في أحد مشاهد الجزء الثالث من سلسلة «هاري بوتر» يقف معلم السحر ليعلم طلابه كيفية مواجهة نوع خاص من السحر الشرير يُسمى «بوجارت»، وهو سحر شرير متغير الشكل يعتمد على تقمص صورة أكبر مخاوف من يقابلهم. يخبر المعلم طلابه أخيرًا أن الطريقة الوحيدة للتغلب على هذا السحر الشرير هي أن يسخروا منه، وأن يتخيلوا أكبر مخاوفهم بشكل مضحك.

يتقمص هذا السحر الشرير صورة عنكبوت عملاق حينما يقابل «رون ويزلي» الذي يخشى العناكب بشكل مميت، وينتصر ويزلي أخيرًا حينما يتصور هذا العنكبوت وهو يرتدي «أحذية باتيناج» لا يستطيع السير بها فينقلب، فيضحك ويزلي ويضحك الجميع. السخرية دائمًا هي الحل.

في فيلم «الأصليين» يعرض لنا «مروان حامد» في تجربته الثانية مع «أحمد مراد» حكاية تدور حول أحد المخاوف الكبرى في هذا العصر، أكبر مخاوفنا لم تعد العناكب أو المستذئبون، وإنما هي حياتنا الشخصية، حياتنا التي أصبحت بلا معنى أو هدف على جانب، كما أصبحت منتهكة ومكشوفة بشكل كامل على الجانب الآخر. الأمر مخيف جدا، ولذا يفعل مراد وحامد ما فعله زملاء هاري نفسه، يسخرون منه.

يبدأ الفيلم طرح فكرته في عدم جدوى الحياة بكادر قريب من ثلاجة عرض الدواجن المجمدة، وكأننا جميعا مدجنون نحيا حياةً مجمدة.

«سخرية ذكية للغاية من رعب حقيقي»، هذا ما فوجئت به في النصف الأول من الفيلم. المخرج «مروان حامد» والكاتب «أحمد مراد» في تجربتهما الثانية يرويان قصة «سمير عليوة»، المواطن المصري الذي يعمل في أحد البنوك، مسجونًا في روتينه اليومي، يرتدى بدلة رسمية ورابطة عناق نهارًا، ويجلس على كنبة منزله ليلًا ليشاهد برامج المواهب والمسابقات فتراوده أحلام اليقظة بأن يكون أحد أبطال هذه البرامج يومًا ما.

حتى يستقيظ في أحد الأيام فيفصل من عمله لتحل محله فتاة أصغر سنا وأقل أجرا. سمير الذي يجسده «ماجد الكدواني» بعبقرية تامة، عبقرية تكمن في كونه يبدو كمن لا يمثل أصلا. هذا السمير هو ابن هذا العصر بامتياز، بلامبالاته وعدم تفرده، وحتى بزوجته البدينة وأولاده المنهمكون في هواتفهم المحمولة.

الرعب يكتمل على الجانب الآخر، فلا يكفي أن حياة سمير، التي تعبر عن حياتنا، أصبحت مجمدة بلا طعم ولكنها أيضا أصبحت منتهكة ومكشوفة. الكل مراقب، هذا الهاجس يبدو قديمًا على مستوى الأدب، ففي رواية «1984» لـ«جورج أوريل» يعيش الجميع تحت أعين حاكم متسلط بشارب كث يراقب الجميع من خلال أعين الجميع، ولكنه على الرغم من ذلك يُسمى «الأخ الأكبر»، وكأن المواطنين مجرد إخوته، يراقبهم بدافع الحب في النهاية.

في «الأصليين» يختار حامد ومراد أن يجعلا المسئول عن المراقبة هم مجموعة الأصليين، هم المدافعون عن روح الوطن، «الرب في السما بيراقب عبيده واحنا إيه غير بشر بيقلد الفكرة». يعلنها «رشدي أباظة» في وجه سمير، رشدي أحد كبار الأصليين، والذي يجسده خالد الصاوي بمسرحية تحمل طابعًا كوميديًّا واضحًا.

