تحكي الأساطير الإغريقية القديمة عن ربة الفجر «أورورا»، التي هامت بشاب من البشر يدعى «تيتون»، وبعد أن عاقبها كبير الآلهة «زيوس» بسرقة حبيبها الآخر «جانميدس»، طلبت «أورورا» تعويضا من «زيوس»، بأن يمنح «تيتون» الخلود الأبدي، فوافق «زيوس» على طلبها، لكن «أورورا» سرعان ما ندمت على ما تمنته، بعد أن شهدت حبيبها الخالد يضعف ويأكله الوهن والألم مع مرور السنوات، فقد تمنت له الخلود، لكنها نسيت أن تتمنى له استمرار الشباب والصحة طوال العمر.


سؤال الموت القديم، بلا إجابة!

لماذا يجب أن نموت؟ ما السبب المنطقي للشيخوخة وما يصاحبها من معاناة في أواخر العمر؟ في وقت ما من حياتنا نفكر في تلك الأسئلة، نتخيل ما قد يحل فينا بعد أن تعصف بنا السنوات التي تمر سريعا.. حيرت الأسئلة ذاتها عقول الفلاسفة منذ القدم، وكذلك الفنانون والحكائون، حيث خلدوها في رسومات وأشعار وأساطير قديمة في مختلف الحضارات.

لكن التفكر في الشيخوخة ودراستها والأمل في الوصول إلى سبيل لعمر مديد بصحة الشباب لم يعد حكرا على الخيال والأساطير، فقد انكب العلماء منذ ما يزيد على قرن من الزمان على دراسة تفاصيل الفصل الأخير من حياتنا، واضعين الأمراض التي تصاحبه والآليات التي تؤدي إليها من البداية تحت مجهر البحث الدقيق، صانعين المعجزات المعملية بإطالة أعمار بعض الديدان إلى الضعف، وزيادة أعمار فئران المعامل نسبيا.

وعن قريب، انضمت عملاقة التكنولوجيا شركة جوجل بمجال أبحاث الشيخوخة، فقبل 3 سنوات أعلن «لاري بيج» –أحد مؤسسي جوجل- أن شركته ستنشئ شركة «كاليكو» Calico لأبحاث الشيخوخة، مع دعم مالي هائل، يتوقع أنه يصل إلى 1.5 مليار دولار أمريكي، والهدف هو مشروع طويل الأمد لدراسة أسباب الشيخوخة، وكيفية التغلب عليها، ضامة تحت عباءتها فريقا من رواد العلوم في مختلف الأفرع البيولوجية.

الشركة الوليدة، التابعة لألفابيت Alphabet Inc. حاليا، الشركة الأم لجوجل بعد إعادة الهيكلة، تبدأ الآن عامها الرابع دون إنجازات تذكر، وقد استقبلت وابلا من الانتقادات وسط موجة الإحباط من مترقبيها، لتبرر لهم أنها ليست بصدد البحث عن إكسير الحياة المديدة، بل الوصول لفهم أفضل لظاهرة الشيخوخة بشكل أساسي، وهي مهمة تحتاج عمرا طويلا بحد ذاتها.

وقبل الحديث عن التوقعات المستقبلية والآمال المعلقة على الشركة الغامضة سنبحث سويا في تاريخ «علم الشيخوخة»، وأهم النظريات والإنجازات التي حققها العلماء لتفسير ظاهرة يمر بها كل البشر، لكن لا أحد يفهمها بوضوح حتى الآن.


تطور «الموت»

http://gty.im/3144143

بدأت الحياة على الأرض قبل نحو 3.7 مليار سنة متمثلة في خلايا بدائية دقيقة، ولفترة طويلة تقارب مليار عام لم يكن السؤال الأهم هو «لماذا نموت سريعا؟»، فقد كانت حياة تلك الكائنات قصيرة مع قدرة هائلة على التكاثر، وهي آلية يحفزها الانتخاب الطبيعي الذي لا يهتم إلا بالتكاثر.

ومع نشأة عديدات الخلايا كانت فرصة إطالة عمر الكائنات متاحة لأسباب وجيهة، تستطيع عديدات الخلايا تعويض الخلايا الميتة واستبدال التالف منها، كما أن خلاياها المتخصصة في مختلف المهام أكثر قدرة على مواجهة الأمراض، ويمنحها حجمها الأكبر بشكل طبيعي آلية دفاعية ضد الافتراس، لكن لتلك المزايا ضريبة ثقيلة، وهي احتمالية الانقسام المفرط غير المنظم لإحدى الخلايا، خارقة بذلك النظام العام لتؤدي إلى الموت المحتم، فيما يعرف بمرض السرطان.

