في هذه الأيام الصعبة التي تمر بها منطقتنا التي يطحن بعضها بعضاً، وتتهاوى مكوناتها، ويعاد ترسيم خرائطها على مدار الساعة، تكتسب الأحداث التي تبدو صغيرة، قيمة أكبر، وتتراصّ في الفسيفساء الدموية التي تحيط بنا، فتبني أبعاداً جديدة لمشهد بارز.

ولفهم أبعاد ما سنناقشه هنا حول هذا الحكم، لابد أن يكون واضحاً في خلفية الصورة أننا في عصر ذهبيٍّ للكيان الصهيوني، يتقاتل فيه أعداؤه الحاليون والمحتملون، ويفني بعضهم بعضاً، دون أن ينفق الكيان نقطة من دم. بينما تتسابق الكثير من القوى المحلية في المنطقة من أجل مزيد من تطبيع العلاقات معه، ونيل رضاه، والدوران في فلك سياساته واستراتيجياته.

وفي صدارة هؤلاء تأتي الدول التي لها بالفعل اتفاقيات سلام كمصر والأردن، مروراً بتركيا التي خطت خطواتٍ واسعة في إعادة علاقاتها الطبيعية مع إسرائيل، بعد أن كادت تنقلب إلى العداء بعد أزمة سفينة ما في مرمرة. وما دول الخليج عن هذا السباق التطبيعي المحموم ببعيد.

والآن نعود من المشهد العام إلى الخاص.


حكم الدستورية العليا: ظاهِرُهُ الرحمة، وباطنُهُ العذاب

أصدرت المحكمة الدستورية العليا – أعلى محكمة مصرية – يوم السبت الماضي 4 فبراير 2017، حكماًوصفته الكثير من المصادر القبطية، وغيرها، بالحكم التاريخي، ينطلق من باب مبدأ المساواة العامة بين جميع المواطنين في الدستور، وعدم التمييز بينهم على أساس ديني، ويقضي الحكم بأحقية الموظفين العموميين المسيحيين بالحصول على إجازة لمدة شهر كامل مدفوعة الأجر، مرة واحدة في العمر، وذلك من أجل الحج إلى بيت المقدس (رغم أنه ليس فريضة أساسية في الديانة المسيحية)، أسوة بأقرانهم المسلمين الذين يُسمَح لهم بالحصول على إجازة موازية لأداء فريضة الحج في مكة المكرمة.

ونصَّ الحكم على عدم دستورية الفقرة الأولى من قانون العاملين المدنيين في الدولة، والذي أتاح تطبيقه منح هذه الإجازة الخاصة من أجل أداء فريضه الحج للمسلمين فقط، دون أن يكون للمسيحيين حقٌّ موازٍ في إجازة مماثلة للحج إلى المزارات المسيحية المقدسة في القدس الشريف.

وقد عبّر ممثلون عن الكنائس المصرية الثلاث الرئيسية عن تأييدهم لهذا القرار، وأنه تفعيل لدولة المواطنة.

و ركَّزت أغلب التعليقات المرحِّبة بهذا الحكم على أنه إقرار لمبدأ عدم التمييز، لكن بعض هؤلاء المؤيدين أظهروا تأييداً مشروطاً يسير في نفس إطار ما نرمي إليه في هذا المقال، مثل النائبة سوزي ناشد عضو لجنة الشئون الدستورية بمجلس الشعب والتي ذكرت لمصر العربية أن الحكم خطوة جيدة، لكن لن يكون له معنىً بالشكل الكامل، إلا إذا تغيَّرتِ الأوضاع بفلسطين المحتلة وتحررت القدس، لأن الكثير من المسيحيين يتحفظون على زيارة القدس تحت الاحتلال.

كما صرح محامي الكنيسة القبطية المستشار منصف سليمان، عضو المجلس الملي العام للأقباط الأرثوذوكس بأن الكنيسة لا تزال متمسكة بموقفها الوطني السابق بعدم زيارة القدس تحت الاحتلال بالرغم من هذا الحكم، وذكر نصاً أنه:

لكن في الجهة الأخرى، يرى الكثيرون أن التطمينات الكلامية لا معنى لها، فالحكم يشرع مزيداً من الأبواب أمام التطبيع مع إسرائيل، وأنه يأتي في إطار توجه عام للدولة المصرية بعد الثلاثين من يونيو للتقارب مع إسرائيل، خاصة وقد قدمت إسرائيل ولا تزال دعماً سياسياً مفتوحاً للنظام المصري، خاصة في الترويج لشرعيته في المحافل الدولية، و استغلال نفوذ اللوبي الصهيوني لمنع أية عقوبات عليه بعد عزل الرئيس المنتخب مرسي في يوليو 2013، واكتساب المزيد من التأييد لنظام السيسي في أوساط النخب السياسية والإعلامية الأمريكية.


