يسأل سائل:

لو كان الدين يقينيا، ووجود الله قطعيا كما يزعم المؤمنون بكل دين.. فلماذا لم يؤمن كثير من الناس؟ بل.. لماذا لم يؤمن كثير من العلماء الكبار الذين أضاؤوا العالم بعلومهم؟ المسلمون يدّعون أن دينهم الحق، مع أن أكثر أهل الأرض وأشدهم علما وحضارة لم يتبعوا هذا الحق. أفيكون الحق قد ظهر لفلاح في شرق آسيا أو بدوي في صحراء أفريقيا ، وغاب عن ستيفن هوكينج وغيره من كبار العلماء الذين أثروا العالم بعقولهم؟

نقول:

يحكون في الأدب الجاهلي، أن رجلا يسمّى (بشرَ بن عوانة العبدي) كان يحب ابنة عمه فاطمة، وكانت فاطمةُ آية في الجمال. فذهب ليخطبها فأبى عمه (أبو فاطمة) أن يزوجها له، فجُنّ بشرٌ وأخذ يغير على حي فاطمة، ويؤذيهم، ويسبب لهم المشكلات مرة بعد مرة. حتى اجتمع رجال الحي على أبي فاطمة وقالوا له: (كُفّ عنّا هذا المجنون وزوّجه ابنتك)، فقال: (لا تلبسوني عارا، ولكن انتظروا.. فسأحتال عليه حيلة). وذهب أبو فاطمة إلى بشر وقال له: (إني أقسمت ألا أزوج ابنتي إلا ممن يدفع لها ألف ناقةٍ مهرا، وأن تكون هذه النوق من منطقة تسمى خُزاعة. فإن أردت زواج فاطمة، فاذهب إلى خزاعة، واشتر لها ألف ناقة وتعالَ أزوّجك إياها). وكان في طريقه إلى خزاعة منطقة فيها أسود وثعابين، لا يعبرها إنسان حتى يموت.

كان أمام بشر تحديات كثيرة لكي يصل إلى فاطمة، كلما اجتاز واحدا منها ظهر له آخر، فكان عليه أن يجمع المال، وأن يسافر في الطريق الوعر المخيف، وأن يحارب الأسود، وينجو من الثعابين، ويقاتل الأعداء، وأن يمر بتحديات عديدة تحكيها لنا حكايته، حتى يصل إلى مبتغاه. فليست فاطمة لشرفها قريبة المنال، تماما ككل شيء نفيس.

يمكن لمن أراد أن يقرأ حكاية بشر وأشعاره أن يرجع إلى كتاب (مقامات بديع الزمان الهمذاني).

نعود للسؤال..

نعم. نحن ندعي أن دين الإسلام هو الدين الحق، وأنه مؤيد بالأدلة التي سنفرد لها مقالات بإذن الله، ولكننا مع ذلك نقول أن من يعتقد أن مجرد كون الشيء حقا مؤيدا بالدليل كاف لكي يلتزم به كل إنسان.. فإنه ينظر نظرة قاصرة سطحية للظاهرة الإنسانية المعقدة.

الإنسان كائن معقد مركب، حواسه متعددة، وأفكاره متقلبة، ومشاعره عميقة. وهذا العالم –عالم الإنسان- من أكثر العوالم غموضا، وغالبا ما ينازعه في المسألة الواحدة نوازع كثيرة. يقول الشاعر:

دواؤك فيكَ وما تشعُرُ ** وداؤكَ منكَ وما تُبصرُ

وتزعمُ أنك جِرمٌ صغير ** وفيك انطوى العالمُ الأكبرُ

فحينما نتوجه بالنظر والبحث إلى ظاهرة إنسانية كقبول أو رفض فكرة دينية معينة.. ينبغي أن نبحث الأمر من جوانبه المختلفة التي تناسب تعقد تلك الظاهرة الإنسانية.

