من الأسباب الرئيسة التي منعت تعليلَ العباداتِ -على رسوخه كتقليد رفيع في التراث الإسلامي، كما ذكرنا في المقال السابق- من التحولِ إلى علمٍ منضبطٍ له معالمه الواضحة على خارطة العلوم التراثية، وما يبرر كثرة الاختلاف حول مدى علمية وفائدة هذا التقليد، وما أدى به إلى الانتهاء في خانة «المُلح» لعلم المقاصد بعد أن كان هو الإرهاص لهذا العلم الجليل، هو بالأساس هذا الالتباس الشديد الذي طال «العلة» سواء كمفهوم، أو كمضمون يدور حوله وينتهي إليه التعليل.

إن تعليل العبادات يصعب وضعه تحت هذا الإطار المضموني الذي أنقذ تعليل الشرائع أي «المصلحة»، وحتى لو تم هذا سيظل مجملًا

فـ«مفهوم العلة» الذي تنازعه المتكلمون والأصوليون، وأشرب بمعاني «الغرض» و«السبب» و«الموجب لذاته»، حتى تحول إلى فضاء لاستحضار الخلافات الكلامية والفلسفية حول واجب الوجود والله والصلاح والأصلح، مثّل عائقًا شديدًا أمام السماح بالتعليل؛ لما يجره هذا في نظر كثير من المتكلمة تحديدًا لإشكالات عقدية لا نهاية لها، لذا فإن من مارس التعليل من الفقهاء –فالأمر وكما يحكيه السبكي «المشتهر عن المتكلمين أن أحكام الله لا تعلل، واشتهر عن الفقهاء التعليل»[1]– فإنما كان يستخدم مفهوم العلة دون كل هذه الحمولة الدلالية وبعيدًا عن فضاءات الصراع الكلامي هذا، والتي يراها البعض مقحمة إقحامًا -بفعل التأثير الكلامي على الأصول- على تعليل كان يمارس منذ عهد السلف بالفعل.

لكن هذا الفصل بين «الكلامي» و«الفقهي» والذي أتاح لتعليل الشرائع الاستمرار، بل الدفاع في تأسيسه منطلقاته عن موقف مفاده كون التعليل هو «محل إجماع العلماء»[2]، لم يتم بمجرد تهميش الدلالات الكلامية لمفهوم العلة، بل عبر إعطاء مضمون ومدار معين لـ«التعليل» يبتدئ منه ويعود إليه ويتمحور حوله، يخرجه تمامًا عن الخلافات الكلامية والحمولات الدلالية لمفهوم العلة، هذا المضمون -الذي أعطي للعلة حتى ترادفا – هو «درء المفسدة وجلب المصلحة»، فبهذا التحديد لمضمون العلة أصبحت الشريعة معللة، لا بسبب أو بغرض يعود على الله أو يوجب عليه فعلًا ما، ولا بتخمينات ذوقية لا تقبل الاطراد، وإنما بمصلحة تعود على العباد ربط القرآن ذاته والحديث كثير من أحكامهما بها مما يستبعد كل خلاف [3].

هذا «المضمون» للعلة والذي أتاح لممارسة التعليل أن تستمر في جانب «التشريع» حتى وصلت اكتمالها في مقاصد الشاطبي كنظرية لها منطلقاتها «الشارع وضع الشريعة على اتباع المصالح باتفاق» ومفاهيمها وعدتها المنهجية «خصوصًا الاستقراء الذي يضبط اطراد العلة وبالتالي كليتها حتى تصير مقصدًا»[4]، لم يستطع أن يقوم بنفس المهمة في جانب تعليل «العبادات»؛ وهذا لأن العبادات وكما يرى كثير من الفقهاء ليس لها «مصالح» واضحة، أو بتعبير آخر، إن تعليل العبادات يصعب وضعه تحت هذا الإطار المضموني الذي أنقذ تعليل الشرائع أي «المصلحة»، وحتى لو تم هذا من بعض الوجوه، كما فعل الشاطبي بتعليلها بالمصلحة في الضبط والتقنين [5]، فإن هذا التعليل سيظل مجملًا، فضلًا عن كون دمج «تعليل العبادات» في تعليل الشرائع مفهومًا ومضمونًا ومنهجًا يعني عدم تفرد تعليل العبادات ولو حتى بباب خاص في علم المقاصد.