ما العلاقة بين الحج للمزارات الدينية بالقدس والتطبيع؟!

لا جدال قطعاً في القيمة الدينية والروحية للتراث المسيحي والإسلامي المنثور في القدس الشريف، ولا في مبدأ زيارتها. لكن الواقع يؤكد أن فتح المجال للحج الموسَّع للأقباط المصريين إلى هذه مزارات القدس سيكون مكسباً مُركَّباً لإسرائيل.

فالدخول إلى الأراضي المحتلة سيكون بتأشيراتٍ إسرائيلية، وسيكون الإنفاق هناك بالشيكل الإسرائيلي، ليبدو الأمر وكأنه ترويج للنشاط السياحي والاقتصادي في إسرائيل. ولن يغير كثرة الزوار العرب من واقع المدينة الرازحة تحت الاحتلال والتضييق اليومي شيئاً، بل سيكون إقراراً مفتوحاً بهذه الحقائق على الأرض.

ولعل هذا كان منبع الموقف السياسي الذي اتخذه البابا الراحل شنودة الثالث بمنع زيارة المسيحيين للقدس تحت الاحتلال. لكن فاجأ البابا الجديد تواضروس الجميع عندما زار القدس في نوفمبر 2015 للمشاركة في تشييع الأنبا الراحل إبراهام بطريرك القدس والكرسي الأورشليمي.

وقد حظيت هذا الزيارة باهتمام كبير من الصحف الإسرائيلية والتي اعتبرتها نقلة في مسار التطبيع. وفي نفس ذلك العام، قُدِّرَ عدد الحجاج المسيحيين إلى الأراضي المحتلة في عيد الفصح بحوالي ستة آلاف.


مصر والتطبيع: أربعون عاماً من المد والجزر

مثَّلت زيارة الرئيس المصري الراحل السادات إلى القدس المحتلة في 1977، وإلقاؤه كلمة تدعو إلى السلام في الكنيست الإسرائيلي، منعطفاً خطيراً في مسار الصراع العربي الإسرائيلي الذي كان حينها في عامه الثلاثين بعد نكبة فلسطين وقيام دولة الكيان الصهيوني على أرضها في 1948. وبعد أقل من عامين من هذه الزيارة، كانت اتفاقية سلام بين مصر وإسرائيل قد دخلت حيز التنفيذ، وخرجت مصر سياسياً وعسكرياً من الصراع العربي الإسرائيلي وهي التي كانت في طليعته. وفي العام التالي كان العلم الإسرائيلي على السفارة يرفرف في هواء القاهرة.

لكن رغم هذا التطبيع السياسي، ظل التطبيع على المستويات الشعبية مأزوماً، واقتصر على دوائر ضيقة ومنبوذة من النخب المصرية. وقد بلغت الحملات ضد التطبيع أوجها إبان الانتفاضة الفلسطينية الثانية التي بدأت عام 2000. وبعد الربيع العربي، خاصة في عام 2011، بدا كأننا في العصر الذهبي لمناهضة التطبيع مع إسرائيل. ووصل الأمر إلى ذروته في واقعة اقتحام المتظاهرين للسفارة الإسرائيلية بالقاهرة في ذلك العام تعبيراً عن الغضب لمقتل جنود مصريين في سيناء برصاص الجيش الإسرائيلي خطأً على الحدود.

وفي عام 2012 في أعقاب فوز مرسي بانتخابات الرئاسة، كان الموقف السياسي المصري أثناء العدوان الإسرائيلي على غزة في 2012 مختلفاً، فقد زار رئيس الوزراء المصري حينها هشام قنديل قطاع غزة تحت القصف لإبراز التضامن. كما تم السماح بوصول المساعدات، والناشطين الداعمين إلى القطاع طوال أيام العدوان السبعة، وتم سحب السفير المصري من إسرائيل . وكان هذا تغيراً جذرياً عن موقف نظام مبارك في العدوان السابق على غزة في 2008.