من منظور تطوري تبدو ظاهرة «الشيخوخة» – أي تدهور الجسم وحالته الصحية العامة وضعف الخصوبة الذي يصيب الكائنات مع تقدم العمر – حالة غير مبررة، فكيف للانتخاب الطبيعي الذي يحفز كل ما يدعم القدرة الدائمة على التكاثر ألا يضع حدا لتلك الأزمة، ليمنح الكائنات حياة طويلة صحية مفعمة بالخصوبة؟! لماذا لا يجرؤ الانتخاب الطبيعي على تحدي الموت؟

ظهرت أولى النظريات التطورية التي تحاول حل المعضلة في القرن التاسع عشر على يد البيولوجي الألماني «أوجست فايزمان»، الذي رأى في الشيخوخة أداة في يد الانتقاء الطبيعي يتخلص بها من الأفراد الأضعف ليضمن بقاء النوع، لكن تلك النظرية الجذابة لم تصمد كثيرا أمام بعض المنطق، وهو ما اعترف به فايزمان نفسه، فالانتقاء الطبيعي يعمل على الأفراد مفضلا الأكثر قدرة على زيادة نسله، كما أن النظرية لا تفسر لماذا نشأت الشيخوخة من البداية، بل تفترض أنها موجودة، بدون أي سبب واضح مع التقدم في العمر.

تقدم بعد ذلك عالم البيولوجيا الحائز على جائزة نوبل «بيتر مدوار» بنظرية أكثر متانة، مفادها أن الجينات التي يظهر أثرها الضار في وقت مبكر من العمر – الطفولة أو الشباب – ستقلل من خصوبة حاملها، وبالتالي لن تنتقل إلى الأجيال الأخرى، بينما الجينات التي تظهر أضرارها في وقت متأخر من عمر الكائن ستتمكن من الانتشار من جيل إلى آخر، لأنها تمرر قبل أن تهلك حاملها، وأحد أمثلة تلك الجينات هو جين مرض هنتجتون المستعصي، الذي يقضي على ضحاياه قرب عامهم الخمسين.

بناء على أفكار «مدوار» دعم عالم البيولوجيا الأمريكي «جورج ويليامز» فكرة وجود جينات التي تستطيع خداع الانتقاء الطبيعي، فعلى الرغم من آثارها المدمرة في نهاية العمر، إذا منحت تلك الجينات حاملها آثارا طيبة في وقت مبكر من العمر، يمكنها أن تحظى بدعم الانتقاء الطبيعي لتستمر في الانتشار.


البحث عن إكسير الخلود

يوجد حتى الآن ما يزيد على 30 نظرية لتفسير الشيخوخة، وهو ما يعني أننا لا نعرف ما الذي نتحدث عنه.
عالم المناعة يانكو نيكولتج

يروى أن الفيلسوف الفرنسي «رينيه ديكارت» كان شديد الانشغال بإطالة الحياة في أربعينياته، بعد أن نظر إلى نفسه في المرآة ليلحظ خصلات شعره التي صبغها الزمن باللون الأبيض، وعلى الرغم من أنه كان مؤمنا بقدرته على الوصول إلى حل يطيل عمره، فقد مات في الثالثة والخمسين بالالتهاب الرئوي، لتكتب عنه صحيفة غير متعاطفة «مات أحمق كان يزعم أنه يستطيع أن يعيش بقدر ما يشاء».

بهذا الدافع القوي دءوب الكثير من العلماء للوصول إلى حل شافٍ للشيخوخة، أسلوب حياة أو نمط تغذية أو تلاعب جيني صغير أو مركب كيميائي ساحر يطيل فترة الشباب ويقلل وهن الشيخوخة.

وحتى الآن توجد عشرات النظريات التي تفسر آلية حدوث الشيخوخة، لكن أيا منها لم يستطع الوصول إلى ذلك الحل الساحر – على الأقل بالنسبة إلى البشر – ففي إحدى محاضراته عن الشيخوخة قال «يانكو نيكولتج» عالم المناعة ومدير مركز أريزونا للشيخوخة: «يوجد حتى الآن ما يزيد على 30 نظرية لتفسير الشيخوخة، وهو ما يعني أننا لا نعرف ما الذي نتحدث عنه».