ومع هذا التوحيد بين «مضمون العلة» و«المصلحة» وبين «منهج التعليل» و«المنهج المقاصدي»، أصبح ابتعاد تعليل الشعائر عن المصلحة ابتعادًا عن «التعليل» بالمرة، وأصبح استخدام منهجيات أخرى في تعليلها خروجًا عن «المنهجية» بالمطلق، لهذا لم يعد لتعليل العبادات بعلل مخصوصة بعيدة عن مضمون العلة كمصلحة وبمناهج مخصوصة –وهو ما نجده في كتب العلل وما سنناقش هنا بداياته من خلال كتابات الترمذي- أن يستمر في علم المقاصد «تعليل الشرائع بالمصلحة بمنهجية قائمة على الاستقراء» إلا كملح لهذا العلم، أو أن يستمر خارجه كاجتهادات لفقيه ذي ميل صوفي في كتابات مستقلة مفردة خصيصا لـ «علل» العبادات الخاصة متهمة بالابتعاد عن الأصول العلمية «المقررة في الفقه وأصوله».

ما نحاول أن نقوم به ها هنا، هو الدفاع عن حقيقة أن «تعليل العبادات» علم له مفهومه الخاص تمامًا عن العلة والذي يختلف عن المفهوم الكلامي والأصولي ويبتعد عن كل فضاءات صراعاتهما، كما أن للعلة في بنائه مضمونًا ومدارًا مغايرًا لهذا المضمون الذي استقر فقهيًا ومقاصديًا «درء المفسدة وجلب المصلحة» في تعليلهم للشريعة، كذا لتحديده للعلل منهج خاص يختلف عن المنهج المقاصدي والفقهي، وأن هذا المفهوم والمضمون للعلة ومنهج التعليل يمكن مطالعتهم بوضوح في كتب العلل ومنذ أول محاولة ناضجة فيه، أي في كتابات الحكيم الترمذي، حيث نجد في تعليله للعبادات بناءً معرفيًا خاصًا، مفهومًا ومضمونًا ومنهجًا، يجعل تعليل العبادات جديرًا بأن يكون علمًا مستقلًا لا مجرد ملح لتقصيد الشريعة بالمصلحة أو محض كتابات هامشية متهمة بعدم الدقة المنهجية.


الترمذي والبناء الخاص لـ«علم علل العبادات»

لا شك فإن ما قلناه منذ قليل عن أن مضمون العلة كدرء للمفاسد وجلب للمصالح أصبح مرادفًا لمعنى العلة نفسها، وأن المنهج المقاصدي أصبح مرادفًا للمنهج ذاته، قد ترك أثره على كثير من القراءات المقدمة للترمذي وعلله، لذا فليس مستغربًا أن نجد قراءات تقرأ مفهوم العلة ومضمونها ومنهج التعليل عنده انطلاقا مما استقر عليه الوضع في علم المقاصد، مهدرة تميز العلة مفهوما واتساعها مضمونا عنده.

علة فرض الأعمال عند الترمذي هي «مشهدة الإيمان»، لأن الإيمان ليس محض اعتقاد عقلي بعقائد مجردة، بل العيش بـ«كامل الشخصية» في «العالم/ كون معاد تأسيسه ككون ديني»

فمثلا في مقدمة كتاب «إثبات العلل»، يتحدث «خالد زهري» محقق الكتاب عن أن تعليل الترمذي قائم على درء المفسدة وجلب المصلحة [6]، ورغم وجود هذه المضامين للتعليل عند الترمذي بالفعل، إلا أنها تمثل جزءًا فحسب من مضمون العلة عنده وهو ما يتعلق بالتشريعات، أما في جانب تعليل العبادات –وهو الموضوع الرئيس لكتاب إثبات العلل- فنحن نجد أن الترمذي يلتفت لمضامين أخرى للعلة مرتبطة بالعبادات وحدها، غابت عن الزهري بسبب توحيده العلة بالمضمون الذي استقر عنها مقاصديًا وقراءته للترمذي انطلاقا منه، هذه المضامين التي تناولها الترمذي في تعليله للعبادات هي:

  1. تعليل الشعائر بأبعاد يمكن إجمالها في ما أسميانه في موضع سابق بـ«الجانب الشعائري للشعيرة» ونقصد به ما تقوم به الشعيرة من أدوار «التأسيس الدوري للكون الديني- ومنه تأسيس الزمن المقدس» و«تجديد تجربة الإيمان» و«تجديد العهد».
  2. تعليلها كذلك بـ«علاقة الشعيرة بجوهر هذا الكون المؤسس» وهو هنا «التوحيد»، حيث تكون الشعيرة تكريسًا للكون التوحيدي، وهذين المضمونين للتعليل نجدهما بكل وضوح في كتاب الترمذي، سواءً في تعليله لسبب وجود العبادات من الأساس، أو في تعليله لبعض الشعائر أو حتى لبعض تفاصيلها، ما يعني أن تعليل العبادات عند الترمذي يختلف عن تعليل الشرائع، بداية وأساسًا من حيث «مضمون التعليل ومداره»، كذا وكما سنذكر، من حيث منهج التعليل، مما يجعل «تعليل العبادات» عند الترمذي فنًا خاصًا.

