تناولنا في المقال السابق جذور أزمة النشر الدولي وتطورها مع التعريف بحركة الوصول الحر التي ظهرت ردا عليها، أما اليوم فسنحاول تحديد تداعيات الأزمة في السياق العربي وصناع القرار في التعامل معها.


النشر في الدوريات «العالمية»

المشتغل بالبحث العلمي يعلم أنه لا تكاد أي جلسة لباحثين عرب تخلو من قصة أو مغامرة في التواصل مع الدوريات العالمية والتذمر من الأسباب المذكورة لرفض الأبحاث التي يقدمونها لها. المشكلة هنا هي أنه حتى مع اعتراف الباحثين العرب (وغيرهم الكثير من الباحثين في الدول النامية) بتميز هذه الدوريات العالمية وكونها تنشر أكثر الأبحاث انتشاراً في مجالهم، فإن قطاعا كبيرا منهم يعاني من رفض تلك الدوريات نفسها لأبحاثه.

مع اعتراف الباحثين العرب بتميز هذه الدوريات العالمية وكونها تنشر أكثر الأبحاث انتشاراً في مجالهم، فإن قطاعا كبيرا منهم يعاني من رفض تلك الدوريات نفسها لأبحاثه.

الحقيقة أنه حتى مع التسليم بمشاكل البحث العلمي في البلاد العربية من سوء إدارة وتدنٍ لمستويات التمويل المتاح وغياب دافع إتقان العمل عند كثير من الباحثين، مما قد يؤثر بالفعل على جودة المخرجات البحثية، فإنه يخطئ من يظن أن منظومة النشر العلمي الدولية تتقبل الجميع وتلقى جميع الباحثين على اختلاف أصولهم بصدر رحب. ولذلك أسباب ثلاث؛ أولها (وليس أهمها) هو أن كثيرا من القائمين على هذه الدوريات «العالمية» بشر ويجرى عليهم ما يجري على الجميع من تحيز في الرأي واستئثار بالسلطة وغيره، والتحيز ضد باحثي الدول النامية في ذاته يجعل الجميع يدور في حلقة مفرغة، ذلك أن استبعادهم من النقاشات العلمية الدولية (بحرمانهم من النشر في الدوريات التي يقرؤها الجميع) يؤثر بالضرورة على جودة الأبحاث وهو ما يدعو لمزيد من الاستبعاد بعدها. وقد صدق روبوت مرتون (أبو المجال المعروف بسوسيولوجيا العلم) عندما قال بأن منظومة البحث العلمي مصممة بحيث يزداد غنيها غنى وفقيرها فقرا.

أما عن الاستئثار بالسلطة فهو أمر يعاني منه كثير من باحثي الدول المتقدمة أنفسهم، وذلك لأن بعض الدوريات العلمية تقوم حول مدرسة فكرية معينة لها أقطابها وأتباعها وربما تقدم اعتبارات الولاء للمدرسة (المتمثلة في أمور مثل تأييد أفكار المدرسة أو الاستشهاد بأبحاث أصحابها دون غيرهم) عند النشر على اعتبارات أخرى، أهم مثل جودة الأبحاث المطلوب نشرها أو تبنيها لنقد بناء، وبالمناسبة (على عكس ما يعتقد الكثيرون) تتساوى العلوم الطبيعية مع الاجتماعية في هذا الأمر.

السبب الثاني لعدم المساواة في فرص النشر الدولي هو انتشار اللغة الإنجليزية كوسط رئيسي للتواصل العلمي مما أدى إلى رفض محرري الدوريات لمقالات منْ لغتهم الأم ليست إنجليزية تفاديا لزيادة تكاليف المراجعة والتدقيق. وبطبيعة الحال يشترك أغلب الباحثين خارج أوروبا وأمريكا الشمالية (مثل الصينيين والروس ودول أفريقيا المتحدثة بالفرنسية) في المعاناة من هذا الأمر، دعا ذلك لظهور بعض الشركات التي تقدم خدمات تدقيق لغوي للباحثين قبل إرسال مقالاتهم للدوريات العالمية، وهو ما يضيف للعبء المالي الذي يتحمله الباحث في الدول النامية، نظرا لكون تكاليف كهذه تخرج من جيبه الشخصي وليس من ميزانية المؤسسة التي يتبعها كما هو متعارف عليه في الدول المتفدمة.

السبب الثالث، وهو الأهم، هو كون بعض مواضيع المقالات التي يرسلها الباحثون العرب للدوريات الدولية ذات طابع محلي بالأساس، فقد نجد مثلا:

  • مقالة علمية كتلك المنشورة في المجلة العراقية لبحوث الأسنان عن تأثير السواك على تركيبات الأسنان الصناعية.
  • المقالة المنشورة في مجلة جامعة الوادي (بالجزائر) للدراسات والبحوث الاجتماعية عن دور القنوات الفضائية الخاصة بعد الربيع العربي
  • قياس نسب الزنك في الأراضي الزراعية والأغنام في الولاية الشمالية بالسودان، وهو بحث منشور في مجلة السودان للعلوم والتقانة.
  • الدراسة المنشورة في إحدى مجلات الجامعة الإسلامية بغزة عن الآثار المتوقعة لاستخدام العزل الحراري في بناء المنازل في قطاع غزة.

