ربما يروج للفيلم البولاندي «Ida» الحائز علي جائزة الأوسكار لأفضل فيلم غير ناطق بالإنجليزية عام 2015، والمركز 55 في قائمة «BBC» لأفضل مائة فيلم في القرن الحالي، علي أنه فيلم يتحدث عن مأساة «الهولوكست» ومعاناة اليهود ومحاولة إبادتهم، في عرض لتلك المعاناة بعد انتهاء الحرب ببضعة سنوات، على الطريقة «الهوليودية»، ولكنه في الحقيقة ليس كذلك، فالإشارات التي وضعت في الفيلم لا تؤكد سوي أن مأساة «الهولوكوست» لم تكن سوى مدخل لفلسفة أراد المخرج «باول باوليكوسكي» التعبير عنها، وهي عدم مركزية الإنسان في الكون ومعاناته في ظل عالم مرعب بلا هدف. ينتمي الفيلم أكثر لعالم أفكار ما بعد الحروب الكبرى في العصر الحديث، حيث يفقد الإنسان شعوره بذاته وبأهمية تواجده وبضآلته أمام الطبيعة.

تخرج الفتاة في زيارة قصيرة للعالم الخارجي كانت كفيلة بتغير نظرتها للحياة، وعلمها بشيء جديد عليها يسمي «الاختيار»

عالم تسيطر عليه المادية الحداثية نراه بعيون الفتاة «إيدا» التي ظلت طوال حياتها في الدير لا تعلم شيء عن الخارج، تخبرها الراهبة الكبري بوجوب مقابلة خالتها «فيندا» قبل أن يتم تنصيبها رسميا كراهبة. تتخلي عن كل شيء حتي الموت، حيث وجدوا خالتها بصعوبة، ولم تجيب علي رسائلهم الكثيرة إلا مؤخرا، فتخرج الفتاة في زيارة قصيرة للعالم الخارجي كانت كفيلة بتغير نظرتها للحياة، وعلمها بشيء جديد عليها يسمي «الاختيار»، وعلمها كذلك بما هو أكثر فجاعة؛ أن الاختيار ذاته لن يؤدي لنتائج مختلفة عن عدم الاختيار.

الخالة «فيندا» هي أول من قابلته «إيدا» خارج الدير، وهي أول من أخبرتها بأنها يهودية وتم وضعها في الدير لحمايتها وأسمها الحقيقي هو إيدا (اسمها في الدير آنا)، وكما لاحظت إيدا تدخل خالتها في الكثير من العلاقات الجنسية السريعة التي لا تستمر سوي لبضعة أيام، كثيرة التدخين والسكر، إنها النموذج المقابل لإيدا، الإنسان المثقل بفجائع الحروب الذي شهدها وأدركها وعانى منها، تصف نفسها بأنها كانت قاضية وتحكم علي بعض الأشخاص بالموت، ووُصِفت عند دفنها بالمرأة المناضلة التي حاربت النازيين ودافعت عن حق اليهود في الحياة، ومن هنا نستطيع فهم شخصية «فيندا» التي أرهقتها الحياة وبعدت عن كل شيء سوي المجون لمحاولة إخفاء وجيعتها من العالم.

وبعودة «إيدا» عادت كل هذه الأهوال من جديد لذاكرتها، لقد تذكرت فيندا والدة إيدا ورفقها بالحيوانات وجمالها، وتذكرت ابنها الذي ما أن رأت بقايا جثته حتي أصبحت الحياة غير محتملة بالنسبة لها، وقد قال لها «سيذمون» ابن جارهم عن السبب وراء عدم إخفائهم لابنها كما أخفو إيدا في الدير، بأنه كان أسود اللون ومختون. أحبتها فيندا وأرادت أن لا تتوقف حياتها في الدير، كانت إيدا هي الأمل الوحيد لها للبقاء في هذا العالم، ولذلك عندما عادت إيدا للدير بعدما أدت الصلاة علي أهلها، ودفنت بقاياهم في مقابر اليهود بعد أن كانوا مدفونين في الغابة، لم تجد بُدََّا من الانتحار، وطويت للأبد صفحة «فيندا» المناضلة سابقا والعابثة حاضراً.