والتفات الترمذي لهذه المضامين -الخاصة- للعلة في تعليله للعبادات، واضح في كونه قد خصص بابًا في البدء لتفسير وجود شعائر من الأساس، سماه «ذكر علة الأعمال»، في هذا الباب لا يعلل الترمذي فرض الشعائر بمصلحة التقنين كما افترض الشاطبي وغيره دمجًا لتعليل العبادات في تعليل الشرائع بالمصلحة، والأهم أنه لا يستنج من غياب التقصيد بالمصلحة غياب التعليل – فهما عنده ليسا مترادفين -، بل يقوم الترمذي بتعليلها بما استقر عنده وما ذكرناه من مضمون خاص للعلة.

فيقول الترمذي في تعليله للأعمال:

وأما علة الأعمال، فإنهم لما عرفوه قلبًا، واعترفوا به نطقًا، ..اقتضاهم الوفاء بها، وهي الأعمال، فلو لم يدعهم إلى عمل الأركان، وقدموا عليه يوم القيامة ما كان لهم محل. ومنهم من اعترف باللسان وهو منافق، ومنهم من اعترف وعرف بقلبه، ثم زاغ ببعض الأهواء …. فمتى كان يظهر عند الجمع من الملائكة والرسل وجنود ربك يومئذ في تلك العرصة، شأن أهل الثواب والعقاب. وكانوا لا يرون من ربهم شيئا إلا أن يأمر بواحد إلى الجنة، وبواحد إلى النار … ومتى كان يظهر قوله «إني أعلم ما لا تعلمون» حين قال للملائكة «إني جاعل في الأرض خليفة»…[7]

ويمكن لنا أن نجمل ما يقوله الترمذي في هذا النص فنقول أن علة فرض الأعمال عنده هي «مشهدة الإيمان»، أو بتعبير السواح: «إعطاء الحياة للعوالم التي تم رسمها في المعتقد»، فلأن الإيمان ليس محض اعتقاد عقلي بعقائد مجردة، بل العيش بـ«كامل الشخصية» في «العالم/ كون معاد تأسيسه ككون ديني»[8]، فإنه يحتاج لفعل تتحقق فيه الشهودية لمضمون المعتقد، لفعل يخرق الكون العادي باستحضار هذا الكون الديني– زمانًا ومكانًا وسردًا – ليحيا الإنسان فيه وجودا له معنى، وفعل العبادة أو «الأعمال» وكما يظهر من نص الترمذي هنا هو الذي يحقق هذا العيش/ الخرق/ إعادة التأسيس/ تغيير نمط الوجود، ويحافظ على استمراراه، فالتعبد بنقله المؤمن من «الكون العادي» إلى حيث الله وملائكته ونبيه والمؤمنون والكفار وحيث كامل السردية الدينية من قبل خلق آدم إلى يوم الدينونة «الكون الديني»، يحقق هذا الشهود لمضمون المعتقد، وينقل المؤمن من عرضية الوجود وفرديته وعاديته إلى أبديته وشهوديته.

وفعل العبادة عند الترمذي لا يعيد تأسيس الكون باستحضاره الكون الديني وموضعة الإنسان خلاله فحسب، بل إنه يكشف ويكرس عبر مشهدته هذه، عن القيمة المركزية لهذا الكون الديني، أي التوحيد، بل كذلك عن الملامح الخاصة والمحددة للتوحيد الإبراهيمي بالذات.

وهذا يتضح لنا تمامًا لو تمعّنّا في ملامح هذه المشهدة التي يتحدث عنها الترمذي، حيث أن الملمح الرئيس فيها، هو أنها مشهدة تتمحور حول «العدل»، «وإذا أمر بأحدهم إلى الدرجات العلا علم الجميع بم نال هذا، وقالت الملائكة بمن الله وفضله، وإذا أمر بأحدهم إلى النار قالت الملائكة بذنبك وما الله بظلام للعبيد»[9] ومركزية العدل في الكون الديني هو خصيصة توحيدية إبراهيمية بامتياز.

