ولي عبد الملك الخلافة في وقت كان العالم الإسلامي يسوده الاضطراب، حتى أشرفت شمس الدولة الأموية على الزوال، فانتشلها من الفوضى وأقام صرحها على أسس متينة لم يسبقه إليها من جاء قبله من الخلفاء، حتى اعتبر بحق المؤسس الثاني لدولة الخلافة الأموية.

المؤرخ محمد سهيل طقوش «تاريخ الدولة الأموية»

يُعلّمُك التاريخُ ألا مجال عنده للبحث عن رجال مثاليين، يقولون ما يفعلون ويفعلون ما يقولون، يقفون عند القيمة أكثر من وقوفهم عند المكسب المادي، ويؤثرون أن يقطعوا طريقهم على أرض غير مخضبة بدماء من يعوق سيرهم، ما زال التاريخ يخبرنا أن «المُلك عقيم»، وأن القوة ليس أن تنتصر، بقدر الحفاظ على قيمك حال الانتصار وحال الهزيمة.

ومن بين هؤلاء الذين تحار في أمرهم، وتتعجب كيف كان وكيف صار بعد الـمُلك؛ عبد الملك بن مروان، الرجل الذي وُصف بالعابد الناسك قبل خلافته، ووصفت عبادته من حُسنها وعلمه من غزارته، حتى يقول فيه نافع: «لقد رأيتُ المدينة وما بها شاب أشد تشميرًا ولا أفقه ولا أنسك ولا أقرأ لكتاب الله من عبد الملك بن مروان»، والذي عارض وعرّض بسياسة أعمامه من بني أمية تجاه مخالفيهم، وهو الذي أشفق من إرسال يزيد بن معاوية بعثًا لقتال الخارجين عليه بمكة المكرمة، هو نفسه الذي سيستعمل شخصًا من أغرب وأشرس الشخصيات في التاريخ الإسلامي على جيش يبعثه لقتل عبد الله بن الزبير بمكة «الحجاج بن يوسف الثقفي»!

يظل السؤال: ما الذي يفعله الحكم بالخلق ليتحولوا عن كل مبدأ آمنوا به قبلاً؟، هل كان ثمة ضرورة ما تجعل كل صراعات عبد الملك الداخلية للحفاظ على الحكم شيئًا حتميًا، أم أنه فعل كل هذا فقط ليكون «المؤسّس الثاني للدولة الأموية»؟![1]


أي دولة تسلّمها عبد الملك؟

في رمضان عام 65 هجرية تولى عبد الملك بن مروان الخلافة بعد وفاة والده مروان بن الحكم، الذي عهد له من بعده، ليترك عبد الملك حياة طلب العلم والتنسك بالمدينة ويحمل مسؤلية إعادة بناء دولة الأمويين المشرذمة؛ فقد روى ابن أبي عائشة قائلاً: «أفضى الأمرُ إلى عبد الملك والمصحف في حِجره، فأطبقه وقال: هذا آخر العهد بك»، والرواية إن صحت فإنها قيلت على سبيل المجاز لأعباء الحكم وتكاليفه الثقيلة.

تسلم عبد الملك دولته فنازعه في لقب الخلافة كل منازع، فهناك من بويع بالخلافة في العراق والحجاز «عبد الله بن الزبير »، وهناك حركات الخوارج متفرقة في أركان الدولة الإسلامية آنذاك، والشيعة بحركاتهم المختلفة في العراق، وبداخل البيت الأموي الصراع مستعر على الحكم، ليجد أن هذه الدولة لا تفرض سيطرتها إلا على الشام ومصر، أما بقية أراضي المسلمين فليست تحت أيديهم، حتى أنه في موسم الحج وقتذاك كان يُرفع أربعة ألوية؛ لواء عبد الملك بن مروان، ولواء عبد الله بن الزبير، ولواء محمد بن علي بن أبى طالب –ابن الحنفية، ولواء نجدة بن عامر زعيم خوارج اليمن.

كان أمام عبد الملك أمران لا ثالث لهما: إما أن يتنازل عن الحكم ويحقن دماء المسلمين كما فعل سلفه «معاوية بن يزيد بن معاوية»، لكن لم يكن في تنازله ما يضمنُ حقن الدماء إذ أنه بات معلومًا للجميع أن بني أمية لن يتنازلوا عن الحكم بعد كل ما فعلوه في سبيله، أو أن يصارع ليقضي على كل هؤلاء المعارضين ويستخلص الخلافة لنفسه ويوحد الرايات تحت رايته؛ إذ لم يكن من الممكن أن يقنع بحكم الشام ومصر دون خوض صراع لتوحيد الأراضي الإسلامية تحت حكم الأمويين من جديد، ليس فقط لأن هذه ليست طبيعة الحكم الأموي الذي يبحث عن خلافة راسخة واسعة واحدة، لكن لأن منافسيه أيضًا قد اعتنقوا مذهب أن الخلافة منصب لا يقبل التعدد[2].


