إنهم خضعوا للتنصير، ولكنهم لبثوا كفرة [بدين النصرانية] في سرائرهم، وهم يذهبون إلى القُدّاس تفاديًا للعقاب، ويعملون خفية في أيام الأعياد، ويحتفلون يوم الجمعة أفضل من احتفالهم بيوم الأحد، ويستحمّون حتى في ديسمبر، ويُقيمون الصلاة خفية، ويُقدّمون أولادهم للتنصير خضوعًا للقانون، ثم يغسلونهم لمحو آثار التنصير، ويُجرون ختان أولادهم، ويُطلقون عليهم أسماء عربية، وتذهب عرائسهم إلى الكنيسة في ثياب أوروبية، فإذا عُدن إلى المنزل استبدلنها بثياب عربية، واحتُفل بالزواج طبقًا للرسوم العربية.

المطران جريرو عن المورسكيين بعد احتلال غرناطة بسبعين سنة!


لماذا كتب أفوقاي «ناصر الدين»؟

حين مرّ أحمد بن القاسم الحجري الأندلسي المعروف بأفوقاي، بمصر، عقب رجوعه من الحج في العام 1047هـ/1637م، تقابل مع الشيخ علي بن محمد بن عبد الرحمن الأُجهُوري الفقيه المالكي بمصر، وهي يومذاك تحت سيادة العثمانيين. وفي ذاك اللقاء تتابعت الذكريات على أفوقاي، وانساب حلو الكلام بين الرجلين، حتى أخرج الأندلسي ما في جعبته من ماض حوى من المغامرة والرحلة والعلم والاعتزاز بالدين ما حوى!

لقد ذكر أفوقاي للأجهوري محادثاته مع الفرنج والإسبان، والقساوسة الكبار في إشبيلية وغرناطة، ومناظراته الدينية معهم حين أرسله سلطان الأشراف السَّعديين في المغرب الأقصى سفيرًا إلى فرنسا وهولندا؛ تلك الحكايا التي رآها الأجهوري علمًا مستفيضًا، وتجربة تستحق أن تعرفها الأجيال القادمة، جعلتخ يحضّ ابن القاسم الأندلسي على كتابتها، دون تأخير أو تباطؤ، وهي النصيحة التي قَبلها أفوقاي مرحبًا ومُجدّاً، فأخرجها في كتابه «ناصر الدين على القوم الكافرين» المشتهر بـ «رحلة أفوقاي الأندلسي» أو «مختصر رحلة الشهاب إلى لقاء الأحباب»، وهو كتاب أقرب ما يكون للمذكرات الشخصية التي تتعدد أهميتها العلمية بالنسبة إلينا.

فهذه المذكرات كُتبت في القرن السابع عشر الميلادي، وتعطي لنا معلومات تاريخية عن معاناة الموريسكيين في طورهم الأخير قُبيل الطرد النهائي على يد الملك الإسباني فيليب الثالث بدًءا من العام 1609م، وتأتي أهميتها لكونها تاريخًا كتبه مورسكي بخط يده، فجاءت شهادته حية على تجربة بني جلدته وأهله ومعاناتهم، ثم هي تاريخ للعلاقة بين المورسكيين والإسبان يومئذ، وكيف فضّل الإسبان بعض المورسكيين على بعض لمصالحهم الشخصية، ثم هي تاريخ مهم للعلاقات الدولية بين المسلمين في المغرب وبين الفرنسيين والهولنديين، أولئك الذين نشط قراصنتهم وبحّارتهم في البحر المتوسط، فجاءت قرصنتهم ونهبهم لأولئك الأندلسيين المـُهجَّرين قسريًا معاناة فوق المعاناة، وألمًا فوق الألم، ولم يجد هؤلاء الضعفاء إلا سلطان المغرب في حاضرته مرّاكش ليشكوا إليه ما حلّ بهم من نهب آخر ما خرجوا به من وطنهم الأندلس، ومن ثم كان لزامًا على السلطان المغربي مولاي زيدان السعدي (ت: 1037هـ/1627م) أن يُرسل سفيرًا حاذقًا، عارفًا باللغات الإفرنجية، فلم يجد أفضل من ذلك المورسكي الترجمان، ليكون سفيرًا ورسولًا لينقل إلى الفرنسيين والهولنديين معاناة أهله، وذاك ما قام به أفوقاي أفضل قيام.


أفوقاي بين فكي القساوسة!

منذ قرن وأكثر والدراسات عن المورسكيين تتوالى، منها ما اهتم بأوضاعهم السياسية، ومنها ما اهتم بعالم الأفكار الذي دانوا به، ومنها الذي تعلَّق بإسهاماتهم الاقتصادية، وغيرها، وهي دراسات قوية ومثيرة للاهتمام، بل ومثيرة للمشاعر والعواطف على حال أولئك القوم المستضعفين.