يرى «يان إسمان» أن الفارق بين الكون التوحيدي وغير التوحيدي، هو ارتباط الأخلاق -وخاصة العدل- والدين في الأول، وغياب حتمية هذا الارتباط في الثاني

فكما يرى «يان إسمان»،ـ فإن الفارق بين الكون التوحيدي وغير التوحيدي، هو ارتباط الأخلاق -وخاصة العدل- والدين في الأول، وغياب حتمية هذا الارتباط في الثاني، «فلم يكن هناك دين وثني جعل الحق من أموره الرئيسية»، وإن كان هذا لا يعني طبعا نفي الاهتمام التام بها، حيث كان للعدل وجود في هذه الأديان بشكل ما، لكن «الإنجاز المميز تمامًا للتوحيدية فيما يرى إسمان هو «تحويلها من الأرض ومن تجارب الإنسان كمصدر للحق ورفعها للسماء» «وعندما تجعل التوحيدية العدالة من أمور الإله، أي تجعلها لاهوتية، ترفعها إلى مصاف الحقيقة الدينية. وبهذا تصبح العدالة المفهوم العام للدين الحق»[10]. فوظيفة الشعيرة هنا إذن ليست فحسب خلق الكون الديني، بل تجسيده بأدق ملامحه وتكريس أخص قيمه.

وفي الحقيقة فإن هذه العلاقة بين الدين والأخلاق وخصوصًا هذا الدور للشعيرة في تكريس مركزية الأخلاق – العدل في الكون التوحيدي، قد التفت إليه بعض الفلاسفة المعاصرين، نقصد «طه عبد الرحمن»، حيث يعبر طه عن نفس ما رسمته مشهدة الترمذي من مركزية الأخلاق في الكون الإسلامي، والمكرسة عبر الشعيرة حيث يرى في رؤيته الإئتمانية للدين، أن «العبادة في الإسلام هي أخلاق روحية»[11]، وربما من الممكن لنا أن نجمل تعليل الترمذي لفرض الأعمال في جملة شبيهة، فنقول أن «الشعيرة عند الترمذي هي تكريس لأخلاقية الكون الإسلامي» حيث هي الفعل الذي يستعيد باستمرار هذا الكون الديني–التوحيدي-الإبراهيمي-الأخلاقي.[12]

فالمضمون الرئيس لتعليل الترمذي لفرض الشعائر كما يتبين لنا هنا، هو جملة وظائفها الشعائرية «تجديد تجربة الإيمان وخلق الكون الديني» -وخاصة قيامها بتكريس النواة المركز لهذا الكون «أي التوحيد»- ليصبح كونًا معاشًا باستمرار لا متصورًا في الذهن فحسب أو كما قلنا مستعيرين من السواح «إعطاء الحياة للعوالم التي تم رسم صورتها في المعتقد».

هذا الإدراك للجانب الشعائري للشعيرة، والذي اتضح في تعليل الترمذي لفرض الأعمال عموما، نجده أيضًا في تعليل الترمذي للعبادات تفصيليًا.

ففي «الصوم»، نجد الترمذي يذكر تعليلين، الأول مرتبط بالزمن المقدس وهو بعد من أبعاد الكون الديني والتعليل الثاني مرتبط بقيم التوحيد مركز الكون الديني الإسلامي.

فأولا يعلل الترمذي الصوم بكسر العادة، فلأن النفس وكما يرى الترمذي مجبولة على الغداء والعشاء «لهم رزقهم فيها بكرة وعشيا»[13]، فإن الصوم بكونه كفا عن الغذاء، هو كسر لهذه العادة.

ولأن كسر هذه العادة يتم لا بالمنع التام وإنما بالتأخير كما يقول الترمذي، فإن كسر العادة هذا يصبح بالمعنى الأدق «تعديلا في الزمان»، هذا الربط للصوم بالتعديل في الزمان العادي يكشف لنا كثيرا من أبعاد الصوم في الإسلام والتي لا تظهر عند الغفلة عن هذا الجانب الهام – وهو غالبا ما يتم الغفلة عنه خصوصا مع كون العلة المشتهرة للصوم عند المعظم هي مجانبة الشهوات أو الشعور بالأكباد الجائعة [14] -، فانطلاقا من هذه العلاقة للصوم بالزمان نفهم شكل حضور الصوم في النظام الشعائري الإسلامي، فالصوم في الإسلام فرض لشهر واحد من السنة، واستحب في أيام من الأسبوع، وأيام من الشهر، وهو يدور مع كل الفصول ومع تغير طول الليل والنهار، هذه الطريقة لحضور الصوم في نظام الإسلام الشعائري بحيث يصبح شائعًا في الزمان تجعله كسرًا دائمًا لعادية الزمان، وربطًا للمسلم دومًا بزمن آخر، زمن متعالٍ مفارق للعادة كما للطبيعة.

