ننشر هذا التقرير ضمن سلسلة مقالات نتناول خلال العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة وأهم البلدان الفاعلة على المستويين الدولي والإقليمي. أحد أهم هذه البلدان بلا شك (جمهورية كوبا) التي يفصلها فقط عن شواطئ الولايات المتحدة مضيق فلوريدا؛ غير أنها ذات مرة جعلت العالم على شفير حرب نووية مدمرة لولا تدارك الأمر فى لحظاته الأخيرة.


كوبا الثورة

كلمة السر في هذه الثورة هو فيدل كاسترو، الرجل الذي جاء كوبا -أواخر عام 1956- على متن قارب صغير يحمل 82 رجلا واستقر على سواحله مع رفاقه بهدف إنشاء حركة مقاومة مسلحة ساعد على تقويتها الحظر الأمريكي الذي كان مفروضا آن ذاك على النظام الكوبي برئاسة باتيستا. ودخل المتمردون العاصمة يناير 1959 واستولوا على السلطة في البلاد وأقرت المحكمة العليا فى كوبا الثورة مصدرا للتشريع والحكم.

بالطبع لم تكن الثورة فى كوبا قاطعة طريق وإن قادتها مجموعات مسلحة كان على رأسهاكاميلو سيينفويغوس و تشي غيفارا وراؤول كاسترو فهذه المجموعات تمتعت بحاضنة شعبية كبيرة رافضة لحكم باتيستا الذي اشتهرت عقود حكمه بالفساد والقمع وضياع العدالة الإجتماعية وسيادة الطبقية في المجتمع فعلى سبيل المثال بينما كان يتمتع 87% من سكان المدن بالكهرباء كان 7% فقط من القرويين يتحصلون عليها، وسادت كذلك جماعات المافيا في البلاد طولا وعرضا بعضهم كان ينتمي لأفراد حكومة باتيستا وبعضهم انتفع من الحكومة بالتواطؤ حتى أنه للدلالة على انتشار المافيا فى كوبا برز ذلك في بعض مشاهد السينما. سترى مثلا خارطة كوبا فى أحد مشاهد الفيلم الشهير The GodFather فى الجزء الثاني منه، تزين كعكة عيد الميلاد لأحد رجال المافيا، ويحكي المقطع تجمعا لعدد من قيادات المافيا من كبرى العائلات للاحتفال بعيد ميلاد الرجل والفيلم من إنتاج سبعينات القرن الماضي.

مشهد من فيلم god father 2
مشهد من فيلم god father 2

هذه الأسباب مجتمعة خلقت حالة عامة من السخط الشعبي جعلت من حركات المقاومة الشيوعية المسلحة بقيادة فيدل كاسترو ورفاقه تظفر بدعم ورضا شعبيين، بينما تمتعت حكومة باتيستا بدعم أمريكي كبير ليس لأنه كان يحمل هم القيم الأمريكية ويمارس الديموقراطية بل لأنه عادى الشيوعية فى سياق الحرب الباردة ولذا استحق الدعم الأمريكي التام.

اندلعت أحداث الثورة فى ديسمبر 1956م بقيادة فيدل كاسترو وأخيه راؤول -الرئيس الحالي لكوبا- وكذلك تشي جيفارا الأرجنتيني الأصل والذي ساعد بشكل كبير فى صياغة أدبيات الثورة ومبادئها.

تحول كاسترو سريعا إلي الشمولية والتسلط وحالف السوفييت وسجن ونفى المعارضين لسياساته، ولذلك استحق العداء الأمريكي منذ البداية ولم يسع لاحتواء الموقف الأمريكي الغاضب لقيام الثورة من البداية واستجدى معارضة لم تكن موجودة مع اندلاع الثورة.


أمريكا ترفع لواء الحرب!