نعم.. نحن ندعي أن الإنسان إذا نظر في الكون، ورتب في ذهنه مقدمات معينة فإنه يصل لا محالة إلى معرفة وجود الله وبعض صفاته كما سنذكر لاحقا في مقالة الدليل على وجود الله، ويمكنه كذلك أن يستدل على صحة دين الإسلام وأن سيدنا محمدا رسول من الله صدقا وحقا كما سنذكر كذلك في مقال دلائل النبوة. فنحن ندعي أن ديننا – دين الإسلام – مؤيد بالأدلة التي يمكن لكل من تأملها أن يصل لحقيقة مفادها أن الإسلام هو الدين الحق الخاتم. لكن وجود هذا الدليل ليس معناه أن يؤمن كل الناس، فهناك موانع يمكن أن تمنع الناس – الأذكياء منهم، ومتوسطي الذكاء – عن قبول الحق، والخضوع له.

ونحن الآن سوف نستلهم حكاية بشر بن عوانة في سعيه نحو فاطمة، وما لقي في سبيل ذلك من الأهوال، ونقوم برحلة يسير فيها إنسان نحو الحقيقة، نُبيّن فيها بعض ما قد يعترض طريق الإنسان من العقبات من أول سعيه حتى يبلغ منتهاه مما قد يمنعه من الوصول إلى تلك الحقيقة.

العقبة الأولى: الجهل:

فأول ما يواجه الإنسان في سبيل الإيمان بدين كالإسلام، أو الخضوع لأي حقيقة من الحقائق، ألا يكون قد سمع بها أصلا. هناك كثير من البشر الذين يعيشون في المناطق النائية لم يسمعوا أن هناك دينا يسمى الإسلام أصلا، فلا سبيل لديهم إلى الإيمان به. وهؤلاء معذورون في عدم الإيمان، نحسبهم إن شاء الله من أهل النجاة يوم القيامة؛ لأن الدعوة لم تبلغهم، والله عز وجل يقول: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً).وقد يمنع الكثيرَ من الناس الجهلُ بذلك الحق، فلو عُلِّموه، وفهموه بمقدماته الصحيحة ، وتفكروا فيه .. فلربما قبلوه!

فلو تجاوز الإنسان العقبة الأولى، ووصلته دعوة الحق، وجد نفسه أمام العقبة الثانية.

العقبة الثانية: الإعراض عن السماع:

فإذا انتقل الإنسان خطوة، فإنه ربما يسمع أن ثمة دينا يسمى الإسلام، يدعي أصحابه أنه الدين الخاتم الحق ، وأنه مؤيد بالأدلة، وأنه يجب على الناس الإيمان به للنجاة في حياة أخرى يحاسب الإله الذي خلق الكون فيها الخلائق. ولكن هذا الإنسان قد يرفض أن يسمع شيئا عن تلك الدعوة، كما يحكي القرآن عن بعض هؤلاء: (وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّىٰ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا). فهناك موانع تمنع الإنسان من سماع الأفكار، فهذه عقبة تمنعه من الوصول إلى الحقيقة. يقول تعالى: (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ ۖ فَهُمْ مُعْرِضُونَ).

ولكننا نسأل أنفسنا: ما الذي يمنع الإنسان من السماع ثم يفكر بعقله بعد ذلك في الكلام أيقبله أم يرفضه؟

الحق أن موانع السماع كثيرة، منها:

  • الجمود: فالإنسان قد يمنعه عن سماع الحق جموده على ما عنده من أفكار، تربى عليها ونشأ، حتى شكلت وجدانه وعقله ونفسيه، فيرفض أن يسمع غيرها؛ لأن فطام النفس عما تربت عليه وتعودته أمر صعب، يحتاج إلى تجرد من الهوى، وهذا أمر شاق على الإنسان، يحتاج إلى نفس زكية متجردة.

ويحدثنا القرآن عن هذا العيب: (وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ).

فقد يمنع الإنسان من السماع اعتقاده بأنه على صواب، من غير تفكير في احتمالية أن يكون على غير هدى، ومن غير مراجعة للأدلة التي بنى عليها أفكاره ومعتقداته، أهي أمور قطعية أم هي أوهام اعتقدها حقا وصوابا رغم أنها ضعيفة متهاوية؟ فلا يعطي نفسه فرصة لسماع الآخر، ويعرض عنه.. فيؤدي ذلك إلى بعده عن الحق. وهذا أمر مشاهد معلوم في كل المعارف الانسانية، فرفض الكنيسة لكلام جاليليو مثلا كان من باب الجمود هذا، بل وتأخر قبول كثير من العلماء في كل المجالات لنظريات علمية كثيرة كان من باب الركون للقديم.