القضاء على حركة التوابين

كانت حركة «التوابين» أول حركة معارضة يواجهها نظام عبد الملك، فبعد أن أفاق أتباع الحُسين بن علي في العراق من صدمة مقتله والتي كان لهم وزر فيها بدعوته دون حمايته، قرروا أن عليهم التوبة من هذه الجريمة، وكان سبيلهم لهذه التوبة قتل عبيد الله بن زياد والي العراق من قبل عبد الملك وصاحب الأمر بقتل الحسين، والانتقام من الدولة الأموية، وقد تزعّم هذه الحركة سليمان بن صُرد الخزاعي وتجمع حوله شيعة علي من المدائن والكوفة والبصرة، وفي محاولة لتوحيد قوة أعداء الأمويين حاول عبد الله بن يزيد الأنصاري عامل عبد الله بن الزبير على العراق أن يعرض على التوابين التوحّد معهم وإمدادهم بالمساعدة في قتالهم، إلا أنهم رفضوا قانعين بأن عبد الله بن الزبير أيضًا قد اغتصب الخلافة التي هي من حق الحسين، وتحرّك التوابون بعد ليلة بكاء عند قبر الحسين ليواجهوا القتل والتنكيل على يد عبد الله بن زياد في معركة عند «عين الوردة» شمال غرب «صفين»، وذلك في جمادة الأولى من عام 65 هجريًا، وبهذه المعركة الأولى تخلص عبد الملك من أولى الثورات الشيعية المناوئة له، وقد عاد فلول التوابين لينضموا إلى حركة أبي عبيد الله الثقفي الذي سيشكل حركة خطرة على دولة عبد الملك بن مروان بعد قليل.


دع عدوك يكفيك مؤنة أعداء آخرين!

هذه القاعدة في الصراعات المعقدة التي تعيشها القوى السياسية تكاد تكون قاعدة رئيسة، دع لأعدائك المجال ليتقاتلوا حتى يُفني بعضُهم بعضًا ويبقى لك واحد منهم، فتتوحد جبهة قتالك وتهزمه من فورك. هكذا بدا أن عبد الملك قد استغل الصراع الذي نشب بين المختار بن أبي عبيد الثقفي، وعبد الله بن الزبير، بعد أن كانا أول أمرهما متحالفين، فالمختار هذا ممن ظهروا على الساحة السياسية وقت صراع الحسين على السلطة ثم لما عاد للمشهد وجد أنه من الممكن التحالف مع ابن الزبير في سبيل القضاء على الأمويين، لكن هذا التحالف سرعان ما انهار، وبدا جليًا أن سبب انهياره الأول هو اختلاف الخلفية الفكرية والسياسية التي أتى منها الطرفان، فالمختار مغالٍ في تشيعه، بل استطاع جعل التشيع كعقيدة مقام الانتماء السياسي.

سرعان ما عاد المختار للكوفة وتمكن من استغلال الاضطرابات التي تعج بها لكي يوحد هذه الحركات المتصارعة عليه، ثم تمكن من جمع الشيعة بدعوى الثأر للحسين، وجمع حوله الموالي وأشراف العرب بعد إحداث توازنات سياسية تضمن له استقرار الداخل، قبل أن يقرر خوض معركته مع أعدائه المتربصين، فكان مصعب بن الزبير عامل عبد الله بن الزبير على البصرة يتأهّب للقتال، بينما عبد الله بن زياد القائد المعين من قبل عبد الملك يزحف بجيشه من الشام للعراق، وكانت خطة المختار طرد الزبيريين من العراق ثم يستدير لينتقم من الأمويين، غير أن زحف عبد الله بن زياد دعاه لملاقاته عند «نهر الخازر»عام 67 هجريًا، فلما التقى الجمعان قاتل المختار بجيشه المعادي والمغالي، حتى تمكن من قتل عبد الله بن زياد قائد الجيش الأموي، فاكتسب بهذا النصر شرعية أكبر عند الشيعة، بحجة أنه يتلقى اوامره من المهدي، وها هو قد قتل قاتل الحسين!.

