ماذا تفعل الذات حين تجبرها السلطة على الكلام؛ السلطة التي قضت عمرها تعلمك أن تصمت وألا ترفع عينيك في وجهها تسألك دون سابق إنذار ليس فقط أن تتكلم بل أن تكتب قصة حياتك؟ هل هو فخ أم محض وسيلة جديدة للتعذيب؟

تكتب الذات في البداية بشيء من التشكك بضع صفحات تتوسطها كتابة، تعيد المحاولة مرة، ومرة، ومرة، وفي المرة الرابعة يقرر السوط أنه قد آن للصوت أن يخرج بكيفية أوضح فيُخضع الذات لطقس تعذيبي يسمى بالعرش، إذ يحشر في مؤخرة الذات قنينة «كولا» زجاجية فارغة ويطلب منها أن تكتب قصتها كاملة وهي على هذه الوضعية.

ما تفتأ الذات في المحاولة الرابعة، أن تكتب باسترسال وتملأ البياض والفراغات التي أمرتها السلطة أن تملأها، يبدأ الصوت في الانتشار إلى درجة أنه ينسى القنينة المحشورة في مؤخرته، ويبدأ في شكر السلطة على هذه الفرصة التي أتاحت له أن يتعرف على نفسه:

هذا بفضل مشروعكم بأن يفرض عليّ كتابة قصة حياتي، مما جعلني أتذكر أشياء لم أكن أدري بوجودها في ذاكرتي (ص310)،

ولكن أي نفس هي هذه التي تتذكرها الذات؟ أهي النفس التي تكتب أم تلك التي بقيت فوق عرشها (القنينة)، ذاك أنه بمجرد بدء هذه التقنية التعذيبية انفصلت الذات عن نفسها، والجسد عن صوته. جاء في النص:

رأى كيف انفصل ظله على الحائط وهو ينحني تلافيا للضربات التي جاءته من الخلف.. كانت الضربات التي تنهال على الظل الذي رآه «يالو»… الظل يتلوى من الألم (ص276) سمع «يالو» أنينا يخرج من ظله الملقى إلى جانب الحائط (ص280)

منذ هذه اللحظة يحكم عل الصوت أن يفصل عن ظله، ويبدأ الاثنان في البحث عن مسارات سردية مختلفة لا تلتقي إلا في نهاية الرواية حيث يغرق الصوت، وتعود الذات إلى التصالح مع نفسها بعد أن تبدأ في التعرف عليها شيئا فشيئا:

أجلس على مطرح الوجع، وأكتب عنه وله، وأرجوه أن ينزل ويعود إليّ لكنه هناك فوق، لا يسمع ولا يرى، بلى يسمع أصواتا من داخله، ويرى حين يغمض عينيه. أحسده وأخاف عليه وأخاف منه ولا أعرف هل يحق لي أدعوه إلى النزول، كي يعود إلي ونخرج من السجن معا، ونبدأ حياتنا من جديد. (ص334)

وبعد التعرف يحصل اللقاء، وتحل الذات في نفسها، مما يفضح الانهيار التام الذي وصلت إليها الذات في عصرنا؛ ذاك أن الذات انتقلت من الرغبة في الحلول بالله إلى الاكتفاء بالرغبة في الحلول في ذاتها، إذ ماذا يفيدها الإله وهو في عليائه مستريح بينما هي على الأرض معذبة، بذلك تكتشف الذات أنها لا ترغب في الحلول في إله تركها وتخلى عنها، لتبدأ من ثمة في النبش في ذاكرتها بحثا عن صوتها، وبذلك يتحقق حلول الذات في ذاتها مع انتهاء كتابة الاعترافات:

اقتربت منه، حاولت أن أقرأ له، لكنني توقفت عن القراءة لأنني رأيت دموعه. قرأت له عن جده والملاّ الكردي والصوت المكسور، فكرجت دموعه على خديه، وابتل نحره. كيف أنزله عن عرشه وأضمه إلى صدري؟ يالو يهبط الآن يا سيدي، أراه يهبط عن العرش ويمشي في اتجاهي. أراه في محاذاة النافذة، أراه يقترب. أنهض، أفتح له ذراعيه وأدخله في عينيّ. نظر يالو إلى الأوراق، قرأ قليلا وطلب مني أن أتوقف عن الكتابة لأن القصة انتهت.(ص362)

ولكن هل انتهت القصة فعلا؟ هل كان للسوط أن يتيح للصوت أن يهنأ بهذه النهاية السعيدة، هكذا؟ السوط الذي أرغم الصوت على التعرف على ذاته، فجأة، اكتشف بأن هذا التعرف لا يخدمه في شيء اللهم إلا في تعذيب الذات وخنقها بلسانها الذي أخرجته في وجه الصوت، رغم أن هذه الذات لم تخرج لسانها إلا تحت طلب السلطة، ولكن من تكون الذات حتى تحاسب السوط على انفصامه.

