السلطة القضائية مستقلة، تتولاها المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها، وتصدر أحكامها وفقاً للقانون، ويبين القانون صلاحياتها، والتدخل فى شئون العدالة أو القضايا، جريمة لا تسقط بالتقادم.
المادة 184 من الدستور المصري

بالرغم من أن دستور 2014 ليس أول دستور مصري ينص على استقلال السلطة القضائية، إلا أن بنية القضاء المصري في الدولة الحديثة طرأت عليها الكثير من التغييرات الناتجة بالأساس عن البيئة والظرف السياسي القائم، حتى وصل إلى الصورة النهائية الموجود عليها الآن، والتي قد تتغير تبعاً لمجريات الظرف السياسي.

ولا دليل على ذلك أبلغ من إقرار مجلس النواب المفاجئ لقانون السلطة القضائية.


1. المحاكم الشرعية 1522: الحكم بالشرع والقضاة بالتعيين

كان النظام القضائي المصري أول المتضررين من الغزو العثماني لمصر، فقبل دخول العثمانيين إلى مصر كان لكل مذهب من المذاهب الأربعة قاض، ولكل قاض نوابه.

ورغم أن السلطان العثماني أعاد قضاة المذاهب الأربعة إلى مناصبهم بعد خروجهم مع طومان باي ضده، إلا أنه كما تقول د.لطيفة محمد سالم في كتابها «النظام القضائي المصري الحديث» لم يستطع العودة إلى تركيا قبل أن يستتب له أمر القضاة، فقام أولاً، باعتماد المذهب الحنفي كمذهب رسمي، ثم عين ما يعرف بـ«قاضي العرب» وجعله فوق القضاة الأربعة وجعل الأمر كله له.

وفي مايو/آيار 1522 قام الباب العالي بتشكيل النظام القضائي مرة أخرى، بإسقاط القضاة الأربعة، وجعل قاضيًا واحدًا عرف بـ«قاضي عسكر» وقسمت مصر إلى 36 ولاية قضائية، وضم قاضي عسكر إلى اختصاصات القضاء اختصاصات إدارية منها أنه يلي الباشا في الديوان، ويحل محله في غيابه، كما منع أي معاملات قضائية إلا بعد اطلاع قاضي عسكر عليها.

وتضيف د.لطيفة، أن القضاة الأتراك لم يكونوا بعلم قضاة المذاهب المصرية، كما انتشرت الرشوة في تولي منصب القاضي؛ لكون كل قاض يحصل على راتبه من نسبة ما يحصله من رسوم وأحكام، وانتشرت المظالم، والأحكام الجائرة وهو ما جعل المصريين ينصرفوا عن القضاء، ويلجئون إلى مشايخ الأزهر.

وبسبب ذلك الوضع فقد تراجع قاضي عسكر عن النظام القضائي بتعيين القضاة المصريين نواباً له يحكمون بين الناس، وبذلك فقد استمرت تبعية القضاء للباب العالي عن طريق قاضي عسكر الذي يعينهم.


2. القضاء من الحملة الفرنسية إلى ثورة 1919

الحملة الفرنسية: محكمة لكل طائفة

ومع قدوم الحملة الفرنسية لمصر عام 1798، حاول نابليون بونابرت الحد من سيطرة المحاكم الشرعية، وبدأ ذلك بمجلس القضايا الذي شكله والمكون من 12 نصفهم من الأقباط والنصف الآخر من المسلمين، وترأسه قبطي، وجعل اختصاصه نظر القضايا التجارية.

ثم قام خليفته «منو» أصبح لها بعض الامتيازات على المحكمة الشرعية، فجعلها محكمة نقض وإبرام، وجعل لقضاتها حق تفسير الشريعة، ومراقبة المحاكم الشرعية، ونقض أحكامها.