وتقسم نظريات الشيخوخة الحديثة إلى قسمين رئيسيين: الشيخوخة المبرمجة، ونظريات العطب الخلوي، وتفيد النظريات التابعة للقسم الأول بأن للجسد ساعة رملية محددة لوقت حلول الشيخوخة توجد عميقا في جينومنا وأجهزة الجسم، بينما تلقي نظريات العطب الخلوي على تراكم الأعطاب داخل الخلية نتيجة سموم البيئة، والنتائج الثانوية للعمليات البيوكيميائية في الجسد.

عام 1961 اكتشف البيولوجي الأمريكي «ليونارد هايفليك» أن الخلايا التي ينميها في المعمل تستطيع الانقسام إلى حد معين، تفقد بعده القدرة على الانقسام لتصل لمرحلة الشيخوخة الخلوية، ليطرح هايفليك نظريته عن الشيخوخة، التي تفيد بأن الشيخوخة ما هي إلا تراكم تلك الخلايا المسنة، رغم أن سبب توقف الخلايا عن الانقسام كان ولايزال لغزا، ولاقت النظرية قبولا واسعا.

تم الكشف بعد ذلك عن تلك الساعة الداخلية للخلايا، وهي لم تكن إلا شرائط قصيرة من الدنا DNA في نهاية الكروموسومات تعرف بالتيلومير Telomere، لا تحمل شفيرة أي جينات، ولكنها توجد لحماية محتوى مادتنا الوراثية من الجينات المهمة، فحين يقصر طول المادة الوراثية مع كل عملية انقسام بشكل طبيعي يقصر التيلومير مع كل انقسام بدلا من الجينات المهمة، حتى يصل إلى مرحلة حرجة تتوقف حينها الخلية عن الانقسام وتشيخ.

وعلى الرغم من شهرة تلك النظرية كآلية واضحة للشيخوخة المبرمجة، فإنها تعاني عدة تناقضات، إذا كان السبب في الشيخوخة هو قصر التيلوميرات، فمن المفترض أن الكائنات التي تعيش طويلا لها تيلوميرات طويلة، لكن الفئران التي تعيش سنوات معدودة تتمتع بتليوميرات أطول منا بثلاثة أضعاف، كما أن الخلايا التي لا تنقسم مطلقا كالخلايا العصبية تظهر عليها مظاهر الشيخوخة كغيرها من الخلايا، يضاف إلى ذلك أننا لم نتمكن حتى الآن من ضبط تراكم الخلايا المسنة الذي تفترضه النظرية.

بالنظر إلى القسم الثاني؛ أي نظريات العطب الخلوي، كانت البداية على يد البيولوجي الألماني «أوجست وايزمان» الذي نظر للجسم البشري كآلة تتعطل مع مرور الزمن، متناسيا قدرة الجسد الفائقة على التعافي، ودون الاطلاع على الفروقات بين الأنواع الحية، التي يعيش بعضها، كالحوت مقوس الرأس، ما يفوق القرنين من الزمن.

استقبلت نظريات العطب دفعة قوية بنهاية خمسينيات القرن الماضي على يد طبيب ذي خبرة في علوم الكيمياء، وهو «دنهام هارمان»، وأرجع هارمان الأعطاب الخلوية التي تؤدي للشيخوخة إلى مجموعة مركبات تعرف بالجذور الحرة Free radicals، وهي جزيئات ذات إلكترون غير مزدوج، تتكون كناتج ثانوي للعمليات الحيوية في الخلية أو تمر للخلايا من البيئة الخارجية، وبنشاطها المرتفع تتفاعل مع الجزيئات الحيوية للخلايا مؤدية إلى إحداث خلل عام مع تراكمها.

لكن دراسات لاحقة كشفت أن الجذور الحرة ليست بتلك الجزيئات الشريرة المدمرة دائما، حيث إن لها أدوارا مهمة في الجسم كذلك، من المناعة إلى التواصل بين الخلايا، كما اتضح أن معدلات الأيض أو العمليات الحيوية بدراسة الأنواع دراسة مقارنة لا تتناسب دائما مع طول العمر، فالخفاش له معدل أيض مشابه للثدييات الأرضية من نفس الحجم ويعيش عمرا أطول منها، ويبدو أن التناقضات وعدم قدرة نظرية واحدة على تفسير كل الجوانب بذاتها هو السائد.

