يستهل «ميلان كونديرا» روايته «حفلة التفاهة» بحيرة «آلان» حول مصدر الإيروتيكية الخاص به، فمصادر الإيروتيكية لأغلب الرجال تتمثل في الردفين والنهدين والفخدين، أما «آلان» فخلافًا على السائد كان مصدر الإيروتيكية الخاص به هو السرة. ينجح «آلان» في تحليل أحقية الثلاثة أماكن بمكانتهم الإيروتيكة ويفشل في تحليل استحقاق السرة، فلماذا يثار رجل من السرة؟هذا الاستهلال لم يكن مختلفًا عن النمط السائد لروايات كونديرا، فاعتاد على بداية رواياته بمفارقة غريبة أو لا منطقية عن علاقة أبطال الروايات ببعضهم أو مفهوم فلسفي قائم على المفارقة والتناقض، أو تعبير لغوي وأصول تكوينه، دائمًا هناك في البداية إرساء لمفهوم ما أو تناقض.في روايته الحديثة الصادرة عام 2014م يربط كونديرا بين الأزمات الوجودية الخاصة بالألفية الثانية، وأزماته الوجودية المنتمية أكثر لمآسي الحرب العالمية الثانية واحتلال الاتحاد السوفييتي للتشيك، وما عاناه وطنه، وأصدقاؤه، وهو شخصيًا من هذا الاحتلال الغاشم ذي الأصول الأيديولوجية التي تدعي النبل ورفعة الإنسانية، في مزيج ملخصه الاستخفاف بكل هذه الآلام والحياة والوجود، فالحياة هي حفلة التفاهة التي لا يجب أن نأخذها على محمل الجد.

أدركنا منذ زمن طويل أنه لم يعد بالإمكان قلب هذا العالم، ولا تغييره للأفضل، ولا إيقاف جريانه البائس للأمام، لم يكن هناك سوى مقاومة وحيدة ممكنة، ألا نأخذه على محمل الجد.

تعددت الشخصيات في «حفلة التفاهة»، ونرى أن كونديرا قسّمها لشخصيات رئيسية مركزية، وشخصيات فرعية أقل أهمية. قد نتوقع أن بعض الشخصيات فرضت قوتها على كونديرا أمام شخصيات أخرى، ففي فصل البداية عرّفنا كونديرا على شخصيات يراها رئيسية وهم «آلان» و«رامون» و«دارديلو» و«شارل»، ولكن مع مجريات الأحداث نرى أن الشخصيات الأكثر أهمية، أو بمعنى أصح التي فرضت نفسها كشخصيات رئيسية، هم «آلان» و«ستالين»، والسؤال الأهم: لماذا فرضت هاتان الشخصيتان نفسيهما على كونديرا؟يكمن الجواب في أنهما أكثر شخصيتين معبرتين عن كيان الرواية، فآلان هو الذي أعطى لكونديرا المساحة للربط بين الإيروتيكية ومعاناة العالم، فنتبع في الرواية كشف «آلان» لسبب إثارته من السرة، وهنا نعرف اللحظة الوحيدة التي رأى فيها آلان والدته فقد كان عاري الجذع وفوجئ بوجود والدته التي نظرت لسرته نظرة لن ينساها ثم ذهب ولم يرها مرة أخرى، بعد هذه النظرة أصبحت السرة هي التي من خلالها فسر العالم وجعلها مصدرًا لإثارته.
سأكون صريحة، بدا لي دومًا أنه من المرعب إرسال شخص إلى العالم دون أن يطلب ذلك، لا أحد من جميع أولئك الذين حولك موجود هنا بإرادته، بالتأكيد ما قلته منذ برهة هو الحقيقة الأكثر تفاهة بين جميع الحقائق. إنها في غاية التفاهة والجوهرية إلى حد أنهم كفوا عن رؤيتها وسماعها.