واستمر هذا النهج بتأسيس «محاكم الطوائف»، فتم تأسيس محكمة لكل من الأرمن والشوام واليهود والأقباط، بدلاً من المحكمة الشرعية التي كانت تنظر كافة القضايا لكافة الطوائف، وجعلت المحكمة الشرعية اختيارية لمن يريد الاحتكام إليها من هذه الطوائف.

القضاء في أسرة محمد علي

يمكن القول بأن عهد محمد علي كان بداية تأسيس القضاء المدني الحديث، وكان لذلك بعد سياسي، كما يقول د.يونان لبيب رزق، وهو رغبة محمد علي وخلفائه من أسرته في توسيع قاعدة الاستقلال المصري عن الباب العالي، نظراً لكون المحاكم الشرعية تابعة للباب العالي عن طريق قاضي عسكر أو قاضي القضاة.

وكانت بداية التعديلات التي وضعها محمد علي، هو ما يعرف بنظام «ديوان الوالي» الذى تطور لـ«ديوان الخديو» في مصر والإسكندرية، وتبع ذلك إنشاء «مجلس الأحكام الملكي».

ولم يتوقف محمد علي عند ذلك فأصدر قانون «السياسة نامة» وأسقط كافة المجالس وأنشأ 7 دواوين، أهمها الديوان العالي، الذي أمسك كافة الاختصاصات بينها القضائية وذلك عام 1837، ثم قام بتأسيس جمعية الحقانية وهي أول مؤسسة قضائية حديثة تعرفها مصر، وضمت في اختصاصاتها التشريع واعتبرت هيئة استشارية يحيل لها الوالي القضايا التي تم الحكم فيها لإعادة النظر وذلك عام 1840.وفي عهد عباس بن محمد علي تم إنشاء مجلس الأحكام في 1849، وهي هيئة قضائية مكونة من 9 موظفين يضاف إليهم عالمان أحدهما شفعي، والآخر حنفي، ومهمته الفصل في القضايا الكبرى، أما الصغرى فتركت للمحاكم الشرعية، ثم أنشأ مجالس الأقاليم في 1852، وهم خمسة مجالس يشملون مصر بالكامل.وتعد الخطوة الأولى لنشأة المحاكم ما قام به الخديو إسماعيل الذي قام بالتوسع في إنشاء المجالس لتصل لمجالس الدعاوى القروية في كل قرية، كما قام بتخصيص مجلسي مصر والإسكندرية كمجالس استئنافية للأحكام، وفي 1863 أنشأ ديوان الحقانية ونقل تبعية كل المجالس إليه، وأسس المجالس الابتدائية والاستئنافية وحدد اختصاصات كل منها لكن دون وجود تشريع واضح.وفي عهد الخديو توفيق تم إنشاء المحاكم المختلطة عام 1875، ثم تبعه إنشاء المحاكم الأهلية كنتيجة للمطالبة بالمثل، ليلغي بذلك مجالس الأحكام ويبدأ النظام القضائي الحديث.

دستور 1923: العصر الذهبي

يمكن القول بأن العصر الذهبي للقضاء المصري كان في الفترة ما بعد ثورة 1919، فهي الفترة التي شهدت إدراج القضاء ضمن سلطات الدولة خلال دستور 1923 والذي نص على أن:

القضاة مستقلون، لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون، وليس لأية سلطة في الحكومة التدخل في القضايا.

وفي عام 1941 صدر أول قانون لاستقلال القضاء في مصر وحمل رقم 66 لعام 1943، وسبق تأسيس محكمة النقض ثم تأسيس نادي القضاة بهدف إلغاء المحاكم المختلطة، التي ألغيت بالفعل في عام 1943.ورغم ما حظيت به هذه الفترة من استقلالية واضحة للقضاء إلا أنها شهدت أيضًا المحاكم الاستثنائية والمختلطة التي تحكم بها الاحتلال الإنجليزي.