لا يخفى على أحد أن مثل تلك المواضيع ربما لا يكون محل اهتمام أصلا في الأوساط العلمية الدولية، والسؤال هنا هو إذا ما كان هذا مسوغا لتجنب القيام بهذا النوع من الأبحاث (و هو ما قد يعود بالضرر على المجتمع العربي)، الإجابة لا بالتأكيد ولكن ما الحل إذن؟


الدوريات العلمية العربية

إن وجود مواضيع ومجالات بحثية لا تعنى إلا بالقضايا المحلية كان هو الدافع الأساسي لإنشاء دوريات ذات طابع محلي ابتداءً، ولا تزال تلك الدوريات المحلية مصدرا أساسيا لكثير من الأبحاث المهمة في أغلب دول العالم (حتى المتقدمة منها مثل اليابان أو فرنسا). حتى أن التماهي بين ما هو دولي وما هو محلي لا نكاد نراه إلا في حالة الدوريات العلمية الأمريكية والبريطانية، فالواقع إذن هو أن الاختلاف بين الدوريات العالمية والأخرى المحلية هو بالأساس ناجم عن المواضيع التي يتناولها كل منهما وليس عن فارق في جودة المحتوى.

ولكن لاعتبارات كثيرة ارتبط النشر الدولي في أذهان الكثيرين بالسمعة العلمية المتميزة (والتي غالبا ما يلحقها كثير من الامتيازات المالية كما سنذكر لاحقا) ما جعل أغلب الأبحاث الجيدة تتهافت على النشر الدولي تاركة الدوريات المحلية لتبحث عمن ينشر فيها. أضف إلى ذلك أن كثيرا من الدوريات المحلية في بلادنا العربية لحقها أيضا ما لحق المنظومة العلمية نفسها من فساد ومحسوبية حتى تبنت أساليب ملتوية في إدارة أمورها، فلا مانع مثلا من أن يتغير تاريخ نشر بحث معين ليوافق شروط ترقي صاحبه أو أن يكون رئيس القسم (أو عميد الكلية) دائما هو رئيس تحرير الدورية الصادرة عن القسم بغض النظر عما إذا كان تخصصه العلمي مناسبا لموضوعها.

من المؤكد أن مثل تلك الأمور لا تتصف بها جميع الدوريات العربية، فاتهام كهذا سيكون ظلما للكثير من الأساتذة والباحثين العرب ممن يجتهدون لإدارة دوريات تحاول تناول المشاكل المحلية على أكمل وجه، فالقضية هنا هي ما يمكن أن يقوم به المجتمع العلمي العربي للنهوض بالجيد من الدوريات المحلية والتخلص من سيئها.


دور صناع القرار في العالم العربي

كثير من الدوريات المحلية في بلادنا العربية لحقها أيضا ما لحق المنظومة العلمية نفسها من فساد ومحسوبية حتى تبنت أساليب ملتوية في إدارة أمورها.

الجدير بالذكر أن أهم أسباب ما ذكرناه من تدهور لسمعة الدوريات المحلية هو بالأساس الربط بين النشر الدولي وقواعد الترقي وتحصيل الجوائز وغيرها من المميزات التي تشجع بها الدولة العلماء. فإذا نظرنا مثلا لنظم تقييم الأبحاث العلمية المقدمة لغرض الترقي في مصر أو الأردن أو غيرهما نجد أن النشر في الدوريات المحلية دائما ما يأخذ المرتبة الدنيا، والغريب أن ذلك يحدث أحيانا حتى إذا كانت الدورية المحلية معترف بها دوليا!!

إذن فبسبب هذا الوضع يجد الكثير من صغار الباحثين العرب أنفسهم في حيرة، فإذا أراد أحدهم الاهتمام بأحد مجالات البحث ذات الطابع المحلي (و التي ربما تكون أنفع للناس من المواضيع المهمة دوليا) ربما خاف أن تفوته الامتيازات التي تصاحب النشر في الدوريات العالمية.

والمؤسف في الأمر أنه حتى عند محاولة بعض الحكومات النهوض بدورية محلية ما فإن جل ما تفعله هو التقرب من شركة نشر عالمية لتتبنى «تطوير» الدورية وتشجيع العلماء الأجانب على الانضمام لهيئة تحريرها، وغيرها من الأمور التي تهدف لنزع صفة المحلية عن الدورية أصلا وتحويلها لدورية عالمية. وبذلك تظل المشكلة قائمة ولا عزاء للمهتمين بالأبحاث المحلية.

ويُعد السبب الرئيسي لهذا التوجه لكثير من صناع القرار هو أن الأبحاث المنشورة في الدوريات العالمية هي التي يُأخذ بها فقط في تصنيف الجامعات والدول عالميا (وهو ما سنتطرق له بتفصيل أكثر في المقال القادم). وعليه فإن رئيس جامعة ما ربما يفضل تشجيع الباحثين على النشر الدولي حتى يتسنى له التفاخر بتقدم تصنيف الجامعة دوليا في عهده على العمل نحو التفاخر بتحقيق أهداف أخرى محلية كمساهمة جامعته في حل مشكلة قرية مجاورة أو في مساعدة الصناعة الوطنية في الاستغناء عن الخبراء الأجانب.

وكان الأولى بكثير من الحكومات العربية اتباع نهج دول نامية أخرى تعاملت مع البحث العلمي ذي الطابع المحلي باعتباره محركا لجهود التنمية بها، وحاولت النهوض بدورياتها المحلية حتى فرضتها على الأوساط العالمية دون فقدان وظيفتها المحلية، وسنحاول بإذن الله تناول واحدة أو أكثر من تلك التجارب في المقال القادم.