وافق الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور على مقترح قدمه جهاز المخابرات الأمريكية CIA بتدريب المعارضين الكوبيين المنفيين خارج بلادهم ودعمهم ماديا وعسكريا لخلع النظام الشيوعي الكوبي وكان ذلك في مارس 1960م. وكانت الأمور تسير بشكل هادئ غير أن الأنباء في هذا الشأن تواردت للحكومة الكوبية من خلال عملائها السريين داخل الأراضي الأمريكية. وبالفعل نقلت وزارة الحرب الكوبية طائراتها من أماكنها لمطارات احتياطية ما أفشل الضربة الجوية الأولي للمتمردين الكوبيين المدعومين أمريكيا ولم تستطع الولايات المتحدة أن تخفي ضلوع جهاز المخابرات التابع لها في العملية وخرج وزير الخارجية الكوبي راؤول روا في الجلسة السياسية الخاصة للأمم المتحدة قائلا:

«إنني أتهم حكومة الولايات المتحدة الأمريكية أمام الرأي العام العالمي بأنها شنت حربا ضد كوبا من أجل أن تمتلك من جديد ثرواتها ومن أجل أن تحول كوبا، مرة ثانية، إلى تابع لها»


العالم على حافة حرب نووية مدمرة

«ستكون سياسة هذه الأمة إزاء أي صواريخ نووية تنطلق من كوبا ضد أي دولة في النصف الغربي هجوما على الولايات المتحدة، وستكون ردة الفعل الانتقامية كاملة على الاتحاد السوفيتي»

أغلب الأراضي الأمريكية باتت في مرمى الصواريخ الكوبية، وكان العالم بحق على حافة حرب نووية مدمرة لن تكون عواقبها مدينة أو مدينتين كهيروشيما وناجازاكي، بل ستذهب على الأغلب لإحراق دول وشعوب بأكملها وتراوحت التقديرات أن عدد ضحايا مثل هذه الحرب -إن حدثت- ستبلغ 100 مليون مواطن أمريكي ومثلهم من الروس إضافة لملايين الأوروبيين!

يروي روبرت كينيدي شقيق الرئيس الأمريكي في ذلك الوقت: «الشعور السائد كان الصدمة وعدم التصديق». وبالفعل كانت الصدمة كاملة، فوكالات التجسس الأميركية عجزت عن رصد أي إشارات تحذيرية مسبقة.

وعلى الرغم من حصول وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA على عدة تقارير من مخبرين كوبيين حول مواكب مشبوهة تتحرك خلال الليل، إلا أن الوكالة استبعدت هذه التقارير المبهمة والتي تناقض الفرضية السائدة لدى الأمريكان بأن موسكو لن تجرأ على نشر قنبلة ذرية على مسافة قريبة إلى هذا الحد من الولايات المتحدة (بحسب ما نشره المؤرخ مايكل دوبز) فكما أسلفنا فإن المسافة بين سواحل الدولتين قصيرة جدا يفصل بينهما مضيق فلوريدا.

مضيق فلوريدا الذي يفصل كوبا عن الولايات المتحدة

حاصرت الولايات المتحدة كوبا من البحر لقطع أي إمدادات عسكرية سوفييتية، وطالبت السوفييت بسحب كافة الصواريخ الهجومية من كوبا، إلا أن الاتحاد السوفييتي رفض علانية كل الطلبات الأمريكية. واتخذ الجانبان طريق المفاوضات بشكل سري أسفر عن موافقة الاتحاد السوفييتي على سحب كافة الصواريخ على أن تتعهد الإدارة الأمريكية في المقابل بسحب صواريخها من تركيا، وأن تلتزم أيضا بعدم توجيه ضربة عسكرية لكوبا وكان هذا الاتفاق في الجمعة 26 أكتوبر.

وفي صباح اليوم التالي أُسقطت طائرة تجسس أمريكية من الأجواء الكوبية وبات يعرف هذا اليوم بـالسبت الأسود لأن الأمر بدا فيه خارج السيطرة. واعتزم البنتاجون بدأ الحرب بقصف جوي مكثف على كوبا يليه غزو بري بـ 120 ألف جندي. وسبقت حكمة الرئيس الأمريكي ونظيره الروسي غضبهما وتوصلا أخيرا لاتفاق سلمي يجنبهما ويجنب العالم بأسره جحيم الحرب النووية التي كانت على وشك الاندلاع.

كانت هذه الأزمة بلا شك أحد أبرز ما أنتجته الحرب الباردة والعالم ثنائي القطب الذي خلفته الحرب العالمية وكانت كوبا الثورة طرفا فاعلا في هذا الصراع كأحد أذرع الإتحاد السوفييتي في حربه ضد الولايات المتحدة.

في النهاية توصل الطرفان لحل سلمي تميز بالندية والجدية وأن كلاهما كان حريصا ألا تندلع الحرب (اقرأ المقال السابق:العلاقات الأمريكية الروسية: من الحرب الباردة إلى سوريا).