ومن هنا تأتي الأهمية الكبيرة للصوم في الإسلام،حيث يعمل على إشاعة زمنه الديني، والزمن الديني هو أحد أهم أبعاد الكون الديني، -لذا نجد الأديان تهتم بمواقيت عبادتها وبأعيادها كنقاط رئيسة على هذا الزمن المقدس- وأحد طرق تكريس قيم نظامه العقدي، وبالنسبة لهذا الزمن الديني الإسلامي المرتبط بالصوم، فإنه يكرس أحد أهم مفاهيم نظام الإسلام العقدي أي مفهوم «التعالي» و«المفارقة» كمفهوم رئيس للتوحيد الإبراهيمي.

العلة الأخرى التي يعلل بها الترمذي الصوم هي ما فيه من ميل عن الدنيا ورفض للركون إليها [15]، والميل عن الدنيا «الظاهر-المنتهي» والخوف من الالتصاق الدائم بها حتى تخايل أنها «الحقيقة-واللامنتهي» هو أعمق معاني التوحيد، حيث التوحيد ليس سوى المفارقة الدائمة لكل ما يخايل بالكمال والحياة «الوثن- الصورة- ما صنعت اليد- الدنيا معزولة عن بارئها» نحو الحي الواحد الذي لا يموت ولا ينتهي ولا يسعه محل.

هذه العلاقة بين الحياة الحقيقية للنفس والتعلق بالله وتوحيد الميل إليه تتضح في حديث الترمذي عن علاقة الصوم بالنمو والزكاة، حتى أنه يسميه «زكاة النفس»، فزكاة النفس تأتي من ميلها هذا عن «الميت» نحو «الحي» الذي لا يموت، مما يعني أن الصوم هنا معلل بأعمق معاني التوحيد.

كذلك فإن بعد «تجديد العهد» كبعد رئيس من أبعاد الجانب الشعائري للشعيرة والذي اهتم له كثير من علماء أديان معاصرون، مثل كايو والياد، ليس غائبا عن تعليلات الترمذي، ففي كثير من تعليلاته نجده يلتفت لهذا الجانب، فمثلا في تعليله للحج، يقول الترمذي «فالإسلام هو تسليم النفس إلى الله تعالى انقيادا وعبودة، ولذلك قيل«حجة الإسلام» فإذا حج مرة بعد أخرى، فإنما يجدد في كل مرة تسليما إلى الله تعالى، لأنه كلما أذنب، دخل الخلل في تسليمه إليه» ومثله يقول في الصلاة [16].

فكما يتضح لنا من هذه الأمثلة التي ذكرنا، فإن تعليل الترمذي للعبادات له مضمونا خاصا للعلة، ومدارا خاصا يدور حوله فعل التعليل، هو الكشف عن «الأبعاد الشعائرية للشعيرة»، هذا المضمون للعلة أبعد مفهومها عند الترمذي عن الالتباس الذي تعرضت له كلاميا، حيث أن مفهوم العلة هنا لا يعني أكثر من حقيقتها، «باطنها».

ولأن هذه العلة الخاصة مضمونا ومفهوما لا يمكن التوصل إليها عبر المنهج المقاصدي المرتبط بالتعليل المصلحي، لذا فقد كان لزاما على تعليل الترمذي للعبادات أن يكون له بنائه المنهجي الخاص.


البناء المنهجي للتعليل عند الترمذي

هذا الاختلاف في المنهج بين «تعليل العبادات» و«تعليل الشرائع» والقائم على أساس الاختلاف في مضمون العلة، هو الذي يفسر لنا موقع «العرفان» في هذه التركيبة المنهجية لتعليل العبادات عند الترمذي والتي حددها زهري، بـ «اللغة والخبر والعرفان» –اللغة والخبر أساس منهجية تقصيد الشرائع بالمصلحة [17]– أيضا هو الذي يجعلنا نفهم لماذا لا يعد استخدام العرفان هنا بعيدا عن الدقة العلمية أو وقوعا في الذاتية، بل بالعكس فإنه في ظننا طريق منهجي شديد الأهمية لتعليل العبادات تماما كما استقراء الشاطبي هام لتعليل الشرائع بالمصلحة.