  • الإعجاب بالنفس: وقد يمنع الإنسان من السماع إعجابه بنفسه ورأيه، فيستبعد أن يكون الصواب على خلاف رأيه، فلا يسمع لأحد غير نفسه!.

يقول: (كيف يفوتني الحق؟! كيف لا يكون رأيي- وأنا العالم الكبير- هو الصواب؟). فيرفض السماع لما يتلى عليه من الأدلة والبراهين، ويجحدها، ويشغّب عليها، ويلف ويدور، وهو في قرارة نفسه لو استمع لصوت ضميره لعلم أنه إنما يجحد هذا الحق لا لشيء إلا لأنه خلاف رأيه. فما أكثر ما يذهب الإعجاب بالنفس بعقول الرجال، ويصدهم عن كل خير وحق ظهر على لسان غيرهم!

يحدثنا القرآن عن هذا العيب: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ) (الأحقاف: 11) أي لو كان هذا خيرا لما سبقنا إليه بلال الحبشي وصهيب الرومي وغيرهم من الضعفاء والعبيد، ويقول: (وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءنَا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْ عُتُوّاً كَبِيراً) (الفرقان: 21)

  • الكسل: وبعض الناس يكسل عن التفهم والسماع، فما إذا وجد أدلة وحجاجا، ونقاشات وبراهين، وأخذا وردّا، نفرت نفسه عن سماع الكلام فضلا عن فهمه، واختار الدعة والسهولة في البقاء على ما هو عليه.

فإذا تجاوز الإنسان الجمود والإعجاب بالرأي والكسل وغيرها من الموانع، وقرر أن يستمع، فإنه يواجه العقبة الثالثة.

العقبة الثالثة: التعميم والأحكام المُسبقة:

قد يسمع الإنسان وهو يحمل في عقله حكما تعميميا مسبقا يشوش عليه فهم الكلام. فقد ينشأ الإنسان على دين يخالف العقل والبديهة، أو على فهم من أفهام الدين يلزم عليه إشكالات عقلية كثيرة، فيأخذ موقفا نفسيا من كل من يتكلم في هذه المسائل الدينية، من غير تفريق بين من يقول كلاما متهافتا ساقطا، وبين من يقول كلاما قويا محكما مستحقا للتأمل والنظر.

فإذا خلا الإنسان من التعميم والأحكام المسبقة، انتقل في رحلته إلى العقبة الرابعة.

العقبة الرابعة: التصورات المشوهة والأدلة الضعيفة:

ربما يقرر الإنسان السماع، فيقع فيمن يقيم له تصورات مشوهة واستدلالات ضعيفة، فينصرف عن هذا الحق المموه بالباطل أو المستند إلى ضعيف الأدلة.

أذكر مرة أنني سمعت من يسأل أحد الناس: (ما الدليل على أن الله موجود؟)، فأجاب: (الدليل هو قوله تعالى: (فاعلم أنه لا إله إلا الله))!! فهذا الرجل يستدل على وجود الله بآية في القرآن، والتسليم بالقرآن في الأصل متوقف على إثبات أنه كتاب من عند الله. وهذه مغالطة منطقية شهيرة تسمى الدَورCircular reasoning.

فكثيرا ما يكون من أسباب التشويش أن يتكلم من يجهل في المواضيع فيكون صادا لطالبي الحق عن الحق بما أساء فيه من جهله بالموضوع، وعرضه لتصورات شخصية مخالفة للعقل على أنها هي الدين، وتهافت أدلته، وسوء عرض الصحيح منها.

فكثيرا ما يعرض المسلمون دينهم على غير المسلمين على هذا النحو فيؤدي ذلك إلى انصراف الناس عن الدين لضعف ما يقدّم لهم من أدلة وتصورات ملتصقة به.

فإذا قرر الإنسان السماع، بغير أحكام مسبقة، ووصله كلام صحيح، وجد نفسه أمام عقبات أخرى.

