إسمك إيه يا حبيبي؟ أحمد بخيت إسمك أحمد؟ لأ ، أحمد بخيت نفسك تطلع زي زمايلك دكتور؟
لأ ، نفسي أطلع نبي.

كان هذا حوارا بين أحمد بخيت ومعلمته، وقبل أن يكون الشاعر «أحمد بخيت». المعلمة تسأل مجرد سؤال، والطفل يملك أكثر من مجرد إجابة. البداية يجب ألا تكون تقليدية، مع شاعر كهذا، والآن لنبدأ كما يجب.

ولد أحمد بخيت في فبراير عام ستة وستين (1966) في قلب صعيد مصر «أسيوط»، يشير لنفسه في عدد من قصائده «بالجنوبي»، وهي عادة يكتسبها كل شعراء الصعيد تقريبا على اختلافاتهم في الشكل وطرق الحكي والكتابة، الجنوبي هي مظلة واسعة لهوية مفتوحة يقع تحتها أحمد بخيت / أمل دنقل / سيد العديسي / حسن عامر وآخرون تجمعهم شدة النحافة وثقل الموهبة.

أتينا من صعيدِ الشوقِ أفئدةً جنوبيّةْ نفتّشُ تحتَ وجهِ الشمسِ عن خبزٍ وحرّيّةْ وعن بيتٍ نربّي فيهِ لهجتَنا الصعيديّة.

يكتب بخيت قصائده برقة جامحة، وبدقة مخيفة. ورغم أنه لا يخرج عن الزي العمودي، فإنه يعيد تشكيل هذا الزي حتى تكاد لا تعرفه، وتظنه شكلا جديدا ابتدعه هو خصيصا، أستطيع وبلا مبالغة أن أميز قصيدته من وسط آلاف قد تشبهها في الشكل، لكنها تفتقد تلك الرقة، والدقة التي نوهت بها منذ بضعة سطور.

قوافيه مثلا مهما طالت القصيدة (وأحمد بخيت له نفس طويل للغاية في كتابة الشعر، وقد أبدع بالفعل عدة مطولات تبارز مطولات أحمد شوقي مثلا كقصيدة «المشكاة» في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، ومطولة «وداعًا أيتها الصحراء» التي حاولت أن تعيد الروح للمعلقات في نهاية الألفية الثانية، أو «ملحمة القاهرة» التي ارتجلها بيتا بيتا على الفضاء الافتراضي الأزرق معلنًا «ممارسة السحر علنًا أمام جمهوره») – أقول إن قوافيه مهما طالت القصيدة تظل طازجة، طازجة وحتى تُخْتَتَم القصيدة.

لا تشعر حينما تنتهي من قصائده أن هناك شيئا ما كان ينبغي أن يقوله ولم يقله، بالطبع لا أحد ولا شيء مثالي ولكن ترضيني قصائده دوما، وأشعر في نهايتها بأنني سعيد بشكل ما.

لقد وَدّعتُ ما ودّعتُ مني لأولدَ من رماد الأمنيات سأفترع الكتابةَ وهي بكرٌ وأجترح الحقائقَ ثَيّبات وأنتظرُ القيامةَ في هــــدوءٍ وحيداً تحت سقفِ مُخيَّماتي.

الثلاثية

لشاعرنا أيضا شكل شعري آخر يضاعف من مميزاته، فبالإضافة للموسيقى الشعرية الجميلة في كل قصائدة ولغته المتفردة رغم شيوع شكل كتابتها، فإنه وكما يذكر صلاح جاهين برباعياته كواحدة من أفضل أشكال التعبير الشعري العامي تكثيفا وجمالا، سيذكر أيضا أحمد بخيت بثلاثياته التي أظنها أيضا من أجمل الأشكال التي صبت فيها جرعة عالية من الشاعرية استطاعت «صقل» المعنى و«تشذيبه» ليكون رهيفا للغاية، وأنيقا جدا.

له عدة دواوين عبارة فقط عن ثلاثيات، منها صمت الكليم (الذي جاء في 114 ثلاثية، ولا أظنها صدفة أن يتساوى العدد مع سور القرآن الكريم)، وأخرى كجبل قاف وشهد العزلة. يبدو أنه يرتاح كثيرًا في هذا الشكل الشعري، وتظهر فيه أفضل تجلياته الإبداعية، كنت اخترعت اسما لهذا الشكل الذي أعشقه وسميته «قصيدة الهايكو العمودية».