فما يفرض الأداة المستخدمة في بناء منهجي ما هو الأساس المنهجي لهذا البناء، ولأن الأساس المنهجي الذي يقوم عليه تعليل الترمذي هو هذا المضمون الذي يعطيه للعلة أي «الجانب الشعائري للشعيرة»، فإن اللجوء للعرفان يعد ضروريا، فهذه العلة ولأنها ليست علة خارجية تدرك من خارج العبادة، بل هي علة متلبسة بها «حقيقتها وباطنها»، فلا يمكن إدراكها إلا «بملابسة العبادة» -بتعبير طه عبد الرحمن-. ويمثل العرفان – كترفي في الشهود عبر المجاهدة- الطريق الأمثل لهذه الملابسة، بمراحلها «المزاولة» «المخالطة» «المباطنة» «حيث تغلب الأعمال الباطنة للجوانح، فتنعكس آثارها على الأفعال الظاهرة للجوارح»[18].

فالأساس المنهجي الذي يقوم عليه تعليل الترمذي للعبادة هو الذي يفسر لنا اختياره لأدواته، ويجعل اختيار العرفان اختيارا في غاية المناسبة.

ولتوضيح هذا بصورة أكبر فربما بالإمكان مقارنة مقاربة الترمذي للشعائر بمقاربات المحدثين لها ليظهر ارتباط «الأدوات المنهجية» المستخدمة في كل مقاربة بـ«الأساس المنهجي» الذي تقوم عليه.

فبالنسبة للمقاربات الحداثية للشعائر والتي تقوم على أساس كشف الأبعاد الاجتماعية والتاريخية للشعائر –علة الشعائر الضبط [19]-، فإن اهتمامها الرئيس يكون للأبعاد الخارجية للشعائر وصلاتها التاريخية، مهملة وكما قلنا في المقالات السابقة، الأبعاد الرمزية للشعيرة، المرتبطة بصلتها بالنظام العقدي وبالجوانب الشعائرية، لذا فهي لا تحتاج لأداة تقربها من فهم هذه الأبعاد بل تقتصر في منهجها على التحليل الفيلولوجي والاجتماعي والتاريخي كأدوات منهجية، كذلك فإن المقاربة المقاصدية المعاصرة للشعائر والتي تعتمد أساسا منهجيا يقوم على إدراك الأبعاد الأخلاقية أو العمرانية للشعائر –علة الشعائر عمرانية وأخلاقية- لا تحتاج هي الأخرى لملابسة الشعائر لذا تقتصر في أدواتها على التحليل المفهومي للآيات الكلية الخلقية والتزكوية فحسب.

فهاتين المقاربتين اختلفت أدواتها عن أداة الترمذي نتيجة اختلافهما معه في الأساس المنهجي وعدم اهتمامها بالأبعاد الشعائرية للشعائر.

لكن لو انتقلنا للمنهجيات المعاصرة في علم الأديان والتي تميل لكشف الأبعاد الشعائرية للشعيرة «كايو» «إلياد»، وعلاقة الشعيرة بالمعتقد «كايو» «السواح»، أي التي تقترب في أساسها المنهجي من الأساس المنهجي للترمذي، فإننا سنجدها تستخدم أدوات تقربها للشعائر وتتجاوز التأمل الخارجي البراني لها، نستطيع وصفها بـ«الملابسة» أيضا، فبدءا من أوتو أصبح جزء من فهمنا لأبعاد الدين –ومنه الشعائر- قائم على الإدراك «الظاهراتي» لتجربة معاينة المقدس –أو ملابسته- كتجربة لها أبعادها الخاصة والمميزة والحاسمة في فهم كل أبعاد الدين.[20]

لذا فإن إدانة استخدام الترمذي للعرفان، أو جعل هذا سببا لوصف تعليلاته باللاعلمية [21] مثلما يقول الريسوني، لا يعد دقيقا في ظننا، حيث أن هذا الحكم لا ينتبه لمضمون العلة عند الترمذي وكونها كأساس منهجي لتعليله فرضت عليه أدوات منهجية معينة، قد يدخل فيها حتى ما أسماه زهري بـ«شطط الخيال»[22]، والذي لا يبعد كثيرا عن ما أسماه إلياد بـ«التأويل الخلاق» الذي يحتاجه كثيرا علم الأديان كعلم تأويلي في الأخير [23].


علم العلل ونقاشاتنا المعاصرة

الأساس المنهجي الذي يقوم عليه تعليل الترمذي للعبادة هو الذي يفسر لنا اختياره لأدواته، ويجعل اختيار العرفان اختيارا في غاية المناسبة

الاهتمام بعلم علل العبادات ومحاولة توضيح ولو ملامح لخصوصية بنائه «منطلقاته، مفاهيمه، منهجه»، على ما حاولنا في هذا المقال، مرده لما نظنه من قدرة هذا العلم على إنضاج مناقشتنا المعاصرة حول الدين، فكما حاولنا أن نقول في المقالين السابقين، فرغم أن «الإسلام» هو أكثر ما يتم الحديث حوله في مناقشتنا، إلا أن نسبة المقاربات الثرية له إلى «الكلام» حوله تظل صغيرة إلى حد كبير، فأغلب المقاربات تقع في الاختزال والتجزئة وتبتعد عن تكوين فهم له كظاهرة لها أبعادها.