لكن في أعقاب الثلاثين من يونيو 2013، تغيَّر المشهد كثيراً. ففي إطار الحملة الشرسة ضد كل ما يمت للإخوان بصلة، نال المقاومة الفلسطينية خاصة حركة حماس المحسوبة على الإخوان، الكثير من حملات التجريح والتشويه من النظام وأذرعه الإعلامية، والاتهام بالتآمر على مصر، وفتح السجون أيام الثورة الأولي … الخ، حتى حدث تغير ملحوظ في الذهنية الشعبية في مصر، فأصبحت حماس في صدارة قائمة الأعداء، في مقابل تراجع إسرائيل من اللائحة.

وتوَّج النظام المصري هذه الحملة بالإمعان في إحكام الحصار على قطاع غزة، والتضييق الشديد على شرايين الحياة التي تمثلها الأنفاق بين سيناء وغزة. حتى راهن البعض على أن الجيش المصري سيوجه ضربة عسكرية لقطاع غزة بسبب زيادة الهجمات عليه في سيناء، وتكرار اتهام حماس بدعم الإرهابيين في سيناء.


بعد 30 يونيو: التطبيع على قدم وساق

كما ذكرنا سابقاً، كانت أزمة الشرعية هي البوابة التي انطلقت منها العلاقات المصرية الإسرائيلية. فاللوبيات الإسرائيلية قدمت دعماً سياسياً غير مفتوح للنظام المصري، ويبدو أن جزءاً أساسياً من ثمن هذا الدعم هو مزيد من التطبيع في العلاقات، واستثمار ذلك في التطبيع مع المزيد من الدول العربية. ولعل قضية تيران وصنافير هي بوابة خلفية لتشكيل علاقات مباشرة لأول مرة بين السعودية وإسرائيل بوساطة مصرية غير مباشرة.

كما كان هناك منعطفات أخرى في مشهد التطبيع، كإعادة فتح السفارة الإسرائيلية في القاهرة في 2016، وإرسال سفير مصري إلى تل أبيب بعد 4 أعوام من سحب السفير أثناء عدوان 2012 على غزة. وزيارة وزير الخارجية المصري سامح شكري إلى إسرائيل وما صاحبها من تصريحات ودية، و حديث الرئيس السيسي عن سلامٍ دافئ ٍ مع إسرائيل أثناء افتتاحه لأحد المشروعات في أسيوط 2016.

وكذلك الجهود المستمرة للمزيد من تفعيل اتفاقية الكويز التجارية والتي أبرمت أيام مبارك بين مصر وإسرائيل وأمريكا لتعزيز التجارة البينية، وترويج المنتجات المصرية الإسرائيلية المشتركة في السوق الأمريكية، مثل هذه الدبلوماسية الاقتصادية تمثل عموداً أساسياً للتطبيع.

كذلك قدمت مصر دعماً دبلوماسياً بارزاً لإسرائيل في أروقة الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، وكان قمة هذا ما حدث في أواخر ديسمبر 2016 عندما كادت مصر تعطل مشروعاً في مجلس الأمن لإدانة الاستيطان الإسرائيلي. وأثار هذا جدلاً كبيراً حينها. خاصة وأنا الإدارة الأمريكية في بادرة استثنائية، امتنعت عن التصويت، مما سمح بإمرار القرار.


ترامب ومرحلة جديدة من التطبيع

لا تطبيع إلا مع الجميع.. شيخ الأزهر وبابا الكنيسة

لم يمر شهر على وصول ترامب إلى سدة الرئاسة الأمريكية، لكن أصبح واضحاً أننا على أعتاب مرحلة مختلفة.

فتصعيد ترامب الحاد ضد إيران، عزّز من مصداقية التسريبات التي تتحدث عن محاولة تشكيل تحالف واسع في المنطقة بين إسرائيل والدول «المعتدلة» في المنطقة، بما فيها دول الخليج لدعم أية تحركات أمريكية ضد إيران. واستغلال البعبع الإيراني، لمنح العلاقات الإسرائيلية العربية نقلة نوعية غير مسبوقة.

وهكذا يواصل قطار التطبيع السريع انطلاقته ماراً بمحطات سياسية ودينية واجتماعية واقتصادية وعسكرية. ويبدو أن الأيام القادمة ستحمل لنا المزيد من مفاجآت التطبيع الصادمة.