برشلونة في أزمة، تبدو تفاصيلها شديدة القسوة، فعلى مستوى كل مباراة كبيرة، يتعرى الفريق ويظهر كأنه مجموعة نقاط ضعف لا نهاية لها. وكل مباراة صغيرة يتم تعقيدها بشكل يجعلك تتساءل: من هذا الفريق الذي يرتدي ألوان الكتلان؟.

لكن الأزمة لا يمكن تحديد أبعادها بالنتائج الضخمة التي حلت على يدي إنريكي بدءًا من الهزيمة برباعية في ذهاب السوبر الإسباني أمام الباسكيين الموسم الماضي، ثم توالت النتائج المهينة مع سيلتا فيجو وباريس سان جيرمان ويمكنك أن تفتح القوس لتضيف مباراة يوفنتوس للسجل الذي يبدو قابلًا للاتساع.

الأزمة لا يمكن إدراكها من خلال موسم كان قد انتهى بعد مجزرة حديقة الأمراء ثم عاد للحياة على صعيد كافة البطولات. الآن يجد الكتلان أنفسهم خلف العاصميين في البطولة المحلية، ومن جديد على شفا توديع دوري الأبطال بعد الهزيمة بثلاثية في أرض موسوليني، أحد الأعداء التاريخيين للجمهورية الإسبانية، وأحد الداعمين الأساسيين للجنرال فرانكو!!


بداية الأزمة

الأزمة لا يجب أن نراها بالقطعة، من خلال مباراة أو موسم. الأمر أشمل وأعم. ما رسخه كرويف على صعيد النادي ككل وليس فريق الكرة بالتحديد، تنسفه سلالة روسيل وبارتوميو. كانت الإشارات التي أعطاها رحيل جوارديولا في موسم 2012، إشارات كاشفة لما ينتظر النادي.

منذ وصل روسيل لرئاسة النادي خلفًا لخوان لابورتا، بدأت الأمور تأخذ اتجاهًا آخر. عقود الرعاية، شبهات حول الصفقات، إهمال اللاماسيا. اكتسى الجو برائحة تجارية انتزعت من البرسا شيئا فشيئا ما مثله للكتلان كقومية مضطهدة، وما مثله في عالم الكرة بصفة عامة.

النادي الذي بنى مجده بمهارات لاعبيه الناشئين على فلسفته، مع اعتماد محدود جدا على شراء اللاعبين من خارج النادي، تحول باضطراد إلى نادٍ يلعب بنفس شروط السوق. يشتري النجوم، وما يجلبونه من ميزات تسويقية ويفرط في النجوم الصاعدين.

تقف صفقة بيع تياجو ألكانتارا لبايرن ميونيخ كشاهد تاريخي على الجريمة التي اقترفت في حق النادي ومستقبل فريق الكرة. الكانتارا الذي صعده بيب من الفريق الرديف، وينظر له على أنه الوريث الطبيعي لتشافي هيرنانديز، تم التفريط فيه.

الآن أدرك الكل حجم الجريمة وهم يشاهدون متوسط ميدان برشلونة يعجز ويتراجع في ظل تقدم إنيستا في العمر واستهلاك بوسكيتس. ولم ينجح الانتدابان في سد النقص، لا راكيتيتش ولا جوميز مع الفارق بينهما قادرين على سد النقص.

تياجو مجرد مثال، يمكنك أن تضم إليه هاليلوفيتش وسيرجي سامبر. بيع الناشئين الذين تربوا داخل النادي وعلى فلسفته وقيمه. والاتجاه إلى الأسواق حيث شراء النجوم ذوي الثقل التسويقي، وحيث الصفقات تجلب العمولات. هذا هو المنهج الذي على أساسه تم نقل شعار اليونيسيف ووضعه على ظهر القميص كي يفسح المكان لراع جديد لا يهم من هو، المهم أنه يدفع أكثر.

وبعدما كان كرويف هو المرجعية الأساسية لإدارة لابورتا، بدا أن روسيل ومن خلفه لديه رغبة جامحة لتدمير كل ما له علاقة بهوية النادي الحديثة، فتم تجاهل نصائح كرويف. كما تم نسف كل ما رسخه.