يعرف آلان أن والدته كانت لا ترغب في الإنجاب، ووجوده في الحياة فرض عليها نتيجة خطأ أثناء العلاقة الزوجية، ورفضت والدته تربيته وتركته مع والده، وبرغم أنه لم يرها سوى في اللحظة التي نظرت فيها لسرته، ولكنها هي الشخص الأكثر تأثيرًا في حياته. يرى آلان نفسه في مرآة عقدة الذنب، ولذلك هو يعتذر عن كل شيء، يرى في الاعتذار راحة نفسية وروحية له، حيث يقسم العالم لفريقين، فريق المعتذرين، وفريق الذين يرفضون الاعتذار؛ «أي يرون أنفسهم على صواب دائمًا»، وهو من المعتذرين لأنه منذ اللحظة الأولى يشعر بالذنب من مجرد تواجده في العالم رغمًا عن أمه.


يمزق كونديرا الخطوط الفاصلة بين الواقع والخيال، فالرواية كل أحداثها تدور بدون تفسير وفصل واضح لما هو واقع وما هو خيال، ومن الأفضل أن لا تحاول إرهاق نفسك في ذلك، فالرواية قائمة على هذا الدمج، بل ربما الخيال هو الأكثر واقعية وتعبيرًا، فالخيال يحمل فرصة أخرى لتفسير وتبرير ما لا يقدر الواقع على تفسيره.فعلاقة آلان ووالدته تزداد قوة في حواراته المتخلية معها، وتصبح هي الجانب المطمئن له، وتقنعه بفقدان البشرية لحرية الاختيار منذ عدم تخيرهم بوجودهم في العالم أم ﻻ، ثم يستمر آلان في تتبع السر وراء تقديسه للسرة، ويتساءل من هي المرأة التي بلا سرة؟، هي حواء التي لم تُنجب، وجدت من العدم ومنها ربط كل البشر بسررهم من خلال الإناث، فكما في رواية الكتاب المقدس فالوجود البشري كالشجرة الرابط بينهم سرر الإناث إلى أن نصل للأنثى الأولى التي بلا سرة.السرة كذلك ترمز لانعدام حرية الاختيار، أبناء الألفية الثانية يظنون أنهم أحرار في اختياراتهم، ويتمثل ذلك في الجنس حيث يثار الرجال من مصادر الإيروتيكية الثلاث وكل إنسان يميزه حبه لمصدر من هذه المصادر لو كان رجلًا، أو تميز أحد هذه المصادر فيها لو كانت امرأة، ولكنهم يتجاهلون أن السرة هي الثابت بين كل الأجساد، هي الكيان الرابط بين كل البشر، هي التعبير الأكبر عن أن الوجود الإنساني مترابط ومجبور على نفسه، يعبر كونديرا من خلال آلان أن آلام البشرية ستنتهي حين ينتهي وجود السرة وبالتالي زوال الحياة البشرية، ولذلك فآلان يثار من السرة باعتبارها رمزًا للحياة ولمعاناة الجنس البشري والبداية والخلاص في ذات الوقت، ولذلك هي مصدر الإيروتيكية الأكثر وضوحًا بالنسبة له.
أما بخصوص «ستالين» فهو الشخصية التي عانى بسببها كونديرا وأثرت على حياته ووطنه، فستالين هو رمز للديكتاتورية السوفييتية والاحتلال الغاشم وكبت الحرية، سنوات قضاها كونديرا يبحث عن مصدر لكسب لقمة عيشه بصعوبة، يواجه مخاوف الملاحقة الأمنية وملاحقة من يحب. عبر كونديرا عن تلك المعاناة في رواية «كتاب الضحك والنسيان»، كما أن كل رواياته لا تخلو من معاناة أحد الشخصيات مع الشيوعية، وهي بالنسبة لكونديرا الأيدلوجية الإنسانية التي تحولت لكابوس.ستالين الذي يضمه كونديرا لشخصياته يكتب عنه بأنسنة واضحة، فستالين يحكي قصة لرفاقه تتسم بالمبالغة غير المنطقية وكالعادة نافقه أصدقاؤه وأشادوا ببطولته الدائمة، ولكن عندما اختلوا ببعضهم في «المبولة» يقوم أحدهم باتهام ستالين بالكذب وأنه الوحيد الذي استطاع معارضة قصته الوهمية، يتخيل كونديرا أن ستالين تلصص عليهم وشعر بالحزن الدفين من كلامهم المدين له.قصة ستالين المبالغة لم تكن سوى نكتة، ولكن ستالين لم يدرك أنه قصها في زمن أفول النكات، فلم يكلف رفاقه خاطرهم بالتفكير في أن ستالين يلقي نكتة هو بطلها، ولكنهم أخذوها على محمل الجد واعتبروها مصدرًا لكذب وجنون ستالين، ولا يقدرون على قول ذلك إلا في مباولهم التي لا يدخلها ستالين، هكذا يرى كونديرا أن العالم الآن لا يقدّر النكات، وهذا دليل على أن الإنسان المعاصر لا يدرك النكتة الكبرى وهي حياتهم ذاتها، ويذكر أن قصة ستالين تلك ذكرت في البداية على لسان أحد أبطال الرواية للتندر من كذب وجنون ستالين، هكذا يؤكد كونديرا بسردية مزدوجة عدم تقدير نكتة ستالين وأخذها على محمل الجد.