الغريب أنه رغم خطورة الرجل، إلا أن عبد الملك لم يرسل بجيش ثانٍ لملاقاة المختار ، واكتفى بمشاهدته يتعجرف ويدير رحاه على الزبيريين، الذين بدورهم أنهوا وجوده وفتتوا جمعه وقوته، فدار القتال بينه وبين جُبير بن مصعب في معركة «المنازرة »، فلما هُزم المختار فرّ إلى الكوفة محتميًا بها، إلا أن الزبيريين حاصروها حتى سلمت وسلم الرجل[3]


القضاء على ابن الزبير

في هذه اللحظة وبعد الخلاص من تهديدات الشيعة ونزاعهم على السلطة، لم يبق لعبد الملك منازع في الجبهة الداخلية إلا خصمه القوي، عبد الله بن الزبير المطالب بالخلافة، فقد قرر عبد الملك أنه قد آن أوان المواجهة العسكرية، ولتأمين الجبهة الخارجية عقد عبد الملك هدنة مع الإمبراطور البيزنطي «جستنيان» ليوقف الاعتداء على الثغور الإسلامية مقابل دفع مبلغ من المال له سنوياً.

لكن مواجهة الزبيريين في عقر دارهم بالحجاز دون القضاء عليهم في العراق وإعادة إخضاعه للأمويين يشكل خطرًا كبيرًا على الجيش، فكان أول تحركات عبد الملك تجاه الكوفة، المدينة الأقوى في العراق، حيث لقي مصعب بن الزبير عند نهر «الدجيل» فى جمادي الآخر عام 72 هجريًا، وقد جهز لهذا اللقاء بمكاتبة واستقطاب القادة في جيش مصعب لصفوفه، وبالفعل قُتل مصعب ودخل عبد الملك الكوفة منتصرًا.

ثم ومن فوره تخير عبد الملكُ الحجاجَ بن يوسف الثقفي ليترأس حملته إلى عبد الله بن الزبير بمكة، فوصل الحجاج إلى مكة وضرب عليها حصارًا شديدًا، ثم بعث بالتأمين لأتباع عبد الله بن الزبير، فتخلوا عنه، وبقي عبد الله بن الزبير وقليل من رجاله يواجه الحجاج محتميًا بصحن الكعبة المشرفة، حتى دك الحجاج الكعبة بالمنجنيق وقتل عبد الله بن الزبير ناهيًا بذلك خلافته التي دامت 9 أعوام، وفاسحًا المجال لمولاه عبد الملك بن مرواه كي يحكم سيطرته على الخلافة، وذلك بقتل أقوى منافس له، وكان ذلك في 17 جمادي الأول عام 7 3هجريًا.

بقي أمام عبد الملك القضاء على معضلة الخوارج، وقد كان للحجاج بن يوسف الثقفي أيضًا دور مهم في القضاء على حركات الخوارج التي شكلت خطرًا طوال عهد عبد الملك، فقد أمسك الحجاج بدمويته المعهودة زمام الأمور، وكبح أي فرصة لمعارضة سياسية قد تطل برأسها، وأمّن لعبد الملك أجواء ساكنة يمكنه من خلالها تأسيس دولة قوية ذات أثر حضاري قوي وقرارات حضارية مفصلية في تاريخ المسلمين.

لقد كان عبد الملك أحد فقهاء المدينة السبعة، رجل نهل من علوم الصحابة والتابعين، وراوٍ من رواة حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وعابد مشهود له بالصلاح، فلن نكون منصفين إن قلنا إن الرجل انقلب على عقبيه فور تسلمه السلطة وصار قاتلاً يسبح في دماء المسلمين، وربما لو أطلنا النظر في الظروف التي عايشتها الدولة الإسلامية آنها لوجدنا المبرر لأفعاله، لكن يبقى السؤال: هل كان لزامًا على عبد الملك خوض كل هذه الحروب الداخلية التي سفكت فيها دماء آلاف المسلمين؟، هل مثّل بذلك تعديًا شرعيًا وتاريخيًا، أم أنه فعل ما ينبغي على قائد أتى في مرحلة تاريخية حرجة ومفصلية، وكان من الواجب عليه أن يضع حدًا لفرقة العالم الإسلامي التي ما زالت تفتّ عضده، وهل كان ثمة طريق لتراجعه عن كل هذه الدماء، أم أنها لعبة السياسة لا محالة دامية؟[4].

المراجع
  1. تاريخ الخلفاء: جلال الدين السيوطى ،دار المنهاج، جدة،ط1
  2. التاريخ الإسلامى الوجيز: محمد سهيل طقوش، دار النفائس، بيروت،ط5 ،2011
  3. تاريخ الدولة الاموية: محمد سهيل طقوش،دار النفائس ،بيروت ،ط7 ،2010
  4. البداية والنهاية: ابن كثير:نسخة مرقمة