لطالما شكّل «الدين – الإسلام» عنصرًا أساسيًا في كل الانقلابات العسكريّة التي وقعت في تركيا منذ إعلان الجمهوريّة التركيّة، التي أُسست على عدة ركائز، منها «نبذ الدين»، وحتى انقلاب ما بعد الحداثة في تسعينات القرن الماضي.

ورغم تشعُّب قضية «توظيف – نبذ» الدين طوال تاريخ الجمهوريّة التركيّة، فحسب الدراسة المهمة «the role of religion in foreign policy» لـهويدا أحمد، فإن خبرة الدولة التركيّة منذ نشأتها تُظهر أن العلاقة بين الدين والسياسة الخارجيّة اتّخذت أحد اتجاهين: «توظيف الدين من أجل المصلحة، ونبذ الدين من أجل المصلحة».

وسيكون تركيزنا في هذا المقال على «استغلال الدين» لتحقيق الأهداف السياسيّة في مرحلة ما بعد الانقلابات العسكريّة وعملية وضع الدساتير التركيّة مع التركيز أكثر على الدستور التركي الحالي، وهو دستور 1982، الذي وضع في مرحلة ما بعد انقلاب 1980.


جمهوريّة أتاتورك: التأسيس على «نبذ الدين»

http://gty.im/167492520

كان الإسلام أحد الأسس التي قامت عليها الدولة العثمانيّة، وقد كان سلاطين الدولة يُعرفون بالخلفاء على العالم الإسلامي، وكان خطاب الدولة العثمانيّة الموجّه إلى الأقطار الإسلاميّة أن هذه الدولة هي الحامية للإسلام السّني في مواجهة «الغرب – المسيحي».

وبعد قرون جاء ضابط في الجيش العثماني، وهو مصطفي كمال أتاتورك، استطاع تفكيك «دولة العثمانيين»، وعلى عكس توجّهات الدولة السابقة رأى«أتاتورك» أن «الدين _ الإسلام» هو سبب تخلّف الدولة العثمانيّة، فعمل على «نبذ الدين»، وألغى الخلافة، وأعلن الدولة التركيّة بعد حصوله على الاستقلال «دولة علمانيّة».

كان هدف «أتاتورك» إبعاد الدين عن الحياة التركيّة، فعمل بدايةً على فرض سيطرته عليه، ثم اتّخذ عددًا من الإجراءات التي أسهمت في «قمع الدين» اجتماعيًا، وكان منها إلغاء مشيخة الإسلام، ووزارة الأوقاف، واستحدث «رئاسة الشؤون الدينيّة»، وجعلها تابعة لرئاسة الجمهوريّة، ثم أصدر قانون التعليم الموحّد، رغبة في إنهاء التعليم الديني.

وفي عام 1925، حظر الطرق الصوفيّة والمجموعات الدينيّة بموجب قانون، وفي العام التالي حظر الزي الإسلامي على السيدات، وفرض معاقبة الزوج أو الأب في حال مخالفة السيدات قرار الحظر، وفي عام 1928 تم تعديل القانون المنظم لقسم رئيس الجمهوريّة، حيث استبدل كلمة «الله» في القسم، ووضع بدلًا منها كلمة «بشرفي».


4 انقلابات عسكريّة في مرحلة ما بعد «أتاتورك».. و«نبذ الدين» حاضرٌ بقوة

منذ أول انقلاب عسكري في تركيا بعد الجمهوريّة وحتى انقلاب عام 1997، مرّت تركيا بأربعة انقلابات عسكريّة، وكان وراء جميع هذه الانقلابات عدة دوافع، لكن القاسم المشترك في القيام بهذه الانقلابات من جانب الجيش التركي كان الدفاع عن «علمانيّة الدولة» ضد ما يراه الجيش انتهاكًا لها من سياسات تُعزّز دور الدين.

ففي مايو/ آيار 1960 قام الجيش بانقلاب على حكومة الحزب الديمقراطي بحجة منع تحول تركيا إلى دولة دينيّة، وفي العام التالي صدر الدستور التركي «دستور 1961»، وقد نصّت المادة 19 من هذا الدستور على «منع استثمار الدين من جانب الأحزاب لغايات سياسيّة»، كما اعتبرت المادة 241 من قانون العقوبات المستحدَث أن انتقادات الزعماء الدينيين للقوانين العلمانيّة «جريمة».