هكذا يتحقق تنبؤ يالو؛ يالو الذي وُلد والحبل السري ملفوف حول رقبته، كان قد تنبأ بأن نهايته ستكون على حبل المشنقة بحبل لا يمتد من الرحم بل من السوط الذي مدته له السلطة، ولكن هذه السلطة البارعة في اللعب أبت أن تحقق نبوءته بشكل حرفي فشنقته بلسانه؛ لسانه الذي كان في البداية قصيرًا لا يمتد بأكثر من بضع كلمات، ولكنه ما فتئ مع امتداد الرواية يطول ويطول حتى أصبح كافيا لخنق صاحبه.

ولكن هل يكفي الشنق عقوبة في نظر السوط، هل يكفي الشنق عقوبة في حق من تجرأ على أن يشرئب بعنقه وينظر إلى صوته في المرآة؛ المرآة التي عذبت غابي بأن منعتها من رؤية نفسها ودفعت يالو إلى الهروب ما فتئت تتحول في السجن إلى أوراق بيضاء، على يالو أن يملأها بصوته ويتطلع إليها بحثا عن صورته، إذ في النهاية ما الفرق بين الصوت والصورة مادام كلاهما يقف أمام صاحبه ويطالبه بأن يتعرف عليه حتى يعرفه.

حين تتعرف الذات على صوتها تصبح خطرا على كل شيء ولا يبقى أمام السوط إلا أن يخرسها بأن يغرقها. نعم، الماء وحده هذا العنصر الصافي الذي لا يختلف عن الورقة والمرآة في بياضه هو وحده من يستطيع أن يخنق الصوت ويغرق الصورة، لتكون نهاية يالو كنهاية أمه بأن ينظر إلى أوراقه ولا يرى فيها وجهه، فيقرر أخيرا أن ينطق مباشرة بضمير المتكلم قائلا:

الأوراق على الأرض، قصة حياتي من أولها إلى آخرها على الأرض. الماء والحبر والحكاية تسيل. صوته يقول: «يلله من هون»، وأنا هنا، أردت أن أرجوه أن لا يدعس عليه، لكنه دعس على صوتي. الكلام عالق في حلقي.. رأيت نفسي أسقط. رأيت نفسي أدبدب وأحاول لمّ الأوراق. رأيت قدميه، كان يدعس على يدي وأصابعي ويفرك الأوراق بكعب حذائه، وأنا أحاول أن ألمها، فأغرق في الماء والرائحة. (ص367)

ولكن هل للحكاية أن تنتهي هنا؟ هل للذات بعد أن رأت صوتها أن تنساه كأنه لم يكن؟ هل للحلول في الذات أن ينتهي بهذه النهاية التراجيديا ليعود كل من الذاتين من حيث أتيا؛ أحدهما إلى زنزانته والثاني إلى عرشه؟

ورأيته. خرج من ثيابي تسلق المكتب الحديدي وقفز إلى النافذة. رأيته هناك فوق، وقد وجد عرشه من جديد… تشبثت بالأرض، فأنا لا أستطيع أن أترك يالو هنا. لن أترك قصة حياتي تتمزق تحت أحذيتهم (ص367)

لا أعلم لماذا ذكرتني هذه الجملة الأخيرة بقصة حواء والحية، الحية التي لا يمكن إلا أن تعبر عن الصوت والكتابة لأنها على غرارهما تملك لسانين، وكما أعلن الإله في سفر التكوين بأن العداوة ستبقى قائمة بين أبناء حواء والحية وبأنها ستقتلهم بلدغهم في كعب أرجلهم، بينما هم سيقتلونها بضربها على أم رأسها، كنت أود لو تتحقق هذه اللعنة وينقلب يالو الممدد على الأرض إلى صوت/لسان أفعى ويلدغ السلطة من أضعف أعضائها أي من أخمص قدميها (أخيل نفسه مات بسبب جرح في كعب قدمه)، حتى لو كان سوطها سيضربه قبل أن يلفظ أنفاسه ويقضي عليه.

على العموم، لم تتحقق أمنيتي وكان ليالو نهاية أسعد:

دخلت إلى القاووش، وضعوا لي بطانية على الأرض قرب الباب. نظرت إلى النافذة الصغيرة العالية المسيجة بالحديد. وحين رأيته توقفت دموعي. كان «يالو» هناك في انتظاري (ص367)