ثمة إجماع على أن الساحة الثقافية العربية تمر بأزمة حقيقية منذ عقود وتتجلى على صعيدين؛ الأول تدني الإنتاج المعرفي العربي الذي يشوبه التكرار وغياب الإبداع فضلاً عن الضعف المنهجي، والثاني صعيد القائمين على هذا الإنتاج ممن يوصفون بالنخبة وجلهم أساتذة في الجامعات العربية التي كانت قلاعًا للنهضة والإصلاح، وتحولت إلى ما يشبه مصانع المسكوكات، فلا تكاد تلحظ اختلافًا بين أستاذ وآخر؛ فهم حريصون أن ينقل بأمانة ودقة شديدتين ما تلقوه من معلومات ومنهجيات دون تطوير بل دون نقد وتمحيص في معظم الأحيان، غير أن ثمة استثناءات وخروقات نادرة يمكن رصدها في هذا السياق وعلى رأسها المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري.

وفي السطور التالية أحاول أن أعرض لبعض جوانب تفرده وتميزه وذلك من مدخل ما أسميه «فقه الأستاذية» وأعني بها معالم وجوانب أستاذيته التي تجمع ما بين العلم والإنسانية أو بين الذاتي والموضوعي وقد خبرت بعضها بالاتصال المباشر معه.


المفكر المتفرد

تتحدى شخصية عبد الوهاب المسيري (1938-2008م) ما هو سائد ومستقر في الأذهان من صورة نمطية ومألوفة للمفكر من عدة نواحي:

فهو ليس ذلك المفكر الذي يرى العلم مجرد وظيفة يتعيّش منها يجب التشبث بها، وقد حدث في مطالع التسعينات أن استقال من عمله كأستاذ جامعي ليتفرغ لإنجاز موسوعته عن اليهود واليهودية والصهيونية دون أن يحصل على دعم أي جهة أو مؤسسة، وهو ما يدل أن العلم بالنسبة إليه لم يكن وظيفة للتكسّب وإنما رسالة تؤدى تجاه المجتمع، وأن العملية المعرفية لا يمكن حصرها وتقزيمها داخل أسوار الجامعة وإنما يمكن تأديتها خارجها إن تعذر ممارستها بداخلها.

وهو ليس ذلك المفكر المحسوب على السلطة الذي يترأس قائمة من المؤسسات الثقافية الحكومية، لا لكفاءته وحسن إدارته وإنما تثمينًا لجملة كتاباته ومؤلفاته ومواقفه وآرائه التي كرّسها لدعم النظام القائم وتسويق سياساته، وخلافًا لذلك فقد وضع المسيري مؤلفًا كاملاً ليدعم مقاومة الشعب الفلسطيني مخالفًا بذلك توجهات النظام القائم، ثم انخرط في حركة كفاية المعارضة وشارك في بعض تظاهراتها فتعرض للتنكيل والتضييق.

كما أنه ليس من أولئك الذين يعيشون العلم انفصالاً واستعلاءً عن الواقع وثقافاته الشعبية، وإنما هو ممن يؤمن بأن العالِم الحقيقي لابد أن يتفاعل مع تفاصيل الحياة اليومية ويعالج ظواهر يحجم البعض عن معالجتها، كما فعل حين تصدى لفحص ظاهرة الفيديو كليب وردها إلى أبعادها الفلسفية[1]، ولعل هذا ما جعل فكره حيى كما الواقع الذي استقى منه.

أما آية تفرده وتميزه فهو نجاحه في تحطيم هالة المفكر الزائفة بلغته المفارقة للواقع وعبوسه الدائم التي تخلق ما لا يحصى من الحواجز بينه وبين تلاميذه وبينه وبين عموم الناس، أما المسيري فلم يكن يُرى إلا وسط جمع من الناس بينهم طلاب ومريدون ومثقفون وباحثون، بل إن المشهد لم يكن ليخلو من البسطاء أحيانًا؛ إذ ليس عسيرًا أن يقترب منه أي إنسان ليحادثه ويجلس إليه.

ولعلّي أتذكر الآن صورة عامل النظافة البسيط في معرض القاهرة للكتاب الذي ما إن رأى المسيري جالسًا إلى طاولته في المقهى، حتى اقترب منه وأخبره أنه دمنهوري مثله، فما كان من المسيري إلا أن دعاه للجلوس إلى جواره بين طلابه ومريديه، وبرهن عندئذ أنه مفكر البسطاء كما كان حسن فتحي مهندسهم.


حين يتجاور الفكر مع الإنسانية

لم يكن المسيري من أولئك الذين يعيشون العلم انفصالاً واستعلاءً عن الواقع، وإنما هو ممن يؤمن بأن العالم الحقيقي لابد أن يتفاعل مع تفاصيل الحياة اليومية.

كانت المرة الأولى التي تعرفتُ فيها إلى أستاذي المسيري عام 2002 حين كان لا زال يعقد صالونه الثقافي في منزله والذي انتقل فيما بعد إلى جمعية مصر للثقافة والحوار، ومنذ اللحظة الأولى أدركت أني أمام مفكر متفرّد؛ فطبيعته الإنسانية من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى بذل الجهد في التنقيب عنها.