أول مشاهد إيدا في المدينة وهي في الحافلة، تنظر للعالم بنظرة بريئة منبهرة خائفة، الدير هو المكان المطمئن لها

إيدا فتاة جميلة بريئة صافية صفاء الدير الذي هو عالمها، لم تكن تعرف بوجود العالم الخارجي، أول مشاهد إيدا في المدينة وهي في الحافلة، تنظر للعالم بنظرة بريئة منبهرة خائفة، الدير هو المكان المطمئن لها، والقسم هو الذي سيمنحها البقاء الأبدي في الدير، الذي من أجله خرجت للزيارة الأولي والأخيرة للعالم الخارجي، ولكنها تكتشف أنها تربت علي دين ليس دينها، جميع قومها قتلوا في أحد أشهر المجازر الحديثة، لم يبق لها سوى خالتها العابثة، قررت الصلاة علي جثامين أهلها فأخبرتها خالتها بأنه لا وجود لجثث اليهود، قد يدفنون في الغابات أو الأنهار، وهذه من نتائج الحرب التي لم تسمح بدفن اليهود في مقابر طبيعية، ولكنها قررت اتباع أثر الجثامين مع خالتها.

مع مرور الأحداث تكتشف إيدا بؤس العالم وضعف خالتها، لا تعلم هل تغضب من مجونها أم ترفق بها، وفي ذات الوقت تفكر في كلام خالتها عن حياتها المهدرة في الدير والله الغائب الذي لا يحمي العالم من الشرور. تتعرف إيدا علي «ليز» صدفة ككل شيء يحدث لها، هي رأته يعزف مع فرقته في بهو مكان إقامتها، لأول مرة تختبر إيدا مشاعرها وتختبر رغباتها الجنسية الخفية، يزداد تعلقها بالعالم ولكنها في نفس الوقت لم تمتلك الشجاعة لمغادرة الدير، وبعد تبادل الحديث مع ليز وفي آخر لقاء بينهما، تمد إيدا يدها لتسلم عليه، وتقف بحياد أقرب للترحيب وهو يقترب منها ليقبلها علي خدها.

تعود للدير مرة أخري ولكنها لم تتحمله، ربما حملت إيدا مشاعر الاستهزاء من حياة الدير ومن الانعزال عن مصائب العالم وجماله ورغباته، تضحك في مائدة الغذاء وترفض إلقاء القسم، وتعود للحياة خارج الدير مرة أخري بعد انتحار خالتها، وترتدي ملابسها الجديدة وكعبها العالي، تحاول الرقص مع ليز وهي لا تعرف كيف ترقص، مشهد بديع يجمع بين براءة إيدا ورغبتها في التعلق بالحياة والحب.

أما عن فلسفة وتقنيات «باولكوسكي» الإخراجية في هذا الفيلم، فقد اعتمد علي الصورة الأبيض والأسود الكلاسيكية وهو اختيار موفق، حيث تعطي جمالية للمشاهد تشبه جمال إيدا وبراءتها ومعرفتها المحدودة عن نفسها وعن الحياة، كل مشاهد الفيلم جميلة وكلها لا تعطي معلومات عن تفاصيل المشاهد سوي بالأبيض والأسود وهذا يحجب الرؤية الكاملة ويكون حائل أمام إدراك بعض التفاصيل، وبالتالي تقف صورة الفيلم حائل أمام المشاهد، فالفيلم غاياته مبهمة كألوان صورته، يتحداك باولكوسكي في أحد المشاهد علي لسان فيندا، حيث تقول خالتها أن «شعرها الجميل ذو لون أحمر»، جملة حوارية لن تستطيع رؤيتها أو التحقق منها أطلاقا، ولكن مع ذلك تخصص الخالة لون شعر إيدا فقط لوصف جمالها، عبارة عبثية متحدية حيث لن يتسني للمشاهد رؤية شعر إيدا أبدا.