إن كثيرا من الخطابات المعاصرة تستخدم مفهوم الإسلام وكأنه مفهوما شفافا يشير في كل بساطة إلى مدلوله، وهو ما لا نظن، فالإسلام وليس فقط في التمثلات التراثية له، ولكن أيضا –وربما بصورة أكبر- في محاولات تحديثه وإصلاحه، خضع لكثير من إعادات التشكيل والتركيب وفقا لمسلمات ومنطلقات المصلحين والمحدثين، لذا فإن كل نقاش جاد حول الإسلام ودوره، لابد أن يبتدئ أولا بمحاولة فهمه، وتحديدا محاولة فهمه في كليته، دونما اختزال أو تفتيت، ودونما نسيان كون الأبعاد الرمزية والدينية جزء رئيس في كليته، هذه الكلية التي وكما تساعدنا منهجيات علوم الأديان المعاصرة في كشفها، يساعدنا كذلك هذا العلم المنسي والمهدر، «علم علل العبادات».


[1] نظرية المقاصد عند الشاطبي، الريسوني، ص223.[2] نفسه، ص226، كما نقل الريسوني عن عدد من الأصوليين والمتكلمين، الآمدي وابن الحاجب والشاطبي.[3] تعليل الأحكام، محمد مصطفى شلبي، ص96.[4] يذكر الريسوني أنه يمكن القول باطمئنان أن الاستقراء هو أهم طرق الوصول للمقاصد عند الشاطبي، وفي هذا الإطار يبدي استغرابه من أن الشاطبي لم يذكر الاستقراء في طرق الوصول للمقاصد، على كثرة الذكر والإشارة لأهمية هذا الاستقراء، وليس الريسوني وحده من يشير إلى أهمية الاستقراء في منهجية لشاطبي، بل بالنظر لكون نشأة المقاصد كان لسبب منهجي هو تأسيس الفقه على قواعد يقينية تتجاوز ظنية القياس، يظهر لنا مدى أهمية الاستقراء في منهجه، وظننا أن عدم ذكر الشاطبي للاستقراء كأحد الطرق الموصلة للمقاصد، هو أنه ليس أحد الطرق، بل هو ساري في كل هذه الطرق في الحقيقة وهي كلها متوقفة عليه، مما يجعله جوهر طريقة التقصيد عند الشاطبي.[5] الريسوني، سبق ذكره، ص220.[6] إثبات العل، الترمذي، ص45.[7] نفسه، ص 82.[8] هذه الجوانب الشعائرية للشعائر كنا قد أشرنا إليها في مقال «الشعائر الإسلامية في الدراسات المعاصرة» باعتبارها السبب في المركزية التي يعطيها علماء الأديان مثل إلياد وكايو وتيليش والسواح الشعائر دراسة الأديان، حيث يعتبرونها بسبب هذه الجوانب بعدا رئيسا في بنية الدين الأساسية.[9] نفسه، ص83.[10] التمييز الموسوي أو ثمن التوحيدية، يان إسمان، ص68، في هذا السياق، يمكن الإشارة لما تحدث عنه تيليش من صراع الديانة النبوية العبرية ضد العنصر الشيطاني المدمر في المقدس، وهو الصراع الذي نجح بحيث إنه غير مفهوم المقدس، فبطرد الشيطاني من المقدس أصبح المقدس عقليا وتماهى بالحقيقي والخير، أصبحت القداسة هي الحقيقة والعدالة، ( تيليش، «بواعث المقدس» ص22،23).[11] بؤس الدهرانية، طه عبد الرحمن، ص105.[12] مركزية الأخلاق في الكون التوحيدي والمكتشف عبر قراءة الأبعاد الشعائرية للشعيرة وخصوصا «تأسيس العالم» عبر استحضار الكون الديني، يكشف لنا عن علاقة الإله التوحيدي بـ«المقدس»، وعن الفارق بين صورة الإله التوحيدي وصورة الإله في الأديان غير التوحيدية، مما يزيد فهمنا لأعمق أبعاد النظام العقدي التوحيدي، لذا فالأمر هنا مختلف تماما عن القراءة الأخلاقية للشعائر والتي لم نثمنها كثيرا في المقال السابق لكونها تهمل الأبعاد الشعائرية للشعيرة بحصرها تفسيرها في أثرها الأخلاقي-الاجتماعي [13] إثبات العلل،ص177.[14] مثلا، زاد المعاد في هدي خير العباد، ابن القيم، الجزء الثاني، ص27.[15] إثبات العلل، ص178، ربما علينا الإشارة هنا لصنيع ينتهجه الترمذي في كتابه، وفي استخدامه للغة كأساس للتعليل، حيث يلجأ للربط بين الألفاظ القرآنية للوصول لمعان حاسمة في تحديد العلل، فنجده مثلا يتحدث عن أن اسم «المال» هو من ميل النفس إليه، تصبح الزكاة «ميلا لله عنه» لذا فهو حين يجعل الصوم «ميلا» عن الدنيا، يرتبط تماما بالزكاة، التي لا تعد ميلا عن «المال» بل رفضا لـ «الميل»، ولا شك فإن هذا له علاقة برؤية الترمذي للغة حيث يرفض تعدد المعاني، ويحاول دوما العودة بالكلمات إلى معنى واحد أصلي، وهو وكما تقول سلوى محمد العوا «وإن كان سيصبح مذهبا لعدد من اللغويين لاحقا، إلا أنه في وقته كان ثورة»،(الوجوه والنظائر في القرآن الكريم، ص23). ونظن أن الالتفات لعلاقة رؤيته اللغوية باستنباط العلل يعد في غاية الأهمية في إدراك كثير من أبعاد منهجيته.[16] إثبات العلل، ص92.[17] تركيزنا هنا على «العرفان» فحسب، سببه أن اللغة والخبر جزء من منهجية التعليل المصلحي كذلك، ولأنه لا يوجد خلاف في كونهم منطلقا للتعليل، خصوصا الخبر، فالشاطي ومع تحفظه على تعليل العبادات له تعليلاته المنطلقة من الخبر، وإن كان وكما قلنا منذ قليل فإننا نظن إن اللغة عند الترمذي كأساس لتعليل لها أبعاد خاصة ومتميزة تحتاج للكشف، وربما نحاول القيام بهذا في موضع آخر.[18] العمل الديني وتجديد العقل، طه عبد الرحمن، ص.129[19] ثمة فارق بين ما ذكرناه من تعليل الشاطبي للعبادات –ومعها الحدود والكفارات- بمصلحة الضبط والتقنين، وبين التعليل الحداثي للشعائر بضبط المجتمع، ففي الأول المقصود هو هيئة حضور الشرائع لا أصل شرعها، بينما في الثاني المقصود هو أن الشعائر شرعت بالأساس لسبب الضبط، وإن كانت وجهتي النظر يفضيان بشكل ما لتجاهل الجانب الشعائري للشعائر.