العقبة الخامسة: تصور أن العقائد الدينية بديهية:

ربما يظن الإنسان أن الدين لابد أن يكون بدهيا، فيزهد في الاستدلال والبحث، والحق على خلاف ذلك. فالعقائد الدينية يقينية، ولكنها في نفس الوقت نظرية استدلالية، وليست بديهية. فما معنى هذا الكلام؟

ينبغي أن نفرّق هنا بين: الأمر البدهي من جهة، وبين الأمر اليقيني من جهة أخرى.

فما معنى كون الشيء بديهيا؟

معناه أن يجزم به العقل دون تأمل ونظر واستدلال وتباحث.

ومقابله يسمّى نظريا: وهو الشيء الذي يحتاج في إثباته إلى نظر واستدلال وتباحث قد يستغرق أياما، وربما أشهرا، وربما سنوات لكي يثبته الإنسان.

وما معنى كون الشيء يقينيا؟

أي يجزم به العقل بنسبة 100%.

واليقين مرتبة من مراتب الإدراك.

وهناك مراتب أخرى كالظن (الذي هو التأكد من الشيء بنسة من 51% إلى 99%)

والشك (الذي هو مساواة الطرفين 50%/50%)

والوهم (وهو الظن الضعيف 1- 49%) وهكذا.

فقد يكون الشيء يقينيا وبدهيا:

مثال ذلك: قولي لك: (الواحد نصف الإثنين).

هذا يقيني لأنك متأكد منه بنسبة 100%، وبديهي لأنك لا تحتاج إلى التفكير في إثباته.

وقد يكون الشيء يقينيا ونظريا: مثال ذلك: لو قلت لك: احسبa وb وc بحيث يكون:

a3+b3+c3=30

فهذه مسألة عويصة جدا، تحتاج إلى بحث وحساب طويل، وإن كانت مبنية في النهاية على قاعدة الجمع والطرح البسيطة (1+1=2)، ويمكن أن تصل فيها إلى حساب يقيني قطعي، لكنه نظري استدلالي يتوقف على الحساب.

ونحن لا نقول أن الاستدلال على العقائد الدينية بهذه الصعوبة، ولكنه ليس بديهيا كــ(1+1=2)، وإلا لو كان بديهيا لما أمكن لأحد أن ينكره، فهو يحتاج إلى بعض الاستدلال، ويمكن للإنسان أن يصل بعده إلى نتيجة يقينية.

فنحن لا ندّعي أن العقائد الدينية بدهية حتى يعرفها كل إنسان، بل هي نظرية. أي متوقّقة على النظر، والبحث، والتأمل. ولكن كونها نظرية تحتاج إلى بحث وتأمل لا ينافي إمكان أن يصل الإنسان إلى يقين بعدها. بل إن الوصول إلى هذا اليقين ممكن ، ومتحقق، وهو المطلوب من المؤمن.

فالدين مشابه لقولنا (1+1=2) من وجه ومخالف له من وجه. فهو مشابه له من جهة أنه يمكن العلم به بشكل يقيني وجازم، ومخالف له من جهة أن (1+1=2) لا تتوقف على كثير نظر واستدلال، بل يعرفها الإنسان بالبداهة. أما العقائد الدينية في الإلهيات والنبوات فهي متوقفة على النظر والاستدلال والتأمل.

فإذا عرف الإنسان هذا وأراد أن يسمع الأدلة، واجهته العقبة السادسة!

العقبة السادسة: وهم الإنسان يغلب عقله أحيانا:

نحن نتكلم عن مسائل دينية، أساسها هو وجود الله سبحانه وتعالى، والله عز وجل –كما سنتناول صفاته في مقالات قادمة- هو ذات ليست بجسم، منزّه ومتعال عن الزمان والمكان، ليس كمثله شيء. والطريق الذي يوصل إلى معرفة وجوده وصفاته هو التأمل في الكون المحسوس للاستدلال به عن طريق العقل للوصول إلى خالقه سبحانه وتعالى.

فالتعرف على الله عز وجل هي رحلة تبدأ من الكون المحسوس المشاهد لتنتقل إلى الخالق الذي احتجب عن الأبصار، وإنما تستدل عليه العقول والبصائر. وهنا يواجه الباحث المستدل على وجود الله مشكلة فكرية كبيرة.. وهي الوقوع في أسر المحسوس، وعدم تحرير العقل من قيود المعتاد، فيحصل الخطأ المشهور وهو أن يقيس الإنسان غير المحسوس على المحسوس.