3. من الاحتلال الإنجليزي إلى 2015: المحاكم الاستثنائية تاريخ ممتد

إن حماية الضعيف من القوي ليست هي الوظيفة الوحيدة للعدالة، إن المحاكم يجب أن تكون قادرة أيضًا على حماية المجتمع ضد الأشرار.
اللورد كرومر

بدأت فكرة المحاكم الاستثنائية في مصر مع الاحتلال الإنجليزي فيما يعرف بالمحاكم المختلطة، ويعد حكم محكمة دنشواي الذي قضى بإعدام 4 مصريين أشهر أحكام هذه المحاكم.بالإضافة إلى ذلك فقد عمد المندوب السامي إلى إنشاء ما يعرف بمحاكم الأخطاط، وهي محاكم تتشكل من الأعيان ورجال الإدارة ولا تتقيد بضوابط المحاكمات التي توجد في القوانين العادية. وركزت هذه المحاكم عمومًا، على المسائل الجنائية بنظر القضايا الصغيرة وإصدار أحكام غير قابلة للطعن، وفي سنة 1912 تم إنشاء مائتين من محاكم الأخطاط التي تستخدم إجراءات مبسطة وقضاة غير محترفين.وضمن المحاكم الاستثنائية أيضًا، محكمة الغدر، التي أنشئت بالمرسوم بقانون رقم 344 لسنة 1952، ومحكمة الثورة المنشأة بمقتضى الأمر الصادر من مجلس قيادة الثورة في 16 سبتمبر/ أيلول سنة 1953.وتعد محكمة أمن الدولة العليا أول محكمة استثنائية ينص عليها الدستور، فقد نصت المادة 171 من دستور 1971 «ينظم القانون ترتيب محاكم أمن الدولة ويبين اختصاصاتها والشروط الواجب توافرها فيمن يتولون القضاء فيها، وبموجب ذلك فقد تم إصدار قانون رقم 105 لسنة 1980م بإنشاء محاكم أمن الدولة».أما القضاء العسكري، فقد نشأ بقانون 25 لسنة 1966 الذي نص على «الإدارة العامة للقضاء العسكري هي إحدى إدارات القيادة العليا للقوات المسلحة، ويتبع هذه الإدارة نيابة عسكرية ومحاكم عسكرية وفروع أخرى حسب قوانين وأنظمة القوات المسلحة».ورغم أن الأصل في القضاء العسكري محاكمة العسكريين إلا أن مبارك استخدم القضاء العسكري ضد خصومه. وشهدت الفترة التالية لثورة 25 يناير توسعًا في محاكمة المدنيين، وأبرز الأدلة على ذلك تقرير مجموعة «لا للمحاكمات العسكرية للمدنيين» الذي قال إن نحو 3000 مواطن تمت محاكمتهم أمام القضاء العسكري في الفترة ما بين أكتوبر / تشرين الأول 2014 ومارس/ آذار 2015.

المراجع
  1. من سجلات المحاكم الشرعية ‏'‏جمعية الحقانية‏':‏ أول مؤسسة قضائية حديثة نشأت في عصر محمد علي‏.‏ ظاهرة‏'‏ كشكش بك‏'‏ في سجلات المحاكم الشرعية‏
  2. موسوعة "النظام القضائي المصري الحديث" الجزء الاول د.لطيفة محمد سالم – مكتبة الشروق
  3. المحاكم الاستثنائية والدستور
  4. ورقة " الطوارىء وأزمة الحريات العامة فى مصر " د.محمد نور فرحات ..المؤتمر العلمي الاول للحريات ..2005
  5. كيف أصبحت سلطة المحاكم العسكرية في مصر أعلى من سلطة القضاء المدني؟
  6. القضاء المصري بين 7 عهود.. 24 محطة بارزة في علاقة القضاء بالسلطة
  7. القضاء المصري بين الاستقلال والاحتواء …. المستشار طارق البشري…. مكتبة الشروق الدوليةبلاسا