برشلونة ليس كغيره

تظن إدارة برشلونة الحالية أنها قادرة على تكرار المجد الكتالوني دون تعقيد وفلسفة. فقط نشتري نجوما كبارا وسننتصر. لكن الحقيقة أن برشلونة انتصر وكسر الهيمنة العاصمية وهيمن على العالم لأنه نظر إلى اللعبة بشكل مختلف. بشكل يناقض كل ما هو سائد في عالم الكرة.

النادي الذي يمثل إقليمًا متمردًا ويخوض حربًا باردة ضد المملكة الإسبانية لا يمكنه أن يلعب بنفس قواعدهم. داخل وخارج الملعب، وقف برشلونة ممثلًا لكل ما هو جميل. وما مثله النادي تم تخليده للأبد في تاريخ اللعبة.

يرفض العقل الجمعي للكتلان تصديق ما يحدث وتفسيره. فالصورة التي رسختها حقبة جوارديولا عن البرسا الذي نادرًا ما يخسر، وحتى إن خسر فإنه يقدم مايليق، ويلعب الكرة التي تسر القلب وتدهش العين. وبالتالي فإن مشاهدة برشلونة يهان برباعيات وثلاثيات، ويدخل كل المباريات كبيرها وصغيرها في حالة شك، جعل الكتلان يتطرفون في تفسير الأمر.

تكمن الأزمة في الإدارات المتعاقبة بعد رحيل لابورتا، تلك الصورة العامة التي لا يصح تجاهلها. لكن الدور الذي لعبه إنريكي في تدمير هوية الكتلان، لا يفوقه شيء سوى جرائم روسيل وبارتوميو. جاء إنريكي أساسا في قلب أزمة الكتلان. موسم تاتا مارتينو المأساوي على كافة الأصعدة. تراجع في مردود القلب الأساسي للفريق. عُقم تكتيكي صارخ. وموسم فقد فيه برشلونة البطولات الثلاث بتفاصيل لم يكن جوارديولا ليسامح نفسه لو أنه أهملها.

بيب مشهور بأنه مهووس بالسيطرة على كافة تفاصيل اللعبة، لا يحب أن يترك شيئا للصدفة، تلك المنهجية هي التي صنعت البارسا المهول. ودمار تلك المنهجية هو ما جلب الدمار على فريق المقاطعة.


انقلاب السيد إنريكي

الأقانيم التي زلزلت أوروبا، وجعلت الكتلان يجلبون الخراب على خصومهم أينما حلوا. الاستحواذ، اللعب الموضعي، التمركز. ثلاثة مفاهيم مرتبطة لا تنفصم، وهي التي جعلت برشلونة الذي يمتلك أفضل موهبة فردية في تاريخ اللعبة، فريقا جماعيا متماسكا لا يعرف طعم السقوط والذل.

استبدلت كافة الأركان تحت قيادة لوتشو، فرأينا فريقا هشا تحت الضغط، يبدو لاعبوه فاقدين لأبجديات التمركز، وهو بناء على ذلك فريق يعتمد على فرديات ثلاثي الرعب الأمامي ومن خلفهم الرسام.

أصبح البارسا يحيا على عبقرية وإبداع البولجا وهو يتحرك في شراكة منسجمة مع سواريز ونيمار. استسهل إنريكي واستمرأ ميزة وجود ميسي في الفريق، فنسف كل تراث الفريق لنرى الملك رقم 10 ينزل إلى متوسط الميدان ليسهم في تخفيف الضغط على زملائه أثناء عملية البناء، ثم يراوغ ويصنع ويسجل متحملا جانبا ضخما من المسؤوليات التكتيكية والجماعية وحده.

وهناك على الجناح الأيسر يعيش نيمار في نزواته، يراوغ وقتما شاء، يمرر كيفما يريد، ويتحمل مع البولجا مسؤولية فريق يترنح ويواجه خصومه دون مدرب. تم استنزاف نجمي البارسا في عمليات تفوق الطاقة البشرية. ميسي ينزل على دائرة المنتصف أثناء البناء، ونيمار يعود ليدعم الظهير الأيسر في الحالة الدفاعية.