تأمل معي في هذا المثال:

لو قلت لك: (هناك شيء موجود في هذا العالم لكنه ليس جسما) فإنك ربما لا تستطيع أن تتخيل هذا الشيء الذي هو موجود وفي نفس الوقت لا يأخذ حيزا من الفراغ. فيتسرع بعض الناس إلى القول باستحالته. مع أن العقل لا يمنع من ذلك أبدا. فإنه لا يوجد أي تناقض عقلي في أن يكون هناك شيء موجود وليس بجسم.

فما الذي دفع الإنسان إلى رفض هذه الفكرة؟

إنه غلبة الوهم على عقله، فيقيس ما لم يشاهده ويراه على ما يشاهده ويراه. فيحمله وهمه على أن يقول:

(طالما أنني لا أرى إلا جسما أو شيئا قائما بالجسم، فإنه يستحيل أن يوجد شيء ليس جسما ولا قائما بالجسم).

وهذه مغالطة منطقية، لأن عدم رؤيتك لشيء ما لا يستلزم استحالة وجوده. فأنت لم تر – مثلا – فيلا أحمر اللون، ولكن هذا لا يستلزم (اســـتـــــحــــالة) وجود فيل أحمر اللون.

ومن ذلك مثلا.. خطأ مشهور يقع في باب الإلهيات. وهو أننا حينما نستدل على اعتقاد المسلمين بأن الله خلق العالم من العدم، فإن بعض الناس يسارعون إلى عدم قبول هذه الفكرة؛ لأنه لا يوجد في دائرة المحسوس المشاهد فعل إلا ويقع على مادة خام فيحوّلها من صورة إلى صورة. أما العدم المحض فهو شيء لا نعرفه ولم نره (بل هو لا يُرى أصلا؛ لأن العدم هو لا شيء البتة)، فيسيطر الوهم على الإنسان ويقول:

(لم نر أبدا تكوينا إلا ويبدأ من مادة خام. وأي فاعل لابد أن يقع فعله على شيء ما) وهذا وهم منه، لأن القاعدة العقلية تقول: عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود – An absence of evidence is not an evidence of absence ، أي أن عدم تمكني من العثور على دليل على شيء ما ليس في نفسه دليلا على عدم وجود الشيء، وكذلك عدم تمكني من العثور على دليل مادي أو مثال مشاهد لشيء ما ليس دليلا على استحالة وجوده، فضلا عن استحالة إمكانه عقلا، وإنما يكون الدليل على استحالته: أن يترتب على وجوده تناقض عقلي.

فبسبب أن الوهم يؤثر على العقل في نظراته، وأن الباطل يشابه الحق في صورة الحجج والأدلة، يحصل بين الناس مخالفات وتصادمات في البحث في باب الإلهيات والأمور المجردة.

ومما يقوي النزوع إلى هذا الخطأ – وهو التباس الوهم بالأحكام العقلية – أن الإنسان في أول نشأته يتعامل مع المحسوسات، وإنما يتكامل إدراكه العقلي بعد ذلك. ففطام النفس عن التعلق بدائرة المحسوس والبحث في الأمور المجردة عن المادة ليس سهلا.

فإن المتبادر إلى أذهان بعض الناس بسبب غلبة الوهم –مثلا- أنهم إذا رأوا الشمس صغيرة في أعينهم فإنهم يحسبونها صغيرة في الواقع، ولا يتصور أحدهم – قبل البحث والاستدلال الفلكي- أن الشمس من حيث المقدار(volume) أكبر من الأرض 1,300,000 مرة!!

فالخلاصة أن من أهم ما ينشأ بسببه الخطأ في باب الإلهيات: أنه بَحثٌ عن أمور غائبة عن الحس يـُـستدل عليها بالعقل، وأن الوهم يغلب على العقل كثيرا فيقيس ما لم يره على ما رآه، ويقطع باستحالة وجود أشياء لأنه فقط لم يرها. وفطام النفس عن هذا صعب، والنظر العقلي يحتاج إلى شيء من الدقة.

