لعل أول ما يتبادر إلى الذهن أثناء تصفح تفاصيل حياة إمام المتصوفين «ابن عربي» في سطور رواية، هو تساؤل: كيف فات الروائيين العرب على اختلاف جنسياتهم وثقافتهم فرصة تدوين سيرة هذا الرجل روائيًا طوال هذه الفترة؟

والغريب أن تجارب كتابة سير كبار الأئمة والعلماء في الرواية العربية عندنا قليلٌ ونادر، رغم ما تزخر به بطون الكتب والموسوعات التاريخية من أسماء لعلماءٍ في شتى المجالات، دار الزمان بهم وأقاموا الدنيا من حولهم، ولكن يبدو أن النسيان قد طواهم في نهاية الأمر، فلم يلتفت إلى بعضهم إلا القليل، نذكر من ذلك تجربة الروائي «بنسالم حميش» في روايته «العلامة» عن سيرة «ابن خلدون»، وكذلك تجربة «واسيني الأعرج» في «كتاب الأمير» لتدوين سيرة «الإمام عبد القادر الجزائري»، وقريبًا منها ما فعله محمد العدوي في روايته «الرئيس» لسرد أطراف من حياة الشيخ الرئيس «ابن سينا»، أمّا أعلام المتصوفة فكان أشهر ما كُتب عنهم ما حكاه «صلاح عبد الصبور» شعرًا في «مأساة الحلاج».

وتجدر الإشارة إلى أن هناك اهتمام غربي واضح بأعلام المتصوفين، ظهر جليًا مؤخرًا في «قواعد العشق الأربعين» لإليف شافق التي تحكي سيرة «جلال الدين الرومي» و«شمس الدين التبريزي»، وكذلك فعلت «نهال تجدد» في «الرومي نار العشق»، هذا بالإضافة إلى الأعمال التي اعتمدت على سير علماء أو حكام عرب ومسلمين كان للفرنسي «جيلبرت سينويه» قدم السبق في هذا المضمار حيث خص «ابن سينا» برواية تحمل اسمه أيضًا، كما كتب عن «محمد علي» روايته «الفرعون الأخير»، كما كتب الإسباني «أنطونيو جالا» سيرة آخر سلاطين الأندلسيين في روايته «المخطوط القرمزي»، وغير ذلك.


سردية السير في قالب الرواية

أما في هذه الرواية التي بين أيدينا، فيترك «محمد حسن علوان» الروائي السعودي مضماره الذي عُرف به في كتابة الروايات الرومانسية أو تلك التي تدور حول علاقة الرجل بالمرأة في أربع روايات سابقة، لينتقل في روايته الخامسة «موتٌ صغير» إلى الرواية التاريخية التي تعتمد على سيرة أحد أئمة الحب والتصوف الكبار هو الشيخ «محيي الدين ابن عربي» الذي حفظ الناس مقولته «أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني». وعلى الرغم من أن «الحب» دينه، و«التصوف» طريقه، إلا أن «علوان» آثر أن ينقلنا إلى جانبٍ آخر في حياة ذلك الإمام وهو يحكي سيرته.

قامت الرواية على مستويين سرديين الأول يحكي تاريخ انتقال (أوراق/مخطوطة) تحكي سيرة ابن عربي منذ عام 610هـ/1212م وحتى وصولها بين أيدينا عام 1433هـ/2012م والتي تمر بأيام عصيبة في التاريخ الإسلامي، وتشهد ويشهد حاملوها الكثير من الحروب والصراعات والابتلاءات عبر ذلك التاريخ الممتد. أما المستوى الآخر فتأتي فيه سيرة ابن عربي منذ ميلاده وحتى وفاته وما مر به هو شخصيًا من صعاب وابتلاءات وصنوف المحن والسجن ورحلته الطويلة من غرب البلاد (في الأندلس حيث ولادته وشبابه) إلى شرقها (دمشق) مرورًا بالقاهرة ومكة وغيرها من حواضر العالم الإسلامي للبحث عن «أوتاده» الأربعة، حتى وافته المنية.