التوتر سيد الموقف

ساد التوتر العلاقات الثنائية بين البلدين لعقود طويلة ولأسباب متعددة منها مثلا تصدير الثورة لباقي دول أمريكا اللاتينية. تشي جيفارا أحد رموز الثورة الكوبية غادر كوبا في اتجاه دول أمريكا اللاتينية لتصدير أفكار الثورة أبرزها بوليفيا أواخر الستينات، وقتل هناك جيفارا بتدبير جهاز المخابرات الأمريكي CIA. وفي السبعينات أرسلت كوبا قوات عسكرية إلى أنجولا لدعم الماركسيين هناك للتمرد على حلفاء الأمريكان من حكام البلاد.

استمرت كذلك العقوبات الإقتصادية الأمريكية على كوبا، ومع مرور الوقت أصبحت كوبا أكثر قمعية بقيادة كاسترو حتى أنه فى عام 1970م قُدرت نسبة الكوبيين المنفيين خارج البلاد بـ 6% من إجمالي عدد السكان أغلبهم لجأ للولايات المتحدة.

محليا، تكون لوبي كوبي داخل الولايات المتحدة وأصبح له ثقل وتأثير فى الأوضاع السياسية الأمريكية وظهر ذلك للمرة الأولي فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية 1988م وصوت الكوبيون لجورج بوش في مواجهة منافسه الديموقراطي وحسم جورج بوش ولاية فلوريدا لصالحه.


الحالي والمستقبل

مضيق فلوريدا الذي يفصل كوبا عن الولايات المتحدة
مضيق فلوريدا الذي يفصل كوبا عن الولايات المتحدة

تدهورت الحالة الصحية لفيدل كاسترو عام 2006م وتولى حكم البلاد من بعده أخوه الأصغر راؤول كاسترو والذي قام ببعض الإصلاحات الإجتماعية والاقتصادية المحدودة، فقد عانى الاقتصاد الكوبي كثيرا بسقوط الاتحاد السوفييتي وكان لابد له من بعض الإصلاحات العاجلة لإنقاذه.

فى ظل سعيها الحثيث لتحييد كافة أعدائها خاصة أولئك الذين لا يعادونها بشكل مباشر -هم فقط حلفاء أعداء سابقين أو حاليين للولايات المتحدة وليسوا أعداء بذاتهم- قدمت إدارة الرئيس الأمريكي الحالي باراك أوباما الكثير من التسهيلات لبعض فئات الشعب الكوبي فى خطوة تلتها خطوات أخرى لتغيير نمط التعامل مع دول العالم المتمردة.

لم يمكن إغفال حقيقة أنه بانهيار الإتحاد السوفييتي وجدت كوبا نفسها غير قادرة على تهديد الولايات المتحدة تهديدا حقيقيا وكذلك غير قادرة على التراجع للوراء إلا إذا لوحت لها الولايات المتحدة بذلك وهو ما فعله الرئيس أوباما اتساقا مع سياساته الخارجية.

نشر مركز ستراتفور في أحد تقاريره الأسبوعية فى ديسمبر الماضي أن الرئيس باراك أوباما ونظيره راؤول كاسترو قد أجروا اتفاقا يسمح لهم بتبادل السجناء بين البلدين كما سمح أوباما تدريجيا بالسفر للعائلات الأمريكية-الكوبية كما أذن لهم بتحويل الأموال بين البلدين شريطة أن تكون التعاملات بالدولار وكذلك حرية التنقل للطلاب من البلدين كما فتح الولايات المتحدة أسواقا تجارية جديدة فى كوبا لتحقيق الغاية الاقتصادية المرجوة لدى الولايات المتحدة من أغلب علاقاتها الثنائية.

«نحن جاران ويمكننا الآن أن نكون صديقين» بهذه الكلمات فاجأ الرئيس الأمريكي العالم بحديثه عن كوبا كأنهما لم يكونا جارين قبل الآن!

وقرر الرئيسان كلاهما أول يوليو الماضي فتح سفارتي البلدين ابتداءً من آخر الشهر ذاته وخفض أغلب العلاقات المفروضة على كوبا و بعدها خرج الرئيس أوباما فى كلمته بالجمعية العامة للأمم المتحدة أواخر سبتمبر الماضي لـ يطالب العالم برفع الحظر عن كوبا.