الرافعي أديب كبير تمكن من أسباب البيان حتى طغى بيانه على بيان أهل عصره، ومحا ذكره ذكر كثير من بلغاء عصره، وقد أرصد قلمه للكتابة عن قضايا المجتمع الإسلامي، فاجتمع له شرف البيان وشرف الموضوع. فكيف إذا اجتمع مع شرف البيان والموضوع، الحديث عن جدِّه الأول في الإسلام عمر بن الخطاب، رضي الله عنه؟!

وبعدُ؛ فهذه مقالة من شتيت أدب الرافعي الذي لم يُجمع بعدُ في كتاب، كتبَها تقريظا لكتاب ألفه الأستاذ دياب عثمان العُرابي في عمر بن الخطاب، رضي الله عنه. والأستاذ دياب العرابي هو أحد أدباء القرن الماضي، تخرج في دار العلوم سنة ١٩٣٣م، وزامل فيها الأديب العالم سيد قطب، والشاعر علي شرف الدين وآخرين غيرهما، وله قصيدة طويلة في سيرة النبي، صلى الله عليه وسلم، سماها «العينية في تاريخ رائد الإنسانية».

وكتابه عن سيرة عمر بن الخطاب حقيق بما كتبه الرافعي عنه، فقد لقي ترحيبًا واسعًا من العلماء والأدباء، وقرّظته مجلة الأزهر، ومجلة المشرق، ومجلة الهلال.


مكانة الفاروق عند النبيّ

روى البخاري بسنده عن ابن عمر، رضي الله عنهما، قال سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: «بينا أنا نائم أتيت بقدح فشربتُ منه حتى لأرى الري يخرج من أظفاري، فأعطيتُ فضلي عمر بن الخطاب. قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: العلم». وروى بسنده عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «بينا أنا نائم رأيتُ الناس يعرضون علي وعليهم قُمص منها ما بلغ الثدي، ومنها ما يبلغ دون ذلك، ومرّ علي عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره. قالوا: ما أولته يا رسول الله؟ قال: الدين».

هذان حديثان في عمر بن الخطاب هما وصفُه بلسان النبوة، ولن يأتي لمثلهما الواصف بالغًا ما بلغ شعره، وذاهبًا ما ذهب خياله، ومحققًا ما كان تحقيقه؛ لعمر كان بعد النبي، صلى الله عليه وسلم، بقية من مواهبه كما يكون فضل القدح من القدح. وبقية مما وكل إليه حتى كأنما خلفه ليستمر فيه عمل النبوة بمعجزاتها، وليلحق آخر منها بأول، وينبسط به هذا النهار المشرق على الأرض كما ينبسطُ اليوم من فجره وضحاه. وهو رجل لبس الدين سابغًا عليه سبوغ القميص على الجسم يكسوه ضافيًا، ويسترسل عنه حتى يجر من ذلاذله جرًا، والناس منه بمقصّر يفضل بعضهم بعضًا في الدين ولا يفضلونه، ويتفاوتون فيما بينهم ويفوتهم جميعًا. ولا نقصَ فيهم إلا بالتمام فيه، ولا تقصير لهم إلا بالقياس إلى قدرته وما أطاق مما ضعفوا عنه، فهو كمال لكمالهم لا دليل على نقص ولا تقصير.

والذي يقرأ ما جمع هذا الكتاب من تاريخ عمر، ويتدبر أعماله وأقواله ويشرحها بألف وثلاثمائة سنة من تاريخ الفكر الإنساني في تقدّمه إلى عهدنا هذا؛ عهدِ الفلسفة والعلم والقانون والتحقيق في أمور النفس ومذاهبها، يرى عمر كالمئذنة العالية منتصبة في الجو، والطباع الإنسانية من دونه كالدور القائمة تستشرف إليه ولا تبلغه، وفيها الحياة وفيه هو جلال هذه الحياة.

تُضاء المدينة الكبيرة في الليل بمصابيح لا عدد لها يترشرش منها النور، كأن كوكبًا عظيمًا حكم وبُعثرت شظاياه في أرجائها وطرقها ومغانيها. ويكون على هذا النور جمال الليل كأنه فيه شعر الظلمة تتلمح معانيه الجميلة لمن يفهمها أو يحسُّها، ثم ينبثق الفجر وتطلع الشمس فإذا نور آخر من خاصّته أنه يطفئ كل نور غيره، ويدع المصباح العظيم الذي يسطعُ في الليل فيبين عن كل شيء حوله، وهو لا يكاد يُبين عن نفسه، وليس فيه إلا الشعلة التي عادت بعد قوّتها لا قوة لها على أن تثبت شيئًا إلا أن بينها وبين هذا النور الغامر مشابهة من بعض الوجوه؛ كذلك عمر.


عمر الذي فاقَ الملوك والزّهاد!