فها هو يضع صوفية قصيدة الهايكو في قالب موسيقي محكم:

أحبُّكِ… فليُسمُّوا الحبَّ وهْمًا، كذْبةً، إغراءْ أفي مقدورِ هذا الماءِ إلاّ أنْ يكونَ الماءْ؟ إذا امتلأ الزمانُ بنا تلاشَتْ فِتنةُ الأسماءْ.
بل يجعل من يحبها نفسها تتحول إلى موسيقى:
أنا الصوفيُّ والشَّهوانُ عَشَّاقًا ومعشُوقا أسيرُ بقلبِ قِدِّيسٍ وإن حسِبُوهُ زنديقا وحين أحبُّ سيدةً أحوِّلها لموسيقا.
أو يذوب عشقا وعرفانا فتذوب الكلمات بداخله:
أكادُ أضيءُ يقتلُني ويحُيِيني بِكِ العِرْفانْ يصافِحُنِي الذي سيكونُ ما هُوَ كائنٌ ما كانْ سَكِرْتُ بما… سَكِرْتُ وما… سكِرتُ… فقبِّليني الآن.

ولا يكتفي أحمد بخيت بالتغزل في قصائد الهايكو العمودية خاصته، بل يحاور فيها الأنبياء والصديقين والشعراء والشهداء، وقد يتقمصهم في بعضها أحيانا. فمع محمد:

طلبت السرَّ للدنيا فألهاني عن الدنيا وحين أجاءني للغَارِ قال: عَزَاؤُكَ الرُّؤْيَا فقلت: أنا الفتى الأُمِّيَّ قال: تَحَمَّلِ الوَحْياَ. والخِضر: ثَقَبْتُ سفينةَ الفقراءِ كي تَعمَى عيونُ البُغْضْ ذَبَحْتُ نبوءةَ الطُغيانِ كَيْ ينمُو الحنانُ الغَض أقمتُ جدارَ أهلِ الحبِّ حينَ أرادَ أن يَنْقَض. وبلال: «بلالُ» العاشِقْينَ أنا وسيِّدُ أهلِ طائفَتي هَزارُ السِّدْرةِ العصماءِ فَوْقَ الفَوْقِ قافيتي هديلُ الوجْدِ في قلبي وصدْقُ الوحْيِ في شَفَتِي

ثم يتلاعب بالقوافي كعادة عتاة الشعراء الشعبيين، ولكنه وسط ما قد يظن البعض أنه قنابل دخان لغوية يخبرنا بسر «القُرْب»:

فإِن نُوديتُ: كيفَ بدأتَ؟ قُلْتُ: خَلَعْتُ أوحالي
وكيف عرفتَ سرَّ القُرْبِ؟ قلتُ: الحبُّ أوحَى لي فَلَمْ يَبْلُغْ بَنو الدنيا مَقامِي فِيكِ أو حالي.

لم ينسَ الطفولة

لا أظن أن هناك شاعرا «حقيقيا»لم يكتب ولو قصيدة واحدة على الأقل للأطفال، حسنا لا أعرف ما هو «الشاعر الحقيقي» فعلا، وفي رأيي أن كل الناس شعراء بشكل ما، وبخاصة من لا يكتبون الشعر. لكني أحمل حبا خاصا للشعراء الذين كتبوا للأطفال.

حتى شعراء مثل سليمان عيسى / ومحمد الهراوي الذي أدى تحويل قصائدهم لمنهج مدرسي عقيم هو في جوهره ضد الطفولة بكل معانيها في سوريا ومصر، لأن يتحفظ البعض عليهم، لم يجعلني هذا أكف عن محبتهم، أحببت أيضا قصائد عبد الوهاب المسيري «العادية» لابنته في أغنيات للأشياء الجميلة.

أحمد بخيت أضاف بصمته أيضا لهذا المجال الرحب للغاية، أضاف نفسا فلسفيا بسيطا رغم عمقه، وعلى شكل تساؤلات وردود حميمية بين «الكبير» و «الصغير» يتم إجابة العديد من الأسئلة التي تراودنا (صغارا و كبارا) عن الله، واختلاف ألواننا وصورنا، وأثر الزمن على البشر.