والحيلة التي ينتهجها الإنسان هنا هو أنه يأخذ أمورا صحيحة ثابتة في دائرة المشاهد المحسوس، لها تمكنُها في النفس، فيقول أن وجود أي شيء غيرها مستحيل. فإذا تخلص الإنسان من أسر المشاهد وجرد عقله من غلبة المحسوسات عليه، وبدأ ينظر في الأدلة، واجهته عقبة جديدة.

العقبة السابعة: الخلط بين البرهاني اليقيني وبين الخطابي والظنّي:

إن أي عملية استدلال يحصل فيها الانتقال من مقدمات للوصول إلى نتائج. وإنما تصح النتيجة بشرطين اثنين:

  1. أن تكون المقدمات صحيحة
  2. وأن تكون عملية الانتقال من المقدمات إلى النتائج صحيحة. فانظر معي في هذه الأمثلة لتدرك المقصود:

– لو قلت لك: (كل إنسان سيموت يوما ما، ومحمود إنسان. إذن: محمود سيموت يوما ما). فهذه محاولة استدلال صحيحة لأن مقدماتها صحيحة، ولأن عملية الانتقال من المقدمات إلى النتائج صحيحة

– ولو قلت لك: (كل إنسان أخضر اللون، ومحمود إنسان. إذن: محمود أخضر اللون). فهذه محاولة فاسدة للاستدلال مع أن عملية الانتقال من المقدمات إلى النتائج صحيحة.

فما مكمن الخطأ إذن؟ .. إنه في المقدمة الأولى التي تقول: (كل إنسان أخضر اللون) فإنها مقدمة خاطئة فأفضت إلى نتيجة خاطئة.

  • ولو قلت لك: (محمود يشرب اللبن، والقطة تشرب اللبن. إذن: محمود قطة). فهذه محاولة فاسدة للاستدلال مع أن كل مقدمة من المقدمتين صحيحة (فمحمود بالفعل يشرب اللبن، والقطة بالفعل تشرب اللبن).

فما مكمن الخطأ إذن؟

إن مكمن الخطأ في عملية انتقال الذهن من المقدمات إلى النتائج، فإن هذه المقدمات – وإن كانت صحيحة – فإنها لا تُفضي إلى هذه النتائج.

فإذا فهمت ذلك، تبين لك أن نتيجة أي عملية استدلالية مبنية على صحة المقدمات وقوتها.

فمن أهم مثارات الخطأ في الاستدلال عموما، والاستدلال على باب الإلهيات خصوصا، هو الخلط بين المقدمات اليقينية والظنية.

فالمقدمات اليقينية هي إما مقدمات بديهية قطعية ، أو ترجع في النهاية إلى البديهيات القطعية ، ولا يستطيع الإنسان أن يقنع نفسه بخلافها كقولنا:

(الجزء أصغر من الكل)، و(الأشياء المساوية لشيء واحد متساوية فيما بينها)، و(الواحد نصف الإثنين) ، و( النقيضان لا يجتمعان )، و ما بني على نحو هذا بناء صحيحا حتى وصلنا له.

أما المقدمات التي ليست بديهية، ولا ترجع في النهاية إلى أمر بديهي ، وتلك التي يتشكك الإنسان في ثبوتها أو عدم ثبوتها فهي ليست يقينية، بل ظنية.

فمن أسباب الخطأ في البحث في الإلهيات أن يخلط الإنسان فيحسب أن المقدمات الظنية يقينية لا يمكن خطؤها، أو أن يحسب أن المقدمات اليقينية ظنية يجوز خطؤها. وإنما يشكك بعض الناس في القضايا اليقينية إما لعدم تمكنهم من التفريق بين الظني والقطعي، وإما لتعصبهم لرأي معين فيحسبون ما ليس قطعي قطعيا، أو يكابرون فيجحدون البديهيات ، وإما لكثرة سماعهم له مرة بعد مرة حتى يصبح الظني في رأيهم يقينيا، كما يقول المثل الشعبي المصري: (الزن على الودان أمرّ من السحر) !

وأصول المباحث الإلهية (كوجود الله وبعض صفاته) مبنية على المقدمات اليقينية، لكنها تحتاج من الإنسان إلى تأمل ونظر، وتخلٍ عن أسر المحسوس والمعتاد، حتى يطلع العقل على وجه اليقين فيها. وكلما كان النظر فيها أكثر، والجد في طلبها أتم، كانت المعرفة فيها إلى حد اليقين التام أقرب.