إلى أن حلت مأساة باريس التي كانت التطور الطبيعي لمباريات إشبيلية في البيزخوان وريال سوسيداد في أنويتا ومانشستر سيتي في ملعب الاتحاد، حين وضع الكتلان تحت الضغط وفشلوا في فرض أسلوبهم والخروج بالكرة من ملعبهم.

لتأتي مباراة حديقة الأمراء بما حملته من إهانة لتفرض علي إنريكي التدخل أخيرا بالتخلي عن 4-3-3 لصالح 3-3-1-3 وفرت مزيدا من الخيارات في البناء ومزيدا من الصلابة في متوسط الميدان بتواجد البولجا في المركز رقم 10 ليعطي الكتلان مزيدا من الكرة ومزيدا من الضغط.

لكن حتى هذا التحول كان ينطوي على نفس نقاط الضعف التي ساهم غياب بوسكيتس عن مباراة تورينو في كشفها. تأكد من جديد عدم قدرة ماسكيرانو على تأدية مهام بوسكيتس في البناء، وظهر عدم قدرته على حماية منقطة الارتكاز في حالة الدفاع.

وتأكد للمرة الألف عدم وجود مكان لجيرمي ماثيو في برشلونة، وهو ما استنتجه لوتشو بعد الشوط الأول في تورينو، فاستبدل الفرنسي النابغة بأندريه جوميش الذي يعد أحد الضحايا المباشرين لإنريكي. البرتغالي كان حريا به أن يبدأ على حساب ماثيو، على الأقل لما يوفره من قدرة على التمرير والتسليم والتسلم تحت ضغط ما كان سيوفر للبرسا حلولا في عملية البناء في مواجهة الضغط العالي الذي بدأ به الطليان.

وصل إنريكي إلى برشلونة قادما من سيلتا فيجو بشيء اشتهر به: التدوير. ويبدو أن علاقة لوتشو بالتدوير تحتاج إلى بحث معمق، كون الرجل يقوم بمداورة لاعبيه في كل الأوقات بحيث لا يظهر لهذا التدوير أي هدف سوى أن يفقد الفريق التجانس.

عاد انيستا من إصابة طويلة يحتاج بعدها إلى مزيد من الدقائق كي يستعيد مستواه ولياقته، لكنه كان الهدف الأكبر لعملية المداورة، وإذا كان تدوير إنيستا لا يبرره تقدمه في العمر، فإن تدوير اومتيتي لن تجد له مبررًا أبدًا لأن الفرنسي الشاب لم يتخط عامه 23 أي أنه في الفترة الأكثر فورانًا بدنيًا في مسيرته كلاعب، لماذا تطاله المداورة؟

فقد الكتلان بسبب المداورة نقاطا يبدو أنها ستحسم الليجا هذا الموسم، كان آخرها تفكيك الفريق في مواجهة ملقا ليتلقى الكتلان هزيمة بثنائية، شهدت إبداعا من ماثيو على وجه التحديد حين نصب مصيدة التسلل في نصف ملعب الخصم كي يسمح لساندرو بالتسجيل.


العودة من الموت

كانت عودة البرسا ضد باريس ضربًا من الجنون الذي يخالف كل القواعد، فلا حالة البارسا ولا إمكانيات باريس كانت تشي بما سيحدث في الكامب حين دهست نتيجة الذهاب تحت سنابك الخيل الكتالوني الجريح.

لكنها حدثت، ورفعت منسوب التفاؤل وعادت جماهير كتالونيا للحلم بثلاثية، لم لا؟ فالفريق الذي يعود من الموت أمام جيش نابليون، لن يقوى أحد في أوروبا على مقارعته. لتعيد مباراة يوفنتوس الأمور إلى نصابها، برشلونة لم يعد ذاك الفريق المرعب، وهو ينزف منذ فترة لدرجة أصابته بالوهن والعجز.

العودة على اليوفي ستكون عملا آخر منافيا للعقل، والبرسا هو مصدر كل شيء مناف للعقل في عالم الكرة، سواء في لحظات قوته أو ضعفه، لكن على الورق، لن يجد الكتلان العزيمة ولا الإمكانيات التكتيكية التي تمكنهم من كسر حائط الصد الإيطالي. ويبدو أن النادي الكتالوني يتجهز لعملية تغيير جذري.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.