في القرن السادس عشر الميلادي، ومنذ استيلاء فرناندو وإيزابيلا على غرناطة في يناير 1492هـ/897هـ، كان الاتفاق المبرم القاضي بحفظ حقوق المسلمين مع أبي عبد الله الصغير يُنقض دفعة دفعة كلما مرت السنوات على ترسيخ السيادة الإسبانية، وكان الذي تولى كبر هذا النقض متعصبو القساوسة والقادة العسكريون المحليون، لكن أدى هذا التضييق إلى اندلاع الثورات المورسكية، تارة في داخل غرناطة مثل ثورة حي البيّازين، وتارة خارجها مثل ثورة محمد الأموي في سلسلة جبال وقرى البشرات.

في عام 1565م، وبعد أكثر من نصف قرن على السقوط، كتب المطران جريرو عن الموريسكيين قائلاً: «إنهم خضعوا للتنصير، ولكنهم لبثوا كفرة [بدين النصرانية] في سرائرهم، وهم يذهبون إلى القُدّاس تفاديًا للعقاب، ويعملون خفية في أيام الأعياد، ويحتفلون يوم الجمعة أفضل من احتفالهم بيوم الأحد، ويستحمّون حتى في ديسمبر، ويُقيمون الصلاة خفية، ويُقدّمون أولادهم للتنصير خضوعًا للقانون، ثم يغسلونهم لمحو آثار التنصير، ويُجرون ختان أولادهم، ويُطلقون عليهم أسماء عربية، وتذهب عرائسهم إلى الكنيسة في ثياب أوربية، فإذا عُدن إلى المنزل استبدلنها بثياب عربية، واحتُفل بالزواج طبقًا للرسوم العربية».

في ظل ذلك الحال من التدافع المورسكي، والاستضعاف نشأ وشبّ شهاب الدين أحمد بن قاسم الحجري، المعروف بأفوقاي الأندلسي، أي المحامي، ولعله لَقب لُقِّب به لدفاعه عن قضايا بني جلدته من المورسكيين، ويدل نسبه الحجري إلى قرية كانت قريبة من غرناطة تُسمى الحجر الأحمر. بدأ أفوقاي يلمع اسمه حين هدم كبير القساوسة في غرناطة منارة مسجدها القديم في العام 996هـ/1588م، وكانت كما يذكر قد بُنيت في عصر نيرون أثناء الدولة الرومانية القديمة، وقد استغلها المسلمون في بناء مسجدهم، وفي أثناء الهدم وجدوا صندوقًا فيه رق مكتوب باللغة العربية، فلجأ القساوسة إلى بعض الشيوخ من كبار التراجمة من المسلمين، «فنادوا الأكَيْحَل الأندلسي وكان تُرجمانًا بالإجازة، والشيخ الصالح الجَبِّسْ، وغيرهما من الأندلسيين كبار سن الذين يعرفون القراءة العربية، وأمرهم القسيس بترجمة ما في الرق العربي كل واحد وحده، وتارة يجمع بينهم، ولم يحيطوا بفهمه».

على أن بعض الكُتب الأخرى التي جاءت إلى غرناطة من مدينة جيان، وفيها إشارات لهذا الرق وأهميته جعلت القساوسة يعيدون الكرة لمحاولة فهم ما فيه، كان أفوقاي بمثابة التلميذ للجبس والأكيحل، وتلك المرة كان يتدخل لإيضاح بعض المبهمات على المجتمعين، وانتبه القساوسة إلى صحة آراء ما يذكره هذا الشاب الصغير، وسرعان ما رفعوا خبره إلى كبيرهم في غرناطة، وحين جاءه أحدهم يقول له: «القسيس الكبير أمر أن تمشي معي إلى حضرته، قُلتُ في نفسي: كيف الخلاص والنصارى تقتل وتحرق كل من يجدون عنده كتابًا عربيًا ويعرفون أنه يقرأ بالعربية؟!».

على أن أفوقاي خرج من موقفه العصيب ذاك، ومن مشانق ومحارق محاكم التفتيش بالكذب والحيلة، فهو يقول: «وتسترتُ بالكذب من شرّهم». لكن القساوسة تغاضوا عنه في حقيقة الأمر لاحتياجهم إليه لفك رموز ألغاز هذا الرق!

كان الرق عن راهب مسيحي قديم من الأتباع الأُوَل للمسيح عيسى ابن مريم، وهو الراهب سسليوه الذي «مشى في طلب العلم إلى مدينة أطيناش (أثينا) ببلاد اليونان حيث يُقرَأ العلم بكل لسان»، ذاك الراهب المسيحي القديم الذي تلقى العلم من أحد حواري عيسى ابن مريم بعد ارتفاعه بعشرين سنة –فهو بهذا قريب عهد بالمسيحية–، وقد خاف أحد الرهبان بطش نيرون فجعله في هذا الحائط، حيث بقي فيه إلى حين اكتشافه في ذلك الوقت.