وكان الانقلاب الثاني في تاريخ الجمهوريّة في عام 1971 ضد حكومة سليمان ديميريل، واتّهمت القواتُ التي قامت بالانقلاب الحكومةَ بأنها تمارس ما يتعارض مع المبادئ العلمانيّة، ويوصف هذا الانقلاب بأنه «انقلاب نصف عسكري»، حسب طبيعة تشكيل القوات التي قامت به، كما اقتصر دوره على القيام بتعديلات دستوريّة، ولم تجرِ تغييرًا كبيرًا بنسبة النظام الذي وضعه انقلاب 1960، نظرًا إلى ضمان مصالح العسكر في دستور الانقلاب السابق، لذا لم يكن قادة هذا الانقلاب بحاجة إلى تغيير المؤسسات المنتخَبة، مثل البرلمان، بل اتّخذوه واجهة للقيادة من الخلف.


انقلاب 1980 «توظيف ونبذ الدين» لتحقيق مصالح «الجيش التركي»

يُعد انقلاب عام 1980 أكثر الانقلابات العسكريّة التركيّة التي قامت بتوظيف الدين لتحقيق مصالح سياسيّة، وهو الانقلاب الوحيد الذي عمل على مأسسة دور التعليم الديني في الدستور التركي، لكن دوافع قادة الانقلاب التركي في التأسيس لدور الدين كانت دوافع مصلحيّة، إذ عملت على توظيف الدين لتحقيق مصالح سياسيّة.

ويُعد هذا الانقلاب الأعنف في تاريخ تركيا، فما شهدته السنوات الثلاث الأولى من عُمر هذا الانقلاب لم تشهده تركيا منذ إعلان الجمهوريّة، من حيث القتل والمحاكمات وإنهاء التوازن بين السلطات وإخضاع القضاء لفوهة البندقيّة، وكان تأسيس دستور 1982، الذي لا يزال حاكمًا لتركيا حتى اليوم تأسيسًا لدستور «عسكرة الدولة والمجتمع».

وكان لانقلاب 1980 دوافع عدة، لكن عوامل أساسيّة كانت في المكون الرئيسي لهذا الانقلاب، وكان البعد الديني حاضرًا فيها، إذ كان لاندلاع الثورة الإيرانيّة أبعاد محليّة، تفاعلت معها أحزاب سياسيّة، ومنها الأحزاب الأقرب إلى التوجّه الديني، وبعد تفاعلات وتشابكات سياسيّة كُبرى بين اليمين واليسار تدخّل الجيش بقيادة كنعان إيفرين قائد الجيش للقيام بالانقلاب.

وتماشيًا مع تجارب الرئيس المصري الأسبق أنور السادات في توظيف الدين لمواجهة المد اليساري في عهده، عمل انقلاب 1980 على التأسيس لمقولة «التوليف القومي – الإسلامي» لمواجهة الخطر الشيوعي والكردي الانفصالي.

وفي عام 1982، ظهر دستور 1982 الذي ما زال حاكمًا لتركيا حتى الآن، وعمد فيه قيادات الجيش التركي على التأسيس لتوظيف الدين لمصالح سياسيّة تتعلق بمواجهة المد الشيوعي على اعتبار تركيا دولة رئيسيّة في حلف الناتو، وفاعلة في مواجهة الاتحاد السوفيتي.

ونصّت المادة 24 في هذا الدستور على: «تُشرف الدولة على التعليم والإرشاد الديني والأخلاقي وتراقبه. ويكون تعليم الثقافة الدينيّة والأخلاق ضمن المقررات الإلزاميّة في مناهج المدارس الابتدائيّة والثانويّة. ويخضع أي تعليم أو إرشاد ديني في ما عدا ذلك لاختيار الفرد نفسه، وفي حالة القصَّر، لطلب ممثليهم القانونيين. ولا يُسمح لأحد باستغلال الدين أو المشاعر الدينيّة أو المُقدَّسات، أو إساءة استخدام أيٍّ من ذلك بأي طريقة كانت، بغرض مصلحة أو نفوذ شخصي أو سياسي، أو بغرض إقامة النظام الأساسي».