العقبة الثامنة: السطحية:

وقد يمنعه عن فهم الحقائق السطحية في التفكير، أو قبول ذهنه للتناقض، أو توهّمه أشياء غير حقيقية، وذلك بالحيدة كما سبق بيانه عن النظر العقلي المنضبط، وخلطه بالوهميات .

وبعض الناس ربما يستغرب من وضوح بعض المسائل وسهولة الوصول ببعض الأدلة إلى المطلوب ! فيجعل ذلك دليلا على بطلان القول نفسه! فإن اعتقاد وجوب تعقيد بعض الأدلة، وأن الدليل الواضح الظاهر بالضرورة يكون ساذجا أو دالا على أمر غير ذي بال لهو في الحقيقة من السطحية في النظر، لأنه حكم على الأمور بظواهرها.

فإذا تخلص الإنسان من كل هذا فتبين له وجه الدليل، فإنه يقتنع به، ولكنه يكون عرضة للتشويش عليه.. وتلك هي العقبة التاسعة.

العقبة التاسعة: التشويش:

ومن الناس من لا يصل إلى الحق لما يعرض له من تشكيكات، تشوش نظره ونفسد عليه نفسيته، مع عجزه عن دفعها والرد عليها، ويرجع ذلك في بعض الأحيان إلى كونه لم يبن اعتقاده على براهين قطعية، وكونه لا يميز بين البرهان القطعي، والتشكيك التشغيبي، الذي هو نفسه ليس دليلا لشيء ولا ناقدا لحجة ولا دليل، فضلا عن أن يناطح الأدلة القوية والبراهين.

فأين تكمن المشكلة؟

تكمن المشكلة في أن الشبهة قد تُلقى ومعها ركام كبير من التفاصيل العلمية والفلسفية، والحكايات الطويلة العريضة، بحيث تظهر وكأنها بناء علمي متماسك، فإن لاقى ذلك رغبة نفسية عند المستمع فإنه يسارع إلى قبول هذا الركام. ولو تأمل فيه حقيقة لوجد أنه لا حقيقة تحت هذا الكلام الطويل، وأن كل هذا الكلام مبني على أصل ضعيف لا يستقيم.

وأحيانا يكون الرد على مثل تلك الشبهات صعبا عسيرا لسببين:

أولهما: أن توضيح الواضحات من أصعب الأمور!.

فلو طلبت منك – مثلا – دليلا على أن التفاحة التي بين يديك لونها أحمر.. كيف ستستدل على نحو هذا؟ وكيف أقنعك – مثلا – أنني موجود بالفعل وأنا أكلمُك؟

هذا الأمر على فرط وضوحه فإن الاستدلال عليه صعب عسير.

والسبب الثاني: هو كم الركام والتفاصيل التي توضع فوق تلك الشبهة، فتأخذ وقتا طويلا لتفكيك هذا الركام، والوصول إلى أصل الفكرة ليظهر عندها أنها فكرة ضعيفة لا تستقيم في نظر العقل، معارضة للبديهيات القطعية، ولا تقوم على دليل أصلا. فتأمل.

فإذا وصلت الإنسان دعوةُ الحق، وفتح لها آذان قلبه، وأنعم النظر في الأدلة بغير أحكام مسبقة، بعمق، وتجرد، وعقلية فارقة، فإنه حتما يصل إلى معرفة الحق. وعندئذ يتعرض لعقبة نفسية أخيرة، في غاية الخطورة!

العقبة العاشرة: جحود الحق بعدما تبين:

وهذا جانب في غاية الأهمية، وهو من أهم الأسباب التي تصرف الناس عن اتباع الحقائق. ذلك أن النفس الإنسانية يكون لها نوازع تشوش تفكير العقل أثناء رحلته، أو تجحده بعدما ظهر. فالعقل وزير أمين يقدم المشورة والنصح، والنفس الإنسانية قد ترفض ما أدى إليه العقل لشهوة أو هوى فيها.