ولحسن الحظ فإن سيرة ابن عربي وحياته ليست صعبة التوثيق أو البحث كسير غيره من العلماء والمتصوفة، بل لقد كتب جزءًا كبيرًا منها بنفسه في كتابه الأشهر «الفتوحات المكيّة»، أو فيما جمعه المستشرقون والباحثون من سيرته، ولعل هذا الأمر يكون ذا حدين فهو من جهةٍ ييسّر على «علوان» مهمة كتابة رواية على لسان ابن عربي، بل ويجعل الأمر يبدو كما لو أنه يسردها بتفاصيلها بالفعل، ومن جهةٍ أخرى يجعل مهمته شاقة في كتابة رواية تأخذ من المصادر التاريخية موضوعها دون أن ينتقص ذلك من أدبيتها، أو يحولها إلى وثيقة تاريخية بلا روح. حالف التوفيق «علوان» إلى حدٍ بعيد، فاستطاع أن يستوعب ويهضم سيرة الشيخ الأكبر ومسيرته تمامًا، واختار لذلك أن تكون الرواية كلها بضمير المتكلم، وكأن «ابن عربي» يحكي سيرته بنفسه.

وعلى الرغم من امتلاء حياة الشيخ المتصوّف بشؤون كثيرة تتعلق بتفكير المتصوفين، وآراء ابن عربي وأفكاره، بشكل خاص تلك التي جرّت عليه المشكلات وألّبت عليه الفقهاء في كل مكانٍ بل وقادته إلى السجن في القاهرة في رحلة من رحلاته، من جهة، وما يحتوي عليه تراث ابن عربي المنقول إلينا كاملاً من كلمات وأقوال مأثورة (اقتصر ورود بعضها على أوائل فصول السيرة فحسب) وما تحويه مؤلفاته من أفكارٍ وآراءٍ في علاقة المرء بربه وبالعالم وما إلى ذلك، إلا أن ذلك كله لم يشغل «علوان» كثيرًا في سيرة ابن عربي، بل على العكس تمامًا أراد أن ينقل لنا السيرة الإنسانية لشيخ المتصوفين وإمامهم الأكبر، تلك السيرة التي حوت الكثير من الإخفاقات والمحاولات والسعي ومجاهدة النفس للوصول إلى ما يريد، في عصرٍ امتلأ بالصراعات والحروب والمشاكل السياسية التي مزّقت أوصال العالم الإسلامي وحيّرت ذوي الألباب.


«ابن عربي» وأوتاده الأربعة

محطّاتٌ عديدة في حياة ابن عربي تتغيّر فيها نفسه، وينتقل فيها بين حالات المؤمن كلها، تتملّكه الحيرة حينًا ويخضع قلبه ويرضى أحيانًا بما أفاء الله عليه من نعمه، وينتقل من مكانٍ لآخر بحثًا عن «الوتد» الذي لا يستقيم قلبه و«ولايته» إلا به. وقد ذهب المتصوفة إلى تقسيم مراتب الولاية عندهم فمنهم من قالوا إنهم يتقسمون إلى «القطب» أو«الغوث» وهو أكبر الأولياء جميعًا وهو واحد في كل زمان وتحته الأوتاد الأربعة وكل واحد منهم في ركن من أركان العالم يقوم به ويحفظه، لذلك كان لزامًا على ابن عربي حتى يحصل على مرتبة «الولاية» أن يصل إلى هؤلاء الأوتاد الأربعة، والذي نكتشف من خلال رحلته أنه لا يصل إليهم بسهولة، بل وأنهم قد يكونوا بجواره ولا يعرف أنهم أوتاده!

دارت الحياة بابن عربي واستقر به المقام أخيرًا في «مكة»، وهناك كتب كتابه الأهم والأشهر (الفتوحات المكية) وظن أن قلبه سيهدأ أخيرًا لمّا تعرّف على «نظام» ابنة شيخه «زاهر الأصفهاني» فأغرم بها، وكتب لها وعنها ديوانه الأشهر «ترجمان الأشواق» الذي بث فيه أكثر شعر الغزل المنسوب له، وأراد أن يتزوجها، ولكنه فوجئ برفضها، ليكتشف فيما بعد أنها كانت وتدًا من أوتاده ولهذا لم يكن ممكنًا أن تتزوجه!

ولعل أكثر محطات حياة ابن عربي دراميةً تلك التي انتهت بها حياته، والتي تنتهي بها «أسفار» الرواية، حيث نجد الإمام الكبير طاعنًا في السن يعمل أجيرًا في بستان، باحثُا عن قوت يومه، بعد أن ضاقت به السبل ولم يجد بدًا من العمل حتى يموت!