أذكر أنه بعد مرات قلائل من مشاركتي الصامتة في الصالون استجمعت شجاعتي للمرة الأولى وكان الحديث حول الشعر وأخبرته أنني أعشق أشعار ناظم حكمت الشاعر التركي الشهير فتبسّم وأجابني بأنه يشاركني عشقه وبادر بإهدائي كتابًا من مكتبته يحوي مختارات من شعره؛ فأوجد بذلك مشتركًا ما بيننا ألا وهو حب ناظم حكمت.

وعلاقة المسيري بأجيال شباب الباحثين تستحق التأمل والنظر، فقد كان المسيري محطة هامة وعلامة في حياة الكثير منهم حتى ليخيل إليّ أنها محطة لا غنى عنها سواء أكان التتلمذ على يديه بشكل مباشر أو عبر مؤلفاته وكتاباته التي هي حوار مفتوح بينه وبين قرائه، فلم يكن يتصنع الكتابة ويأتي بما غمض من التعبيرات والمصطلحات وإنما كان يكتب مثلما يتحدث؛ فتأتي كتابته سلسة عذبة إلى درجة تشعرك أثناء قراءة كتبه أنه يتوجه إليك وحدك بحديثه شارحًا ومفسرًا، وهو الإحساس الذي طغى عليّ حين قرأت سيرته الذاتية المعنونة «رحلتي الفكرية في الجذور والبذور والثمر» ويغلب علي الظن أن كثيرًا ممن قرأها قد خرج بشيء قريب مما خرجت به.

كان المسيري محطة هامة وعلامة في حياة شباب الباحثين والمثقفين، سواء أكان التتلمذ على يديه بشكل مباشر أو عبر مؤلفاته وكتاباته التي هي حوار مفتوح بينه وبين قرائه.

ومن حظي بشرف التتلمذ على يديه لابد أنه قد لمس جانبًا من فقه الأستاذية أو قل عبقرية الأستاذية المسيرية، والتي تتجلى في قدرته على اكتشاف الباحثين المتميزين ولفت أنظارهم إلى بعض جوانب تميزهم التي كثيرًا ما تكون غير مكتشفة ويجهل أصحابها وجودها، ولا يتوقف دور المسيري عند حدود لفت الباحث إلى قدراته وإنما يظل يشجعه على إطلاقها وتوجيهها في مسارها.

فكثيرًا ما سمعته يحدث هذا أو ذاك مادحًا فكرة كتبها أو مقترح تقدم به، وهنا نصل إلى ملمح هام من ملامح أستاذيته ألا وهي قدرته على تقدير أفكار الآخرين وتثمينها مهما كانت بسيطة ومتواضعة مقارنة بأفكاره هو المفكر الموسوعي وفيلسوف رفض الحداثة.

وأما جوهر أستاذيته فهي الثقة التي يوليها لتلامذته ولقدراتهم البحثية حين يدعوهم إلى تحدي ما هو سائد ومستقر من أفكار وأطروحات ومحاولة تفسير الظواهر بصورة جديدة، فإذا ما أمكن للباحث تحقيق ذلك بصورة جزئية فإن المسيري يدفعه لمزيد من الكشف ويحثه عليه. ولعل تلك الثقة التي تبلغ أحيانًا درجة الإيمان هي ما تدفع الباحث أن يثبت للمسيري أنه جدير بثقته ومن ثم لا يألو جهدًا ليقدم أفضل ما لديه ليضعه بين يدي أستاذه.

لقد بلغت ثقة المسيري بتلاميذه أنه كان يقدمهم في كثير من الندوات دون تردد، فأي أستاذ أو مفكر هذا -كما تقول هبة رؤوف عزت- حين يعد لمؤتمر أو ندوة كندوة التحيز التي لا تزال تتردد أصداؤها إلى الآن يقدم فيها هذا الجمع من الباحثين الجدد الذين لم يسمع بهم أحد ليكونوا جنبًا إلى جنب مع أساتذة كبار، بل ويعهد إليهم في القسم الأخير من الكتاب بقراءة نقدية لكتابات رموز بارزة من المفكرين والأكاديميين فيكسبهم بذلك ثقة ويدفع بهم إلى الأمام[2].

لقد صاغ المسيري إطارًا جديدًا للعلاقة بين المفكر وتلاميذه في عالمنا العربي، وأحسب أن من سيأتون بعده من أساتذة ومفكرين سوف يتأثرون بها.

المراجع
  1. انظر تحليله المعمق لظاهرة الفيديو كليب التي انتشرت منذ مطلع الألفية في: عبد الوهاب المسيري، الفيديو كليب والجسد والعولمة، القاهرة: الأهرام، 8 أبريل 2004، ع 42857.
  2. هبة رؤوف عزت، علاقة إنسانية حميمية: مشاهد ذاتية، في: أحمد عبد الحليم عطيه (محررًا) في عالم عبد الوهاب المسيري حوار نقدي حضاري، القاهرة: دار الشروق، 2004، ج2، ص465.