قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):

لا فضل لِعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض إلّا بالتقوى، الناس من آدم وآدم من تراب

ديننا الإسلامي دين شامل لكل ما يُصِلحنا نحن البشر في حياتنا الدنيا، ليس فقط يخبرنا كيف نعبد رب العالمين فنحسن عبادته، لكنه أيضًا يخبرنا ما به تستقيم حياتنا ومن دونه تعوج وتضطرب كأنها بحر هائج لا يستقر.

في حديثه هذا، الحبيب المصطفى يؤصل لقاعدة هي أحد أهم قواعد التربية السوية والفكر السديد؛ وهي أنه نحن البشر سواسية كأسنان مشط، لا فضل لأحدنا على آخر مهما كان جنسه أو بلده أو لونه أو ثراؤه أو غناه إلا بتقوى الله، كلنا لآدم وآدم من تراب.

ولأنّ ديننا ليس دينًا نظريًا يَعدنا بحياة مثالية في الدنيا، بل دين يفهم طبائع الحياة والناس بشكل عجائبي، كيف لا ومُنزِله رب العالمين الذي هو أقرب إلينا من حبل الوريد!؛ لذلك لم يخبرنا أننا سنكون سواء في الشكل والمال والجاه، بل أخبرنا أننا سنُخلق مختلفين كثيرًا، وفي هذا بلاء وتمحيص لمن أُوتي النعمة ومن سُلبها على حد سواء، سنكون متفاوتين في الدنيا بين غني وفقير وقوي وضعيف وجميل وأقل جمالاً وصحيح وعليل!، لكنه أيضًا علمنا في قرآنه وهدي نبيه أن كل هذا لا يصنع فارقًا في الموازين يوم القيامة وإنما التقوى والعمل الصالح!.

هنالك، في عهد ذهبي بعيد وَعَي هذا أفاضل الناس وخيارهم، أن الفلاح بنَفس المرء وقلبه وعمله دون أصله ونسبه وغِناه. عهد امتلك مُربيًا من نوع خاص جدًا، لم يأبه بأن يخرج جيلاً جميلاً أو غنيًا يملك الأرض من أقصاها لأدناها، لم يحاسب ولم يفاضل ولم يطرد أحدًا عنه.

كان خير عون للجميع باختلاف أشكالهم وأنسابهم وقربهم من الله، كان الحبيب معلمًا مُختارًا من فوق سبع سماوات، لا ليُعَلّمهم دينهم فقط بل ليعلمهم كيف يكونون بشرصا مسلمين أسوياء.. لم ينفِ وجود التباين لكنه احترمه وقدره ولم يلفظ أحدًا، لم يكن كَقوم نوح الذين قالوا لنبيهم: «وما نراك اتّبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي».

يومًا ما غارت أمنا الطاهرة حبيبة المصطفى عائشة من حب رسول الله لزوجته الراحلة خديجة بنت خويلد درة نساء العالمين، فقالت تدفعها غيرتها: «هَلْ كَانَتْ إِلا عَجُوزًا، فَقَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرًا مِنْهَا»، تقصد أن خديجة كانت تكبر رسول الله بخمسة عشر عامًا، وأنه أبدله بها بكرًا صغيرة، تقول:

فَغَضِبَ حَتَّى اهْتَزَّ مُقَدَّمُ شَعْرِهِ مِنَ الْغَضَبِ، ثُمَّ قَالَ: «لا وَاللَّهِ مَا أَخْلَفَ اللَّهُ لِي خَيْرًا مِنْهَا، وَقَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِيَ النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي وَكَذَّبَنِي النَّاسُ، وَوَاسَتْنِي مِنْ مَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ، وَرَزَقَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الأَوْلادَ مِنْهَا، إِذْ حَرَمَنِي أَوْلادَ النِّسَاءِ»، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَقُلْتُ بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِي: لا أَذْكُرُهَا بِسَيِّئَةٍ أَبَدًا

لم يكن رسول الله فقط يسرد بعضًا من فضل خديجة أنها كانت الأمان والمُصَدِّقة والسائرة بجانب زوجها في طريق شديد الوعورة يسقط فيه رجال أشداء وأحسنت هي عبوره، وفي بيته زوجًا حنونًا محبة تحتوي مخاوف حبيبها وهمومه.

ليس هذا فقط ما يُرسيه رسول الله بكلماته تلك، بل كانت يُرسي مبدأ أن الحب لا يقاس بعمر حبيب ولا شكله بل بعطاء وارتباط روحين وإيثار متبادل وتضحية. وكذلك فعل حين أحب بلالاً العبد وجعله مؤذنًا، وكان عمر بن الخطاب، وهو من هو، يقول: «أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا». بلال سيد عمر الفاروق، لله درّكم من أناس تعرفون قيمة من أمامكم ولا تنساقون وراء مظاهر تخدع أو أموال تفنى وتذهب!.