على هذا النحو بدت سيرة ابن عربي، سيرة إمامٍ متصوّف زاهد، ولكنه «إنسان» من لحمٍ ودم، أعطاه الله بعض العلم والفضل، ولكنه سعى في الأرض للحصول على المزيد، محاولا تطهير قلبه ما وسعه ذلك، ولقي في سبيل ذلك أذى كثيرًا فصبر وتحمّل. لم تكن «ولايته» أو «تصوفه» شفيعًا له لتذليل العقبات والصعاب، بل كانت همًا فوق همه، وأمرًا أثقل كاهله حتى وفاته، نزع «علوان» في هذه الرواية الهالة الأسطورية التي يبدو عليها المتصوفة كثيرًا من خلال ما يتناقله الناس من أقوالهم ومواقفهم، حتى يبدون كأنهم ينطقون بالوحي ويعلمون الغيب، ونجح إلى حدٍ كبير في تمثل مواقف الشيخ والتعبير عنه بشكلٍ جلي.


شاعرية «علوان» ولغته الروائية

مرّت ليالٍ لم أنم فيها كما يجب، مريم تنام وتصحو وتراقبني بأسى، تقبض على يدي وتضمها لعلي أرتاح وأسكن، لو مسّ «الغوث» أذىً من الخليفة فسأكون شر مريدٍ في الأرض، ولن يمنحني الله ولايةً ولا نجابةً ولا قطابة، وسيفّر منّي أوتادي فرار الظباء من الوحوش، أنا عدو أولياء الله الصالحين الذي يزج بهم في السجون ويطوّح بهم في المنافي، ولا تلبث العدالة الإلهية أن تقتص من الشّر المتمثّل فيَّ فتهيئ لي سجنًا ضيقًا أو منفى بعيدًا، يا إلهي، إن لم يحل «بالغوث» أذى فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي.

ربما لا تكون لغة الرواية وما فيها من صبغة «شاعرية» صوفية أمرًا جديدًا على «محمد حسن علوان»، فهو شاعرٌ في الأصل، ويمتلك ناصية اللغة ويعبّر بها بشكل جيد كما فعل في رواياته السابقة، وجاءت لغته هذه المرة منسابة شديدة العذوبة متلائمة مع حالة التصوف، دون أن يغرق في تفاصيل الأقوال والعبارات الصوفية، كما تمكن بشكل بالغ من التعبير عن لغة العصر ومفرداته الخاصة سواء في المأكولات التي يأكلونها أو الدواب التي يمشون عليها بأسمائها الغريبة التي قد تغيب معانيها عن القارئ اليوم، ولكنه في الوقت نفسه يضع القارئ في لغة ذلك العصر ومفرداته ويعبّر عنها باحتراف.

لم يكتفِ «علوان» بعرض سيرة ابن عربي وحياته، بل حمل المستوى الآخر من السرد لقطات مكثّفة وذكية لرحلة مأساوية أخرى انتقلت فيها المخطوطة من «أذربيجان» عام 610هـ حتى استقرت في بيروت عام 2012م في الأجزاء التي عنونها بـ«المخطوط» وزمانه ومكانه، واختار لكل مرحلة من مراحلها إحدى المصائب أو الكوارث التي مني بها العالم الإسلامي في تلك البقعة التي كان «المخطوط» فيها، حتى يضطر المحتفظ به أن ينقله على مكانٍ آخر، وحتى تصل إلى أيدينا في النهاية، في رحلةٍ طافت أماكن مختلفة وحروب وويلات متعددة بعد وفاة صاحب المخطوط أصلاً!

هكذا جاءت هذه الرواية التي تجاوزت عدد صفحاتها 500 صفحة، حاملةً معها جزءًا كبيرًا من رحلة وحياة الشيخ الأكبر ابن عربي، تاركة للقارئ فرصة أخرى للنبش في ذلك التراث العظيم الثري، واكتشاف ذلك الرجل وعالمه وتفاصيله في كتبه ومؤلفاته الجليلة التي بقيت شاهدةً على غزارة علمه ورفعة قدره، وعلى حال الناس وتقلب الأحوال من جهة أخرى.

ويبقى أن نذكر أن الرواية تعد نقلةً نوعية في كتابة «محمد حسن علوان» الروائية، ومغامرة ثرية استطاع أن يخوضها باقتدار، وأن يعبّر عنها ببراعة، ولا أشك أنها ستحتل قريبًا مكانًا بارزًا في الرواية العربية.