وهو هبة من أخلاق نبينا، صلى الله عليه وسلم، إذا مثلت بينه وبين عظماء الملوك، ودهاقين الحكم، وأساطين الفلسفة، وعلماء الأخلاق، ورجال الحياة العملية، فقد يزيدون عليه من فنون الحياة بخيال كشعر الظلمة إذا كانوا في مواضعهم من التاريخ وكان هو في موضعه، فأما إذا جئتَ بهم إليه، أو جئتَ به إليهم فوازنتَ خُلُقًا بخُلُق، وفضيلة بفضيلة، وعملاً بعمل، وقوة بقوة، وغاية بغاية، فسترى شيئا إلهيًا لا طاقة به للصناعة، قد وسِعه وأعجزهم، وترى ثمة أقدارًا ممثلة في التاريخ على ما قدرها الله تؤكد لك تأكيدًا أنه يستحيل على غير عمر أن يكون عمر!

بذَّ الملوك وهو زاهد، وبذَّ الزهادَ وهو ملك، وفات الحكماء ولم يتعلّم، ووقف من الأخلاق على غاية بعيدة انقطع الفلاسفة دونها، وكان في أعماله وأحواله تفسيرًا واضحًا صريحًا لقانون الإنسانية الذي جاء به الدين الإسلامي، وجمع المتناقضات في وحدة نفسه العظيمة فبطَل تناقضها، وائتلفت فيه وآتته بحقائقها، فاحتمل كل شيء منها بحقِّه الذي هو له، لا بخياله الذي يتخيله الناس كذبًا وصدقًا.

وكيف يجتمعُ ملك النفس وعبوديتها، وتأتلف القوة واللين، وتتصل الرهبة والرجاء، وانتظم البطولة والحكمة، ويجيء الدين والدنيا معًا، ويقوم العدل والقدرة على سنة واحدة، فيتساوى هذا الكل المتناقض، فيعتدل، فيتزن، فيطرد كله نسَقًا واحدًا في نفس وثيقة صافية مؤمنة رحيمة لا سبيل عليها إلى طوارق الشهوات، وبغتات الطبيعة، ونزول الحياة، فلا تبلغ من نكايتها مبلغًا ولا ما دونه، كأن هذه النفس لا تتعرّف من الدنيا قريبًا ولا بعيدًا، على حين ليس في الدنيا قريب ولا بعيد لم تعرفه؟

أهذه نفس إنسانية؛ أم هي طبيعة محكومة بنواميسها، تأتي الكلمة منها كما يأتي الفكر، ويجيء الفكر كما يجيء العمل وفي كلها إبداع واحد، وكأنها كلها من كهرباء يتضرّٙب بعضها في بعض، ويتحوّل بعضها إلى بعض، وليس فيها على شتى فنونها ومظاهرها إلا عنصر واحد هو عنصرها الإلهي؟


عمر: العظمة المستمرة لقبس النبوة!

كان عمرُ بأخلاقه وأعماله كأنه التكرار الثالث لكلمة إلهية واحدة، مرسلة في التاريخ، صارخة في الدنيا، مؤذِّنة بين الناس أذان الملائكة: فكانت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم التي أعجزت الخلق هي العظمة الأولى؛ ثم تكررت في عمر الذي بلغ سنّة صاحبه، ولا يتحول عنها، ثم تكررت في عمر الذي بلغ جهده في تحقيق تلك السُّنة، لم يأل وسعًا ولم يدخر طاقة؛ وبهذا كان الإسلامُ يتّسع ولا يزال متسعًا، ويغلب ولا يبرح غالبًا، وتُقبل عليه الإنسانية محكومة أسرع مما يذهب إليها حاكمة، ومذعنة أسرع مما يزحف عليها فاتحًا، وطالبة أكثر مما كانت مطلوبة؛ إذ لم يكن إلا الخُلُق العظيم هو الذي يحكم، والعدل القائم هو الذي يغزو، والحق المبين هو الذي يجاهد. فتكرّرت العظة تنبه المسلمين أنه لا يُصلح أمر آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وأن الإسلام في حقيقته ليس كلامًا ولا جدلاً، والإيمان في طبيعته ليس أوهامًا ولا أماني؛ فلن يكون القانون الإسلامي في الآراء والشروح والتعاليق، والجدل والكلام، بل قانون الإسلام هو هذه النفس المشرقة بنور ربها التي ظهرت للإنسانية أدق وأحكم وأجرأ ما ظهرت، في النبي، صلى الله عليه وسلم، ثم كانت بعد ذلك على ما تبلغ الطاقة من هذه السنة في أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما.

ولو سُئلت بعد قراءة هذا الكتاب أن أجمعَ عمرَ العظيم بكل مزاياه في جملة واحدة يتخذها رجال الإسلام دستورهم الذي يعملون عليه لقلتُ: إنه رجلٌ أرصدَ عقله سجلاً لهفواته المعدودة التي لا تخلو الطبيعة منها، فلا يغادر الهفوة، ولا شبه الهفوة، ولا ظلا من الهفوة إلا أثبتها ليعملَ ما يمحوها، ويخرج إلى الله والناس من تبعاتها، وبذلك وحده صار التاريخ سجلاً عظيمًا لحسناته التي لا تُعدّ!