لا عجب أن أخرج هذا الجيل رجالاً أشداء أسوياء، لا يشعرون الدونية مهما افتقروا ولا يهمهم الدنيا ولو حيزت لهم بحذافيرها. هاهنا، لسوء الحظ وقلة اتّعاظنا، نجد أننا وسط أناس غفلوا عن هذه الدرر البهية أو تغافلوا عنها. يتحدثون عن غنيٍ بهيبة واحترام، وفقيرٍ باستهانه واحتقار!، يتحدثون عن كلية قمة وغير قمة!، وأنّك لابد أن تفوز الفوز العظيم بدخول إحدى كليات الطائفة الأولى وليس الثانية وإلا ستبوء بالخيبة والخسران وسيرونك فاشلاً لم تحقق شيئًا -زي أصحابك!.

يضعون للفتيات مسابقات جمال مذ شَببن، فهذه جميلة وتلك عادية وتلك قبيحة لا تسرّ ناظرًا ولا تقرّ عينًا. هذه ذات جسد ممشوق، وتلك رفيعة كعود قصب، وتلك سمينة كالفيل!، فتجد من نشأن دون هذه المقاييس العوراء قد فقدن ثقتهن بأنفسهن وتكوّنت بداخلهن جروح عميقة وتمكّن منهن الاعتقاد: أنا دونهن.. أنا درجة ثانية!.

وإمعانًا في الأذى والإضرار – بقصد أو دونه – تجد أنهم يتربصون بهنّ حتى إذا شببن عن الطوق قليلاً بدأت مسابقات من نوع آخر، فتلك تزوجت وتلك لم تفعل!، وتلك أنجبت وتلك لم تفعل!، وتلك أنجبت البنين والأخرى كل رزقها بنات!، ما أسفههم إذ يُعَيرون خلق الله بشيء هو كله قدر الله!.

وكنوع آخر من التمييز هناك ملتزم وغير ملتزم، وهذه مما يَعجب لها العقل، يصنّفون الناس في شيء هو أخص ما بينهم وبين ربهم، علاقتهم بخالقهم، وهم في ذلك يعتمدون على مظهر يُبدَى لهم، ويتمادون في معاملة كل طائفة حسب اعتقادهم عنها.

فالملتزم في ظنهم يجب أن يسير على خطى الدين حرفًا حرفًا فإن رأوه ذل أو أخطأ سنوا له سكاكينهم وأمطروه وابلاً من حديث فظ.. كيف تفعل مثل هذا وتدعي أنك ملتزم وقريب إلى الله؟!، عذرًا أنا لم أدّعِ؛ بل أنتم من قررتم عني!، أنتم من ظننتموني ملاكًا، وعندما فوجئتم ببشريتي وأني أصيب وأخطئ كدَيدن البشر أعرضتم!.

والعكس بالعكس. إذا رأوا غير ملتزم في ظنهم اعتقدوا فيه ميلاً عظيمًا فهذا ما يُبديه مظهره وما تدله كلماته!، ولعل له مع الله حال يفوق غيره وهو يخطئ في مظهره مثلما يخطئ البشر فما أدراك؟، عساه يتوب قريبًا فتُقبل منه وتبوء أنت بإثمك فتكون من الخاسرين!.

تبًا لها من حياة تلك التي نعيشها، تلك عدسة مجتمع يصنفنا كما يشاء ويضع لنا مقاييس لحياتنا ما أنزل الله بها من سلطان. يصدرون أحكامًا ويتنابزون بألقاب تدمي القلوب. يُنشِئون إما أناسًا يلهثون وراء معاييرهم نجاحًا وشكلاً وغنًى، مشتتون في حياتهم لا يدركون سعادة ولا يجدون مستقرًا، إن أُعطوا واديًا من ذهب لتمنّوا امتلاك الثاني، جُعِل فقرهم بين عينيهم.

أو أناس ثقتهم بأنفسهم مهتزة كأنما مسّها زلزال، مهما بلغوا من النجاح والصلاح يرون أنهم دون التوقعات .. أناس معطوبون من دواخلهم وإن لم يظهروا ذلك، سئموا أن يكونوا موضع اختبار وفشل دائمًا دون أن يكون لهم يد فيه.

أو أناس قرروا أن يُلقوا بعرض الحائط الناس وحديثهم وتصنيفاتهم جميعًا، لا يعبأون بنظرة أو قول ولا يفعلون إلا ما يرضي ربهم ويشبع شغفهم ويجعلهم أسوياء سعداء.. لسان حالهم: «إنهم يقولون.. ماذا يقولون؟.. دعهم يقولون!».

«أعمالنا في الحياة هي وحدها الحياة، لا أعمارنا، ولا حظوظنا، ولا قيمة للمال أو الجاه أو العافية أو هي معًا إذا سُلِب صاحبها الأمن والقرار»، كما قال الرافعي. وأصبح التحدي الآن لكل أب وأم كيف يُنشئون أبناء أسوياء لا يعبأون بالناس قالوا أو صمتوا ولا يلتفتون لغير الله!.

«وتحسب أنك جرم صغير .. وفيك انطوى العالم الأكبر!».