فالوصول العقلي إلى حقيقة من الحقائق لا يستلزم الإذعان لها وقبولها. فالاقتناع العقلي شيء، والإذعان والقبول النفسي شيء آخر. فالإذعان والقبول فعل تفعله النفس بعد أن يحصل فيها العلم بالشيء … وليس كل ما وقع في النفسِ النفسُ تقبله وتذعن له!

وأسباب عدم خضوع النفس للصواب إذا وصلت إليه متعددة ومختلفة. نذكر منها:

  • الخوف من تبعات التغيير:هل هذا الشخص الباحث عنده تجرد للحق، ونية لبذل كل الجهد في تحري إصابته، مهما كلفه ذلك من وقت ومال ومنصب، وتشغيب من الأهل والمجتمع والأصدقاء؟ أم أن طلب الحق عنده أقل قيمة من ذلك؟
  • فالبقاء على ما استقر عليه وضع الإنسان، ونفسيته، وما قَبِلَه مجتمعه يكون في أكثر الأحوال مريحا مطمئِـنا، إلا لِـمَن لم يرضَ لنفسه إلا الحقيقة، فلا يبال بشيء إلا بالوصول لها، والحصول عليها، والخضوع لها.
  • والخوف من الجديد ومن التحديات التي تأتي تبعا لمعتقد جديد مانعة في الكثير من الحالات من اتباع الحق.يقول الله تعالى: (فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ)
  • الكبر:وقد يمنعه تكبُّره عن أن ينقاد إلى رأي غير نفسه، ويُلزمه غيره بما لم يلزِم هو به نفسه. فإذا قيل له: الحق والصواب في كذا كذا، وينبغي أن تتبع فلانا، تأنف نفسه عن التبعية.
  • يحدثنا القرآن عن هذا العيب على لسان المشركين: (أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا) (ص: 8)، ويقول: (وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (الزخرف: 31).
  • فهناك من يصل إلى الصواب، ويفهمه، ثم يجحده كبرا وظلما وغرورا. يقول تعالى:(وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ۚ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (النمل: 14)

خاتمة:

هذه رحلة طويلة، شاقة، لأنها تستهدف الوصول للحقيقة، وهي أغلى ما يمكن للإنسان أن يصل إليه، وعليه مدار إنسانيته في الدنيا، وفوزه يوم القيامة.

كل من سار على الدرب وصل. وطريق الحق سهل مباشر ميسور لكل من تجرد عن أهواء نفسه، وطويل ملتوٍ صعب على كل من حجب نفسه بحجب كثيفة من الهوى والشهوة.

هذه رحلة أردنا بها أن نبين أبعاد أخرى في مسألة استجابة الناس للدين، وأنه لا يلزم من أحقية الدين ووجود دليل عليه أن يتّبعه كل الناس، وأردنا بها كذلك أن يتأمل كل منا في نفسه، وما قد يعتورها من الآفات التي قد تؤدي إلى هلاكه، وخسرانه في الدنيا والآخرة، من حيث لا يشعر.

نسأل الله السلامة.

فخلاصة ما أردنا أن نقوله في هذا المقال:

أن كون الدين حقا مؤيدا بالدليل ليس وحده كافيا لكي يتبعه أكثر الناس. بل إن هناك موانع وعقبات تمنع الإنسان عن اتباعه والخضوع إليه، منها:

جهله بالحق، أو جموده وإعجابه برأيه الذين يحملانه على عدم سماع الحق، أو أن يسمع وهو محمَّل بتعميمات أو أحكام مسبقة، أو أن يقدم له الدين مشوها أو بأدلة ضعيفة، أو يحسب أن العقائد الدينية بديهية لا تحتاج إلى تفكير، أو يخلط بين المحسوس الذي يستدل عليه بالحواس الخمس وبين الغيبيّ الذي يستدل عليه بالعقل، أو ينظر بسطحية، أو يغره ركام من التشويشات والكلام الذي لا طائل تحته فيعاند الدليل، أو يجحد الحق بقلبه بعدما وصل إليه بعقله لكبر أو خوف.

إن من سار في الطريق إلى الله، متجردا راغبا في معرفة الحق واتباعه، فإننا ندعو الله أن يتغمده برحمته فيوفقه للصواب ويهديه إلى الحق بإذنه ليكون من أهل النجاة في الآخرة.

والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.