[20] وهذه التجربة أوسع من الدين الخاص، حيث أن كل دين هو حصر المقدس كما يقول تيليش، بل هي لا تقتصر على المتدين، فكسر اعتيادية الزمان والمكان وخلق الكون المقدس والحاجة لزمن بدئي، والانفتاح على تجربة الحقيقي والمعنى، هي مواقف بشرية حدية، يحياها المتدين وخلفه الملحد كما يعلمنا إلياد وموران.[21] الريسوني، سبق ذكره، ص26.[22] إثبات العلل، ص50.

[23] يرى إلياد أن عمل مؤرخي الأديان لم يسترشد دوما بالتأويل الخلاق، ربما بسبب غلبة العلموية وضغط نماذج العلوم الطبيعية على عمله، مما دفعهم للحذر والتواضع، ويرى أنه لابد ألا ينصاع علم الأديان أو أي من العلوم الإنسانية لضغط هذه النماذج، وأن تاريخ الأديان ملزم من حيث كينوته، بإنتاج «مؤلفات» بكل معنى الكلمة، وليس محض دراسات مونوغرافية، فالتأويل يأخذ مكانه بين المصادر الحية التي تملكها ثقافة ما، فكل ثقافة تتكون من تأويلاتها المخصوصة لعقائدها وأساطيرها، لذا فعلى عالم الأديان ومؤرخها الاستفادة من هذه المصادر، عبر الاشتباك التأويلي معها. انظر «البحث عن التاريخ والمعنى في الدين» مرسيا إلياد، ص144،145 ، ولعل هذه الرؤية من إلياد تأتي على العكس تماما من كثير من الرؤى التي تعتبر أن مهمتها منتهية باتهام بعض التأويل التراثية بالشطح أو الضعف أو عدم الدقة، متجاهلة قيمتها التأويلية وقيمة الإشتباك التأويلي معها.