وبناءً على هذا الدستور، عمل إيفرين على التوسّع في إنشاء معاهد «إمام – خطيب»، وإعداد المناهج الدينيّة لطلاب المدارس، التي أصبحت إلزاميّة على الطلاب، ومع تولي إيفرين رئاسة الدولة التركيّة كان كثيرًا ما يستشهد بالآيات القرآنيّة في خطبه العامّة.

ورغم أن قانون التعليم الموحّد الذي صدر في عهد «أتاتورك» أسهم في إلغاء مدارس «إمام – خطيب» بعد تجفيف مواردها عبر مصادرة الدولة للأوقاف الدينيّة، مما أدى إلى إغلاقها بشكل كبير في النهاية، إلا أن انقلاب 1980 عمل على جعل تدريس الدين إلزاميًا وفق الدستور، وشجع على افتتاح المدارس الدينيّة تحت سيطرته، أملًا في استغلال الخطاب الديني المهيمن عليه سلطويًا، لتنفيذ مشاريع سياسيّة.

وكانت دوافع «إيفرين» متعدّدة، فقد أراد توظيف الدين عبر إلزامه مدرسيًا لمحاربة التعلم الدينيّ الذي كانت تُقدمه الجماعات الإسلاميّة في تركيا في الخفاء، وبعيدًا عن أعين الدولة، كما أراد الوقوف أمام ما كان يعتبره خطابًا دينيًّا متطرّفًا، وكان التخوّف الرئيسي في هذا الجانب قادمًا من إيران بعد اندلاع الثورة فيها، حيث عملت على تصدير الثروة، وهو ما رأت فيه حكومة الانقلاب التركي خطرًا كبيرًا، إذ إن الثورة هناك قامت على حكومة علمانيّة موالية للولايات المتحدة، وإن كانت ملكيّة، فإن خطر اندلاعها في الجوار التركي لم يكن بعيدًا، لذا كان الطريق لإبعاد الخطر ليس مزيدًا من فرض العلمانيّة، بل بسط نفوذ الدولة على التعليم الديني، وجعله إلزاميًّا، وفرض «رواية الدولة للدين» على الأتراك جبرًا.

هدف آخر أرادته حكومة انقلاب 1980، وهو جعل «التعليم الديني المؤمّم» أداة في مواجهة الفكر الماركسي الذي انتشر وسط الشباب التركي، نظرًا للجغرافيا الخطرة التي تقع فيها تركيا، ولأن أحد عوامل اندلاع الانقلاب كان المواجهة الشرسة في تركيا بين المجموعات اليساريّة والقوميّة والكرديّة وغيرها، فإن تقديم تعليم ديني يواجه اليسار يعد علاجًا قويًّا، كما يُعد ضرورة ملحة لدولة وظيفيّة ضمن إطار «الناتو»، حيث تُعد الخط الأمامي لمواجهة الاتحاد السوفيتيّ وقتها.

وجاء إعلان الولايات المتحدة عن اعترافها بحكومة الانقلاب التركي، وتأييدها له كأول حكومة في العالم تعترف به، ليدعم رواية اليسار التركي بأن هذا الانقلاب جاء بضوء أخضر من الولايات المتحدة، كما أن تزامن وقائع الانقلاب مع مناورات عسكريّة مشتركة بين الجيش التركي و«الناتو» عزّز هذه الرواية.

المراجع
  1. the role of religion in foreign policy ,Howaida Ahmed ,Arab Knowledge Office
  2. العسكر والدستور في تركيا، الدكتور طارق عبدالجليل, دار نهضة مصر
  3. في أصول التاريخ العثماني, أحمد عبدالرحيم مصطفي, دار الشروق
  4. العثمانية .. عنقاء تنهض – الجزيرة
  5. تاريخ الدولة العثمانيّة, يلماز أوزتونا, مؤسسة فيصل تركيا