حين حلّت بالعالم الإسلامي قديمًا كارثة الغزو المغولي ازداد انتشار التصوف الإسلامي، ويرى بعض الدارسين أن هذا المنزع الروحي والاتجاه نحو التصوف هو ما يسّر للمسلمين فيما بعد أن يتغلبوا على هذه الكارثة مستعيدين حياتهم من جديد، ذلك أن ممارسة حياة العزلة والتأمل والأمل في الوصول إلى السكينة عبر طرق الله وتجربة محبته يمسك بقلوب المقهورين وأرواحهم في وقت تسود فيه المجارز الوحشية والعنف شرقًا وغربًا وتُهدر آدمية الإنسان.


جهود المستشرق البريطاني أربري في التصوف

المستشرق الصوفي أربري جاء خلفًا لأستاذه نيكولسون الذي نقل كتب التصوف الفارسية والعربية إلى الإنكليزية، وكتب في كثير من مباحث التصوف، وورث تلميذه محبة الآداب العربية والفارسية.

في محاضرة عن مذاهب الصوفية ألقاها «أرثر أربري» بجامعة كامبردج، وعرّبها شيخ السادة الغنيمية الصوفية بمصر عام 1932، تحدّث عن بوادر الرغبة في البحث وراء الحقيقة في الديانات التي تلت التطور السريع الذي امتاز به القرن التاسع عشر في الغرب، هذه الرغبة تركّزت بشكل خاص فيما يتعلق بالناحية الصوفية من هذه الديانات، فإنها استرعت اهتمام فريق من الناس طفقوا يبحثون في حياة وسير مشاهير الأديان من رجال ونساء، ليستخلصوا من حياتهم وسيرهم الدليل المباشر على صحة ما اتبع هؤلاء الناس من ملل وارتضوه من عقائد، هم أدرى بها وأعلم. هذا إلى أن وقعت الحرب العظمى فجاءت دافعًا جديدًا للبحث عن الحقيقة.

كان المستشرق الصوفي (Arthur John Arberry) أربري واحدًا من هؤلاء، فقد جاء خلفًا لأستاذه نيكولسون الذي نقل كتب التصوف الفارسية والعربية إلى الإنكليزية، ونشر نصوصها، وكتب في كثير من مباحث التصوف، وورث تلميذه محبة الآداب العربية والفارسية، ومن هنا كانت عناية أربري بآداب اللغة العربية التي نقل قسطًا وفيرًا منها إلى اللغة الإنكليزية ثم وجّه عنايته لترجمة القرآن الكريم عارضًا للإسلام من داخله بغير تأويل خارجي.

استفاد أربري من عمله في الهند ومصر استفادة كبيرة، وأفاد العالم الغربي، فمن ثمار إنتاجه في هذه المرحلة قدّم للمكتبة الإنكليزية أشعار محمد إقبال، فنقل ديوان (أسرار خودى) ورموز بيخودي (رموز نفي الذات) وبيام مشرق (رسالة المشرق)، وكتب ملاحظاته عن النزعة الصوفية عند إقبال ليكون سببًا في تعريف كثير من الباحثين في الغرب بهذه الشخصية التي أثارت جدلاً واسعًا في الهند وباكستان، وأصبح لها حضور كبير في الفكر العربي حتى يومنا هذا.

بعد أن ترك منصبه كأمين لمكتبة دائرة الهند طالت إقامته بالقاهرة، وقد كان دائب البحث فيها عن المخطوطات الصوفية، كما يحكي صديقه عبد الوهاب عزام، وظل يواصل الجهد في تصحيح المخطوطات التي عثر عليها ومقابلة بعضها ببعض، ونسخها بخطه العربي الجميل، وقد يسّر له أن يجمع جملة نادرة من رسائل التصوف وكتبه، منها: رسائل المحاسبي والسلمي والحكيم الترمذي والنفري وأبو سعيد الخراز والكلاباذي وغيرهم من مشايخ الصوفية.

ثم بدأ ينشر ما جمعه وصححه، فطبع في القاهرة كتاب «التعرّف لمذهب التصوف» و«كتاب الرياضة» للترمذي، وكتاب «التوهّم»، وكتابي «المواقف والمخاطبات»، وترجمهما إلى الإنكليزية، ثم نشر الأصل والترجمة في كتاب واحد، وكتب له مقدمة نفيسة. ظلت هذه المقدمة في لغتها الإنكليزية كغيرها من كتاباته التأسيسية عن التصوف، حتى عربها سعيد الغانمي وصدّر بها الأعمال الصوفية للنفري المنشورة في الجمل عام 2007.

كان من رأي أربري أن التعرف الحقيقي على الدين الإسلامي والتمكن من دراسة القرآن الدراسة الوافية هو خير عدّة لكل من أراد التبحّر في العلوم الصوفية والإلمام بأطرافها، ومن خلال متابعته للنهضة العلمية في مصر في أوائل القرن الفائت رأى أنها ستتمخض عن علماء أكفاء لا تعوزهم الرغبة في متابعة البحث الذي قام به العلماء الغربيون في العلوم الصوفية وهم بلا شك سيذللون كثيرًا من الصعاب التي لا تزال بحاجة إلى من يكشف عنها النقاب، وفي تضامن المعارف الشرقية مع طرق التحليل الغربي ما يكفل الوصول إلى أبهر النتائج وأفضلها. وقد تحقق ذلك بالفعل بمتابعة أبو العلا عفيفي لدراسات التصوف الأكبري وأسهم فيها إسهامًا بارزًا بالتأليف والترجمة، كما فعل عبد الوهاب عزّام بنقل المعارف الصوفية عن الفارسية والتركية والأوردية متابعًا خطى أساتذته من المستشرقين، وكذلك فعل محمد مصطفى حلمي بتخصصه في درس ابن الفارض سلطان العاشقين وعلي سامي النشار في أعمال الششتري.