من فيلم Ida
من فيلم Ida

في أغلب الدروس الخاصة بالتصوير السينمائي يتم التركيز علي ضرورة تقسيم الشاشة لتسع مربعات أو مستطيلات متساوية حسب أبعاد الشاشة التي يقررها المخرج والمصور، الجزء الذي يريد المخرج التركيز عليه يجب أن يكون في المربع الأوسط، وبنسبة كبيرة يكون الإنسان هو مركز الصورة، والإنسان يجب أن يظهر وجهه كله أو أغلبه في المربع الأوسط (الثاني في العمود الثاني والصف الثاني)، وللاستطراد نقول أن وجوب وضع صورة الإنسان في المربع الأوسط نابعه من رؤية الإنسان المركزية لذاته دائما حيث لا يري الإنسان نفسه سوي مركزا للكون، ومخلوق الله المفضل.

أما في إيدا فأغلب المشاهد مصورة من مساحة بعيدة ذات كادرات متسعة خاصة المشاهد الخارجية وسط الطبيعة، وتتواجد إيدا (شخصية الفيلم الأساسية) في المربع الأكثر تطرفا والأقل أهمية ومركزية (الثالث في العمود الأول والأول في الصف الأخير)، أو المربع الأقل أهمية بقليل من المربع المركزي (الثالث في العمود الثاني والثاني في الصف الأخير)، الكاميرا ثابته وبعيدة وهادئة لا تتفاعل مع الأحداث، مرة أخري تظهر فلسفة ما بعد الحداثة في طريقة تصوير الفيلم، حيث يفقد الإنسان مركزيته ويكون هو الجزء الأقل أهمية أمام الطبيعة وبالطبع في المربع الأقل أهمية من الصورة.

المشهد الأكثر دلالة هو مشهد انتحار «فيندا»، حيث يبدأ المشهد بالكاميرا في تصور الغرفة وهي ثابته لامبالية تركيزها علي نافذة الغرفة فقط، تأتي فيندا من خارج المشهد ناحية اليسار لتفتح النافذة، تقوم بتشغيل إحدى سيمفونيات «بيتهوفن» ثم تنتقل لأقصى اليمين وتختفي عن الكاميرا تماما المنشغلة بتصوير النافذة وليس الحالة الشعورية لإمرأة مقدمة على الانتحار، ثم تظهر فيندا وتلقي نفسها بهدوء وثبات من النافذة، لا تهتم الكاميرا بهذا الحدث ويظل المشهد مستمر لبضعة ثواني وأنت تستمع لموسيقي بيتهوفن وتشاهد النافذة.

سنذهب في رحلة. وماذا بعد؟ سنتزوج. وماذا بعد؟ سنربي كلبا وننجب أطفالا. وماذا بعد؟
اممممم مثلما يحدث في الحياة.

هذا الحوار الذي جمع بين «ليز» و«إيدا» بعد ممارستهم للجنس وفقدها عذريتها، سألته عن مستقبلهم معا وظلت تسأل «ماذا بعد؟» إلي أن علمت أن كل الطرق بلا هدف وبلا معني، عودتها للدير مثل زواجها، كلاهما بلا هدف، ولذلك اختارت الرحيل والعودة للدير، حيث يظل الاختيار الآمن والمعروف لديها، عكس هذا الاختيار الذي تتعلم خطواته لأول مرة، كذلك فأن الدير مرادف لحالة اللاهدف حيث جميع الأيام متشابهة لا شيء جديد ولا انتظار سوي للموت، هكذا عادت إيدا للدير محملة بأفكارها الجديدة مشتتة متوترة، وكان المشهد الأخير هو المشهد الأول الذي يستخدم فيه الكاميرا المهزوزة التي تتحرك بحركة إيدا، للتعبير عن حالة إيدا الشعورية وتوترها، وهكذا انتهت رحلتنا مع رحلة إيدا القصيرة في الحياة التي بلا معني.


بعيدا عن هوليود

«بعيدا عن هوليود» هي سلسلة من المقالات نتناول فيها السينما العالمية غير الأمريكية، نركز فيها علي العناصر الفنية المختلفة التي تميز صناعة السينما خارج استوديوهات هوليود العملاقة، نتناول فيها حالات فنية متفردة، وتجارب إخراجية وثقافية مغايرة.