قصائده في كثير منها محاولة في الحفاظ على فطرة الطفل قبل أن يلوثها المجتمع بعنصريته أو انحيازاته غير العادلة، محاولا بكل جهده أن يعمق البنية التحتية لبراءة الطفولة كي يستمر بريقها حتى في عتمة المراهقة والشباب والكهولة.

يتساءل الصغير لماذا الناسُ مختلفونَ في الأشكالِ والألوانْ؟ ومن منهُمْ هوَ الأقوى ليحكُمَ عالَمَ الإنسانْ؟ فيجيبه الكبير تخيَّلْ أن كلَّ الناسِ يا ولدي بكل مكانْ تخيَّلْ أنهم مثلُ الأصابعِ إخوةٌ… جيرانْ إذا اجتمعوا على حُبٍّ معاً كانوا يدَ الإنسانْ ألم تذهبْ لمزرعةٍ؟ ألم تذهبْ إلى البستانْ؟ هناكَ الوردُ والنَّعْناعُ والزَّيتُونُ والرُّمَّانْ على رَغْمِ اختلافِ الكُلِّ يَنْمُو الكُلُّ في اطْمِئْنانْ فهل شاهدتَ معركةً لبامِيَةٍ وبَاذَنْجَانْ؟ وهل ألقَتْ جُيُوشُ الوَرْدِ قُنْبُلَةً على الرَّيْحَانْ؟ جميعُ الناس يا ولدي الحبيبَ جميعُهُمْ إخوانْ وعالَمُنَا هُوَ البيتُ الكبيرُ وكُلُّنا سكَّانْ! لنا حقُّ الحياةِ مَعَاً وَلاَ تفضيلَ بالألوان
فيتشجع الصغير ويتساءل عن أشياء أخرى.

لماذا وُلِدتُ صغيراً وَلاَ رِيشَ لِي كَيْ أطيرْ؟ وأمشي، ويحتاجُ جَدِّي لعُكّازِهِ؛ كَيْ يَسِيرْ؟ لماذا الظلامُ ظلامٌ وضحْكَةُ أُمِّي تُنيرْ؟ لماذا أُحبُّ الأغاني وأكرَهُ صوتَ النَّفِيرْ وأغضبُ إنْ قالَ عَنِّي صَدِيقِيَ إنِّي قصير؟ لماذا المريضُ مَرِيضٌ لماذا الفَقيرُ فَقيرْ؟ لماذا أنا لستُ أدري وتعرف أنت الكثير؟

فيجيب الكبير على ما يستطيع، ولكنه لا يغلق المدى أمام الطفل، بل يترك الأفق مفتوحا، وجميلا، وقابلا للاستكشاف:

وتسألُنِي يا صغيري سؤالَ الحياةِ الكبيرْ وعندي جوابٌ جميلٌ وليسَ الجوابَ الأخيرْ ففي كلِّ يومٍ جديدٍ ستعرِفُ أنتَ الكثيرْ.

ختام

يكتب بخيت بسلاسة لا مثيل لها قصائد رغم غزارتها وطولها النسبي أحيانا كثيرة لا تبدو أنها كتبت على عجل، لا أثر فيها للهرجلة أو الحشو، كل لفظة تبدو كأنها خلقت لكي توضع في مكانها الذي وضعها فيه، ورغم «الصخب» الموسيقي فإن المعاني «هادئة» دوما. يعيد بخيت «الشعر» لشكل ظن الكثيرون ألا «شعر» فيه. لكن كما النساء الجميلات، يأتي الشعر بكل «الأشكال» و «الأحجام».

هذا العام قد تجاوز شاعرنا الخمسين عاما بعام، وهو الآن في أوج موهبته وفي قمة نضوجه الفني، ونتمنى له مزيدا من الإبداع وألا يجف نبعه الشعري أبدا.

وكما بدأت بكلمة له مع معلمته أختم بكلمة له مع صديقه الراحل الشاعر والمهندس «وائل عزيز»، وأعتبرها من أفضل ما قرأت عن فكرة «الكتابة»:

ثمة إساءة واضحة في استمرار النظر إلى الكتابة كزينة مضافة وليس كضرورة إنسانية، كهواية مترفة وليس كتطبيب روحي، كنزهة مرحة وليس كعمل بطولي لا يقل أهمية عن مكافحة الإيدز والسرطان.
صدقت يا أحمد.. صدقت والله.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.