الأمر مخيف للغاية كما قلنا، لذا يبدو اختيار صناع الفيلم عظيمًا في طرحه في إطار كوميدي ساخر، فحينما يبدأ الفيلم في طرح فكرته في عدم جدوى الحياة، يبدأ بكادر قريب من ثلاجة عرض الدواجن المجمدة في أحد المولات، وكأننا جميعا مدجنون نحيا حياةً مجمدة. وحينما يريد أن يخبرنا عن رعب المراقبة يصور لنا جهاز المراقبين الأصليين وهم يرتدون «بدلًا صيفية» من إنتاج غزل المحلة ويحتسون «التمر الهندي» في جلساتهم التي يبحثون فيها عن جمل وطنية ذات سجع تصلح للغناء على خلفية موسيقية مصدرها «كمانجات عديدة».

مراد وحامد متأثران للغاية بأفلام أوروبية عديدة ناقشت هذه الأفكار، كادرات متسعة تحمل أفعالا فارغة، موسيقى صاخبة يضيفها «هشام نزيه»، وجمل خطابية طويلة، ومونتاج متقطع. ربما شعرت بأن الأصليين هو أقرب فيلم عربي أشاهده لأسلوب المخرج البلجيكي «جاكو فان دورميل» صاحب أفلام «Mr Nobody»، و«The Brand New Testament».

كما لا يمكن مناقشة هاجس مراقبة الحياة الشخصية في عصر ما بعد الحداثة دون ذكر التأثر أيضا بمسلسل «Black Mirror» من إنتاج شبكة Netflix الأمريكية. كل هذا التأثر لا يعني بالطبع التقليل من قدر الأصليين، ولكنه على العكس يعني أننا لدينا منتج مصري فني نادر يصلح للمقارنة مع الإنتاج العالمي.

ذكاء الأصليين وتفرده يكمن في تلك الإشارات الساخرة والحقيقية والمصرية للغاية. تلك الإشارات التي طرح بواسطتها أفكارًا كبيرة في وقت صعب، فحينما يُذكر في أحد مشاهد الفيلم أن نظام المراقبة على الحياة الشخصية المستخدم من المدافعين عن روح الوطن في مصر قد شُرِي من ألمانيا، تراودني بشكل مباشر معلومة أن الأجهزة الأمنية المصرية قد اشترت نظامًا لمراقبة الحواسب والهواتف والحسابات الإلكترونية من شركة «جاما» الألمانية.

«الأصليين» تجربة مختلفة تقدم أفكارا جديرة بالتأمل حول هاجس المراقبة في عصر فوران الشوفينية القومية علي أرض مصر

هذا النظام الذي استُخْدِم ضد النشطاء السياسيين السلميين في مصر، بالإضافة لأي شخص تراه هذه الأجهزة مستحقًّا للمراقبة، ذكر الباحث الأمريكي «كريستوفر سوغويان» هذه المعلومة في حديثه على منصة Ted في أغسطس/آب من عام 2013 قبل أن يختتم المعلومة بحقيقة ساخرة أخرى، وهي أن النظام المصري في حقيقة الأمر لم يشتر النسخة الكاملة من برامج المراقبة، ولكنه عمل من خلال النسخة التجريبية القصيرة Demo Version التي تُحَمَّل دون مقابل. نحن إذن أمام إشارات ساخرة لأفعال حقيقية مرعبة، ولكنها كوميدية جدًّا على الرغم من ذلك.

لم ينقص «الأصليين» إلا أن تكتمل حكايته بالمستوى الذي بدأت به نفسه، ولم يعق ذلك سوى قصة جانبية غرق فيها الفيلم بعد منتصفه ولم يغادرها إلا قبيل النهاية، قصة بطلتها ثريا التي جسدتها «منه شلبي»، قصة حول الفراعنة واللوتس الأزرق وأشياء مبهمة أخرى، ويبدو أن هذه الأشياء المبهمة الزرقاء التي تدعي معنى لا تحمله هي نقطة ضعف «أحمد مراد» الكبرى التي لو تخلص منها لاستطاع أن يقدم لنا فيلمًا ممتعًا وذكيًّا ومكتملًا.

«الأصليين» تجربة ساخرة جديدة على صناعه، تقدم أفكارًا جديرة بالتأمل حول ضياع المعنى من حيواتنا، وحول هاجس المراقبة في عصر فوران الشوفينية القومية على أرض مصر. تجربة جديرة بالمشاهدة لم نرد سرد تفاصيلها بالكامل حتى لا نفوت على الجمهور متعة مشاهدتها، وجرعة من الضحك الحقيقي «النابع من الكادر والفكرة» الذي لا نحظى به سوى نادرًا في أفلامنا المصرية.