وبموازاة قصة ستالين ورفاقه، نرى قصة ستالين و«كالينين». من هو كالينين؟ هو شخص لديه مرض في البروستاتا يتسبب في احتياجه الدائم للحمام، هكذا اقترنت كل مواقف كالينين بدخوله الحمام حتى وسط خطاباته، كالينين هو الذي سميت على اسمه مدينة «كالينينغراد». الغريب أنه إلى يومنا هذا لم يتغير اسم المدينة عكس كل المدن التي سميت على أسماء قادة الحزب الشيوعي برغم أن هذه المدينة هي التي عاش فيها الفليسوف الشهير «كانت»، والسبب الذي نستطيع تخمينه هو عدم جدية أفعال كالينين وطيبته، فإنجازه الوحيد والذكرى الباقية منه هو دخوله المتكرر للحمام. لم يرتبط كالينين بأحداث جدية ولم يكرهه أحد ولم يحبه أحد كذلك، ولذلك بقي اسمه. العلاقة بين كالينين وستالين معقدة، يكشف كونديرا تعقيد هذه العلاقة من خلال تكرار ستالين لإهانة كالينين الدائمة عن طريق إجباره على الجلوس حتى يتبول على ذاته، ولكن لم يتعد عليه ستالين أكثر من ذلك، فهو برغم ما يفعله فيه يحبه بشدة، وفي هذه القصة نرى تكرارًا للعلاقات المعقدة التي تستهوي كونديرا، فقد خمن كونديرا إطار العلاقة بين ستالين وكالينين وراقت له كمية التعقيد والأهم بقاء اسم كالينين بالرغم من عدم أهميته التاريخية.
التفاهة يا صديقي هي جوهر الوجود، إنها معنا على الدوام وفي كل مكان، إنها حاضرة حتى في المكان الذي لا يرغب أحد برؤيتها فيه: في الفظائع، في المعارك الدامية، في أسوأ المصائب، التفاهة يجب أن نحبها، وأن نتعلم حبها.

يختتم كونديرا روايته بمشهد يجمع كل شخصيات الرواية الواقعية والخيالية؛ آلان، ووالدته، ورامون، وشارل، واندرودو، وستالين، وكالينين، الجميع في مشهد واحد مليء بالتفاهة والفرح وينعمون بالسعادة، الجميع سعيد في هذه الحفلة، حيث أدركوا حياتهم وأدركوا معنى التفاهة، المشهد الأخير هو رؤية كونديرا لحفلة التفاهة المسماة بالحياة، ربما تكون هذه آخر تطورات كونديرا الفكرية، حيث تصالح مع كل ما حدث في حياته وأصبح ينظر له باستخفاف ولا جدوى، بل هو يوجه رسالة لجيل الألفية الثانية؛ أنهم يجب أن لا يأخذوا الحياة على محمل الجد.