لم يكن أربري مؤثرًا في مصر وباحثيها فحسب، بل كان له تلامذة أوفياء في العراق، من أشهرهم مصطفى كامل الشيبي صاحب الدراسة الشهيرة عن الصلة بين التصوف والتشيع، فقد برز هذا العالم العراقي في مجال تحقيق النصوص الصوفية، وأخرج للمكتبة العربية خلافًا لدراسته عن الحب العذري دواوين السهروردي والشبلي والحلاج، مستفيدًا من دراسات أستاذه عن أولياء شيراز، ووارثًا حقيقيًا لاهتمامه بالشعر الصوفي، وحينما علم الشيبي بوفاة أستاذه نعاه في مقال موسّع استعرض فيه جهوده في الدرس الصوفي ورحلة حياته، مشيدًا بعبقريته وشاعريته الفذّة.


مؤلفات أربري

كان من رأي أربري أن التعرف الحقيقي على الدين الإسلامي والتمكن من دراسة القرآن الدراسة الوافية هو خير عدّة لكل من أراد التبحّر في العلوم الصوفية والإلمام بأطرافها.

كتب أربري مؤلفات كثيرة عن التصوف والأدب العربي والحضارة الإسلامية، ومن أجمل الكتب التي طالعتها له كتابه «Shiraz Persian city Of Saints and Poets» الذي ترجمه أستاذ التصوف في الجامعة الأمريكية ببيروت سامي مكارم تحت عنوان «شيراز مدينة الأولياء والشعراء». إن من يطالع هذه الترجمة العربية يتعرف بوضوح على الدور الريادي الذي قدّمته الترجمات المصرية للتصوّف والعرفان الفارسي، فنرى سامي مكارم على سبيل المثال عند ترجمته لأبيات حافظ الشيرازي يثبّت ترجمة الأستاذ إبراهيم الشواربي التي أشرف عليها طه حسين، لأنّها أحكم في العبارة وأصحّ في المعنى وأضبط، فما بذله الشواربي في الترجمة لم يعد في طاقة أغلب مترجمي اليوم، إذ نقل النصّ الصوفي الفارسي نثرًا ونظمه شعرًا بعد ذلك، حتى تصل رسالته إلى جمهور أوسع.

من يقرأ مقدمة أربري لكتاب «الرياضة وأدب النفس» للحكيم الترمذي سيدرك مدى إلمامه بجغرافية الإسلام الروحية من بلخ إلى شيراز ومن مصر إلى بغداد.

يعرض أرثر أربري في مؤلفه عن شيراز وأوليائها لسيرة أبي عبد الله بن خفيف، وهي سيرة مجهولة في المحيط العربي وندين للمغفور لها أنّا ماري شيمل بتحقيقها لسيرته ونشرها لعقيدته باللغة التركية والفارسية في تعرّفنا على هذه الشخصية، كما ندين لناقل المثنوي الدكتور إبراهيم الدسوقي شتا الذي ترجم هذا العمل في صورته التامة.

كما يترجم أربري في كتابه لروزبهان البقلي، صاحب «عرائس البيان» و«شرح الشطحيات» و«عبهر العاشقين»، ولا نعرف الكثير من المعلومات الدقيقة حول هذه الشخصية إلا بفضل الكتابات الاستشراقية بداية من إشارات ماسنيون إلى كتب روزبهان ونشره لمقتطفات منها، وتلميذه الأب نويا الذي قدّم قسطًا وفيرًا من كتابه «كشف الأسرار» مع نبذة تعريفية به، أما الجهد الأكبر في درس هذه الشخصية فيعود إلى المستشرق الفرنسي هنري كوربان الذي حقق الكثير من أعماله. ومن براعتنا اليوم أن الكتابات العربية عن روزبهان لا تعدو السطو على جهود السابقين!

كذلك ترجم أربري في كتابه عن شيراز للشاعر سعدي الشيرازي وحافظ، ومن حسن الحظ أن الجامعة المصرية قديمًا قدّمت هاتين الشخصيتين للقراء العرب فترجمت الأساتذة أعمالهما وتمت دراسة أفكار هذين الشاعرين.

كانت ترجمات أربري وكتاباته تسير وفق خطّة محكمة لدرس التصوف العربي والفارسي، فمن يقرأ مقدمته لكتاب «الرياضة وأدب النفس» للحكيم الترمذي سيدرك مدى إلمامه بجغرافية الإسلام الروحية من بلخ إلى شيراز ومن مصر إلى بغداد. ويأسف المرء أن أغلب أعمال أربري لم تنقل إلى العربية حتى يومنا هذا على الرغم من تتلمذ الكثيرين من العرب عليه واستفادتهم من كتاباته.