزن لمتباري سورية والعراق والتمجيد بمصر أهل الفن والفنانين.


الموسم الرابع من «اراب جوت تالنت»

انطلقت فعاليات الموسم الرابع من برنامج «Arab Got Talent»، على قناة MBC السبت 12 مارس 2017، وما لبث أن تحولت الحلقة الأولى إلى مسار حديث ساد أغلب أوساط التواصل الاجتماعي. وعلى الرغم من الاعتياد على الصخب المصاحب لهذه البرامج، إلا أن الأمر خرج عن بعض المألوف هذه المرة، إذ سادت عاصفة من السخرية والتهكم المشوبين بالعنف على بعض المتسابقين.

استهل الأمر شاب مصري يؤدي عرضًا قتاليًا يبدو مضحكًا في أغلب فقراته، العرض بحد ذاته لم يكن يمت بأية صلة لأي نوع من أنواع الفنون أو القتال، مما كان له بالغ الأثر على لجنة التحكيم، ما بين الدهشة والاستغراب والرغبة في الضحك، إلا أن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد وتطور إلى السخرية من المتسابق ومن طريقة كلامه وأفكاره، فضلًا عن عدم تمكنه من نطق الإنجليزية بشكل سليم عندما ذكر اسم الممثل الامريكي «أرنولد شوارزنيجر». مما يُعيد للأذهان طريقة نطق أحمد حلمي بإنجليزية ركيكة ومتكلفة في فيلمه «عسل أسود».

وما إن انتهت تلك الفقرة حتى تلتها فقرة أخرى لمتسابقة مصرية قدمت أداءً غنائيًا واستعراضيًا لأغنية «الدنيا ربيع»، قابلتها لجنة التحكيم بعاصفة من الانتقاد اللاذع الممزوج بالسخرية، بداية من أحمد حلمي، بشكل أشبه إلى تحقيقات ضباط المباحث وهو يسعى إلى استنطاق المتسابقة للاعتراف بعدم قدرتها على الغناء أو الرقص، أعقبه مدير عام قنوات MBC علي جابر والذي علّق بشكل فيه من الشدة ما يفوق تورية أحمد حلمي التهكمية إذ وجه كلامه للمتسابقة بشكل مباشر: «ولا هتقدري تبقى معنا من بعد هالبيرفورمانس لأن لا علاقة لكي لا بالغناء ولا بالرقص ولا التمثيل»، مما دفع المتسابقة لاستعطاف اللجنة ومحاولة إظهار مقومات فنها بأنها كانت تؤدي بعض العروض بفرق الرقص الشعبي فضلًا عن تخرجها في كلية تربية رياضية.

أما التعليق الوحيد الخالي من التهكم أو النقد الجارح، فكان من الفنانة «نجوى كرم» والتي ذكرت بابتسامة بسيطة أنها تركتها تستكمل عرضها للنهاية احترامًا لحلمها الذي تسعى لتحقيقه والذي من شأنه أن يجعلها سعيدة، أخذًا بالاعتبار رفضها التصويت لصالح المتسابقة إذ لم يعجبها الأداء الغنائي ولا الاستعراضي. وفي محاولة ختامية سعت المتسابقة لتبرير موقفها، فثار «علي جابر» موجهًا كلامه للمتسابقة: «صوتك مش حلو» ليتدخل أحمد حلمي في محاولة لتلطيف الموقف؛ «أنا بحاول أبعده عنك بس أنت مصممة».


المتاجرة بأحلام البسطاء

وبصرف النظر عن تقييمنا لموهبتها إلا أنها تصرفت وبلا شك بشجاعة نفتقدها جميعًا في تحقيق الكثير والكثير من أحلامنا، وهنا بعض الحقائق الغائبة عن الذهن إذ تُشير الإعدادات الخاصة بالبرنامج إلى اختبار المواهب المتقدمة من خلال ما يُعرف بتجارب الأداء الأوليّة، ومن ثمّ فإن قبول تلك الفتاة ومن قبلها شاب المهارات القتالية، ينمُ بشكل مباشر عن خطأ في الإجراءات وهذا بافتراض حُسن النية، إذ تم قبولهما بشكل خاطئ – وهو تفسير غير منطقي في تلك الحالة – أخذًا بالاعتبار ما ذكرناه من الرغبة في التسويق وتحقيق الانتشار لأول حلقة من البرنامج مما يؤكده التهيئة التي تمت على المسرح سواء للشاب أو للفتاة بإحضار تلك الأرجوحة التي استخدمتها الأخيرة في العرض، الأمر الذي يؤكد حقيقة استخدام إدارة البرنامج لهؤلاء البسطاء بشكل غير إنساني لتحقيق منافع ومكاسب رأسمالية لترويج هذا السخف والتبجح بانتقاده والتهكم عليه علنًا دون أي مراعاة لمشاعر الآخرين.

التبرير الثالث لهذا الكم من السخرية يرجع إلى فكرة أنه من المعتاد على تلك البرامج استخدام هذا القدر من الشِدة في اللوم والانتقاد، مما يضفي درجة من المصداقية الممتزجة بأداء تمثيلي باهت يهدف إلى إيهامنا بالقيمة الفنية للبرنامج، ومن هذا المنطلق يمكننا أن نتساءل ما القيمة الفنية لهذا البرنامج بالأساس؟ وما قيمته المُضافة؟ فبتتبع المواسم الثلاثة السابقة يمكننا الوقوف على حجم إسهام البرنامج في الحركة الفنية.

كذلك اعتمد البعض على تسويغ ما تم بقبول المتسابقين ضمنيًا لفعاليات المسابقة بما تحمله من احتمالات للانتقاد، وفي هذا الزعم مغالطات عديدة، فالقبول لا يخلق حقوقًا بهذا المعنى، وإلا صارت الرذائل المشتركة سلوكيات عادية لا تستوجب العقاب لمجرد قبول طرفيها بالفعل، كذلك الفعاليات نفسها تستهدف التقييم الفني وليس التجريح في الشخص أو النيل منه واستخدامه كأداة لإضحاك الآخرين.

ثم هناك أيضًا تصور أن هذا الأسلوب هو الشائع إلا أن شيوع الفساد أو سوء الخلق والعنصرية ما هي إلا مجرد أمور مذمومة في أي ثقافة وأي توقيت، فالسلاح الذي استخدمه بعض أعضاء اللجنة باستثناء الفنانة نجوى كرم، من الممكن وببساطة أن يتم إسقاطه مباشرةً على المحكمين أنفسهم، إذ نحن إزاء برنامج ترفيهي مُقلد بالأساس، لم يُضف أي قيمة فنية، عليه الكثير من الشبهات، من نصبوا أنفسهم حكامًا ما هي إسهاماتهم التي استندوا إليها لتجريح إنسان؟ وما هو الوزن النسبي لهم بين مصاف العلماء والمفكرين والفنانين؟ إن السخرية والتهكم وإن صارا مبدأًين فسيطالان الجميع وبلا استثناء.

ومن هنا فإن لم نستطع أن نحجب أنفسنا عن إتيان خلق ذميم كالاستهزاء من الآخرين لعدم حضور دوافعه الفلسفية والإنسانية، فلنستدعي إذن الدوافع المادية البحتة في عدم رغبتنا في التعرض لسخرية وسخافة الآخرين.