في إحدى ليالي الشتاء، طرق الباب صديقي، ووجدته قد اختفى خلف الكثير من الألبسة، التي تعلو جسده النحيف، وقبل أن أسأله، أجابني إجابة مختصرة: «إنه البرد القارس يا صديقي»، فاستضفته في غرفتي، وقبل أن يحتسي كوباً من الشاي الساخن؛ إذ تطل علينا إحدى المذيعات؛ لتبث لنا خبر بطلان اتفاقية ترسيم الحدود بين مصر والسعودية، بصدور حكم نهائي وباتّ من المحكمة الإدارية العليا، وما تمخض عن هذا الحكم من تأكيد مصرية جزيرتَي تيران وصنافير.

رأيت ابتسامة بلون السخرية في وجه صديقي، وأحسسته غير منتشٍ بهذا الخبر، ويبدو أن صديقي قد شعر بأنني متعجب من ابتسامته تلك، فقال في نفسه: لماذا لا أسأله أولاً قبل أن يباغتني بالسؤال؟ وقال لي: انت رأيك إيه في موضوع تيران وصنافير؟

قلت له: انت عارف إن رجال القانون إجاباتهم غالباً هتكون إنها مصرية بحكم القضاء؛ لأن الحكم هو عنوان الحقيقة؛ بل هو الحقيقة ذاتها.. لكن صديقي لم يعبأ بإجابتي، ولم يلقِ لها بالاً، وقال في ثبات وثقة: بس أنا شايف إنهم سعوديتان.

فقلت لا مشكلة أنت ترى أنهما سعوديتان، والقضاء قال كلمته بأنهما مصريتان، وفي النهاية ليس كل ما تراه هو الصدق أو الحق أو الصواب، وكذلك أنا، وكذلك كل الناس.

فرأيت صديقي وقد احمرت وجنتاه، وارتسمت علامات الضيق على وجهه، وقال لي: هو انت يعني كنت سمعت عن تيران وصنافير قبل كده؟ ولا كنت تعرف هما فين أصلاً؟

فقلت له: ماذا بك يا صديقي؟ لماذا علا صوتك وازدادت حدتك، كن هادئاً، واحتسِ رشفة من كوب الشاي، ولكي لا أكذبك الحديث أنا فعلاً لم أسمع عن تيران وصنافير قبل هذا، ولم أكن أعرف أين هما.

فرد عليَّ قبل أن أكمل كلماتي: خلاص هما طلعوا سعوديتين.

فقلت له: يا صديقي، أولاً أنا لست مطالباً بأن أعرف حدود بلدي من أقصاها إلى أقصاها، ولست مطالباً بأن أحصر حبات الرمال، أو قطرات المياه، التي تقع في حيز بلدي، أو تحيط به؛ كي أكون وطنياً، كما أنني لست مطالباً بأن أسافر كل النجوع والقرى والمدن؛ لكي أدفع عن مصريتها إذا ما ادعى الغير ذلك.

ولو كان الأمر خلاف ذلك لعرفت أنت كل عضو من جسدك ما اسمه؟ وممّ يتكون؟ وما هي وظائفه؟ وكيف؟ ولماذا يصاب بالأمراض؟ وكيف تعالجه؟ ولكنك لا تعرف من جسدك إلا القليل، فكيف بك وأنت السيد على جسدك ويقيناً لا تعرف بعض أو جل ما سبق، أيقال حينها طالما إنك لا تعرف مما تتكون عينك أو أين تقع القرنية من العين فأنت غير مسؤول عنها ومن ثم لا تخضع تحت سلطانك وسيادتك؟! هذا بالطبع استنتاج غير منطقي وغير صحيح.

رأيت صديقي قد انتابته الحيرة وهرول سريعاً؛ ليسألني مرة ثانية: يعني همّا مصريتان ولا سعوديتان؟

حينئذ تذكرت الدكتور مصطفى محمود في كتابه «حوار مع صديقي الملحد»، عندما سأله عن الروح والجسد؛ حيث جاء به: «الإنسان له طبيعتان؛ طبيعة جوهرية حاكمة هي الروح، وطبيعة ثانوية زائلة هي الجسد». وقلت له: دعك ممن يقولون بمصرية هذه الجزر جغرافياً، ودعك أيضاً ممن يقولون بسعوديتها، فالأوطان لا تقاس بالحدود الجغرافية فقط. الوطن -يا عزيزي- كالإنسان، يتكون من روح وجسد؛ الأول معنوي خالص، والثاني مادي خالص.

وإذا كان الصراع حول مصرية أو سعودية الجزر في الجانب المادي، كان مثار جدل أو شك أو تأرجح أو ظن أو تخمين أو تجاذب بين طرفين، فإن الذي لا شك فيه ولا ظن ولا تخمين ولا تأرجح ولا جدال ولا تجاذب أو تصارع فيه، أن هذه الجزر في الجانب المعنوي مصرية، ولا يمكن بحال أن تكون غير ذلك.

وليس سندنا في ذلك ما كانت -وما زالت- تمارسه مصر على هذه الجزر من سيادة – سمّها ما شئت إدارية كانت أم سياسية – أو وجود شرطي على هذه الجزر، أو ما قدمه المدافعون عن مصرية هذه الجزر من خرائط وكتب ومواثيق تؤكد ذلك، لكن سندنا في ذلك أن شاباً مصرياً واحداً اختلطت دماؤه الزكية بذرة رمل من رمال هذه الجزر، فقطرة دم واحدة سالت على هذه الأرض لخير دليل وأقوى برهان على مصرية الجزيرتين.

وحتى لا تسألني يا صديقي وتقول لي: بمنطقي هذا حارب المصريون وقتلوا في اليمن وفي فلسطين وليبيا وفي الكويت معنى ذلك أن كل هذه البلاد روح الجسد المصري، ومن ثم فهي داخل حدود القطر المصري؟

ولعلك صديقي العزيز قد اختلط عليك الأمر، ففرق كبير بين أن أدافع عن وطني وأُقتل في سبيله، وبين أن أدافع مع بني عروبتي عن وطنهم وأُقتل من أجل نصرهم أو تحرير وطنهم.

فمن استشهد على أرض تيران وصنافير كان يدافع عن نفسه وعن وطنه؛ لأن الوطن والنفس شيء واحد، وليس أدل على ذلك من أن جندياً سعودياً واحداً لم تطأ قدماه هاتين الجزيرتين وقتما كان أبناء وطني لا يجدون ما تلتحف به أجسادهم في البرد القارس كيومنا هذا، ويسهرون في ظلمات الليل دون كوب الشاي الدافئ الذي بين يدَيك.

يا صديقي.. إذا كان الجسد بلا روح لا حياة له، فكذلك الجسد المصري لا يمكن أن يحيا بلا تيران وصنافير، فهما الروح لا الجسد.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.