وتاريخ علم الشيخوخة والبحث عن إكسير الحياة رغم اضطراب نتائجه وغموضه لم يخل من الإنجازات المبهرة، فقد استطاعت عالمة البيولوجي «سينيثيا كينيون» – تقود الآن فريق البحث في شركة كاليكو التابعة لجوجل – في تسعينيات القرن الماضي من العثور على طفرة في جين يعرف بداف-2 يزيد عمر ديدان الربيداء الرشيقة C.elegans التي تحمله إلى الضعف. وفي عام 2009 كان العالم ليشهد تأثير مركب سحري استخلص من رمال جزيرة «إيستر أيلاند»، تفرزه البكتيريا للدفاع عن نفسها، أثبت 3 دراسات متوالية قدرته على زيادة عمر فئران المعمل بنسبة 14%.

ومن المثير للاهتمام أن الراباميسين يتلاعب في آلية قديمة في الخلايا تتعلق بالتوازن بين النمو والانقسام من ناحية وإصلاح الأعطاب من ناحية، ومن الجهة الأخرى تقود أطراف الخيوط للمسارات البيوكيميائية لجينات طول العمر مثل داف-2 وأمثاله في الكائنات الأخرى إلى نفس الطريق، مما يقود إلى بناء نظرية متكاملة تحت اسم نظرية «الأيض الخلوي والإجهاد».


كاليكو وإعادة كتابة النظريات

تخيل أن طبيبا يريد أن يعالج مرضا معديا دون التعرف على الفيروس الذي يتسبب به، أو فكر مثلا في أبحاث السرطان قبل السيتينيات، عندما تواجدت نظريات كثيرة لتفسيره، لكن بعد اكتشاف الجينيات الورمية «Oncogenes» كان للأطباء أن يفهموا سببا حقيقيا ملموسا للمرض، ما نسعى له قبل أي شيء هو تحول مشابه في علوم الشيخوخة.
ديفيد بوستاين، رئيس فريق علماء كاليكو

تتلخص سياسة كاليكو في تصريحات عالم الوراثة «ديفيد بوستاين» الذي يترأس أعلى منصب علمي في الشركة، عندما أشار إلى أن هدف شركته هو الوصول لصورة عامة عن الشيخوخة.

وتضخ جوجل كميات ضخمة من الأموال لتوفر للشركة الوليدة أحدث تكنولوجيا؛ لتختبر بها دقة نظريات الشيخوخة السابقة، أو على حد قول «بوستاين»: «يتركز جزء كبير من مجهودنا في محاولة إثبات صحة أو خطأ نظريات الشيخوخة الشائعة»، موضحا أن بعض المركبات التي تحظى بسمعة إكسير الحياة المديدة مثل الريسفيراترول الموجودة في النبيذ الأحمر، يبالغ بشدة في تأثيرها.

من جهة أخرى، يلاقي توجه الشركة العديد من الانتقادات من الأوساط العلمية.. يقول «أوبري دي جراي» من مؤسسة سينس البحثية إن الشركة هي أكبر خيبات أمله الآن، وتوجهها للعلوم الأساسية مدفوع بافتراض خاطئ، أننا لا نملك العلم الكافي لحل أزمة الشيخوخة بعد.

أما عن مشاريع الشركة التي تم الكشف عنها حتى الآن، فقد تناولت عدة تقارير أن كاليكو ترعى 1000 فأر في معاملها تحت ظروف مضبوطة ومراقبة بدقة، بهدف البحث عن دلالة حيوية في دمها ترتبط بالشيخوخة، وبالوصول لتلك الساعة البيولوجية ستفتح كاليكو الباب لأبحاث طويلة تعتمد على ذلك المركب كنقطة ارتكاز، نبدأ به الطريق الطويل لحل لغز الشيخوخة.

هل ستستطيع جوجل أن تحل معضلة الشيخوخة؟ هل سنصل يوما ما لعمر الثمانين دون أن تظهر علينا أعراض تقدم العمر؟ لا نمتلك حتى الآن سوى الكثير والكثير من التساؤلات، والقليل القليل من الحقائق.

المراجع
  1. حياتنا..وإن طالت! علم دراسة طول العمر والشيخوخة-جوناثان سيلفرتاون