لقد قرأ أفوقاي في طُرّة الرق، أي في هامشه، هذه العبارة: «يا طالب اللغز اقرن»، ثم قرأ: «باسم الذات الكريمة المتلبيبة» والمتلبيبة كما يترجمها أفوقاي النفس المجردة الخالصة الساذجة غير المركَّبة، الواحدة. وبهذا صحح أفوقاي الفهم الخاطئ الذي اعتقده القساوسة عند القراءة الأولية للنصّ، وهي «باسم الذات الكريمة المثلثة»، فهو يقول: «وذلك كذب؛ لأن حروف المثلثة خمسة، والمتلبيبة سبعة».

تمكن أفوقاي من ترجمة المتن كاملًا، والذي كان يُبشر بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ومن اللافت أن كبير القساوسة آنذاك أمر بترجمة هذه الترجمة التي أثبتها أفوقاي، وكتب نسخة منها باللاتينية وأرسلها إلى البابا في روما، إلا أن بعض القساوسة اعترض على هذه الترجمة، وأصر على إرسال الترجمة محرّفة كما يقول أفوقاي، ثم يُعلق هو على هذا التحريف والتدليس بقوله: «فقلتُ في نفسي: هذا الذي كُتب في زمن سيدنا عيسى أو بإثره، فهو عندي أصحّ من الذي عندهم الآن».


أفوقاي بين أقرانه الحجريين

بعد تلك الترجمة، وهذا الحذق من ذلك الشاب الحجري الذي ذاعت شهرته، وأُعطيت له إجازة/رخصة لمزاولة الترجمة من العربية إلى العجمية/الإسبانية، عرف الشاب اليافع أن نفرًا من أقرانه الحجريين قد وصلوا إلى غرناطة ونزلوا بأحد فنادقها. كان أفوقاي يُطالع كتاب الإدريسي الشهير «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق» فأخذه معه إلى رفاقه، فلما وصل إليهم ورحّب بهم، فتح الكتاب. وهذا الموقف لابد من سرده، إذ يكشف بلسان مورسكي قُبيل الطرد ببضع عشرة سنة، كيف وصل حال أولئك القوم من الأندلسيين المستضعفين، يقول:

«فمشيتُ إليهم والكتاب عندي، وبعد السلام والكلام، فتحتُ الكتاب، فلما رأوه مكتوبًا بالعربية دخلهم الخوف العظيم من النصارى، وقلتُ لهم: لا تخافوا لأن النصارى يكرمونني ويُعظّمونني على القراءة بالعربية. وكان أهل بلدي جميعًا يظنون أن الحرّاقين من النصارى الذي كانوا يحكمون ويحرقون كل من عليه شيء من الإسلام أو يقرأُ كتب المسلمين، ومن أجل ذلك الخوف العظيم كان الأندلس (أي المورسكيين) يخاف بعضهم من بعض، ولا يتكلمون في أمور الدين إلا مع من كان ذمّة ذا أَمَنَة، وكثير منهم كانوا يخافون بعضهم من بعض، وكان فيهم من يحب يتعلّم شيئًا من دين الله ولا يجدون من يُعلِّمهم. ولما كنتُ عازمًا على الانتقال من تلك البلاد إلى بلاد المسلمين، كنتُ أُعلِّمُ جميع من أراد أن يتعلم من الأندلس في بلدي وغيرها من البلاد التي دخلتها».

يبدو أن هذه الجرأة التي لم يعتد عليها المورسكيون من مورسكي مثلهم منذ مائة عام على سقوط غرناطة قد أصابتهم بالصدمة والحيرة حتى إنهم صرّحوا لبعضهم أن مصير أفوقاي هو الحرق كدأب من قام بذلك من قبله. يقول أفوقاي: «بلغ الحال بي حتى إذا وقفتُ مع جماعة للكلام نرى كل واحد منهم ينسل حتى أبقى وحدي منفردًا، ومن أجل ذلك قصدتُهم وفتحتُ الكتاب إليهم؛ لنريهم ما أنعم الله تعالى عليّ به، إذ أبدل لي الخوف بأمن، والعقوبة والإهانة والذل بعزة وكرامة».

في مقالنا القادم سنرى كيف كانت الأيام الأخيرة للشهاب أحمد بن القاسم الحجري الشهير بأفوقاي الأندلسي، في غرناطة، وكيف كانت خطته للهروب من جنوب الأندلس إلى البرتغال ومن ثم إلى المغرب، وكيف استقبله المغاربة استقبالًا ممزوجًا بين الدهشة والفرح والترحيب!

المراجع
  1. رحلة أفوقاي الأندلسي، تحرير وتقديم محمد رزوق، الطبعة الأولى، دار السويدي للنشر – أبو ظبي 2004م
  2. محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، نهاية الأندلس وتاريخ العرب المتنصرين، مكتبة الخانجي – القاهرة.