ينتظر رواد الأعمال بحماس كبير الأفلام التي تتناول قصص نجاح الشركات التي بدأت تقريبا من الصفر ثم أصبحت إمبراطوريات عملاقة، بنفس الحماس تم استقبال أفلام تروي أحداثا حقيقية مثل فيلم The Social Network عن قصة صعود Facebook، وفيلم Steve Jobs عن حكاية الأخير مع شركة Apple. أو أفلام تروي قصصا خيالية لكنها تصب في قلب عالم الأعمال وريادة الأعمال مثل فيلم Antitrust الذي قيل إنه يحكي قصة قضية الاحتكار الشهيرة التي رفعت على مايكروسوفت منذ سنوات، أو فيلم Jerry Maguire الذي قام فيه توم كروز بإنشاء شركة لترويج الأبطال الرياضيين من الصفر بعد أن تم فصله من شركته الأصلية.

فيلم The Founder، والذي انطلق في دور العرض منذ أيام قليلة، يختلف عن هؤلاء، ليس لأنه الوحيد الذي يحكي القصة الحقيقية للكيفية التي تحولت بها «ماكدونالدز» من مطعم صغير إلى إمبراطورية عملاقة وحسب، ولكن ما يميزه هو كمية التفاصيل الدقيقة التي يمكن لرواد الأعمال والمهتمين بعالم الشركات الانتباه إليها والتعلم منها بشكل واضح ودقيق ومرتب ومفصل، وكأن الفيلم عبارة عن درس علمي مشوق مكون من ساعة وخمس وخمسين دقيقة، وليس مجرد شريط سينمائي للترفيه والمتعة فحسب.

الفيلم المبني على وقائع أصلية بدأت عام 1954 يحكي قصة بائع متجول يدعى «راي كروك» يقوم ببيع ماكينات لصنع مخفوق اللبن Milkshakes، لدى راي زوجة محبة ولديهم منزل رائع ولديهم ما يكفي من المال، إلا أنه طوال الوقت يبحث عن مغامرة أكبر وفرصة أوسع للاستثمار، تأتيه يوما طلبية كبيرة لماكيناته من مطعم في مدينة «سان برناردينو» -بولاية كاليفورنيا على الساحل الغربي الأمريكي- ولأنه غير معتاد على الطلبات الكبيرة فقد قرر زيارة المطعم بنفسه، قاد سيارته ليصل إلى مكان أنيق يصطف خارجه الناس في صف طويل ليقوموا بطلب شطائر الهامبرجر، فيتم إعدادها وتقديمها لهم مغلفة مع البطاطس والكولا خلال 30 ثانية فقط!

كاد «راي» أن يجن من الدهشة، فعلى الرغم من عمله في مجال المطاعم لأكثر من 15 عاما، إلا أنه لم ير شيئا مثل ذلك، فكل المطاعم التي تقدم شطائر البرجر تقدمه خلال 30 دقيقة، وفي أطباق عادية مع شوك وسكاكين، ويمكن للزبون أن يجلس داخل المطعم ليتناول طعامه، أو يأتيه على صينية مخصوصة يمكن تثبيتها في نافذة سيارته ليأكل بالخارج، لكن هذا المطعم لا يفعل أيا من ذلك. كان اسم ذلك المطعم الفريد «ماكدونالدز».


الدرس الأول: اكتشف ميزتك التنافسية

لم يستطع «راي» مقاومة فضوله وقام بالتعرف على الأخوين اللذين يمتلكان ويديران المطعم، «ديك ماكدونالدز» و«ماك ماكدونالدز»، حيث قاما بأخذه في جوله في المطعم ليتعرف على النظام الفريد الذي اخترعاه لأتمتة Automation إنتاج شطائر الهامبرجر. دعاهما راي للعشاء في نفس المساء ليشرحا له أكثر، حيث أخبراه بأن مطعمهما في البداية كان يقدم المأكولات السريعة التقليدية بالشكل التقليدي، عندما لفت انتباههما مجموعة من الحقائق.

أولا: دائما الزبائن حانقون من تأخر الطعام.

ثانيا: يحدث كثيرا أن يتم تبديل الطلبات فيحصل الزبون على الوجبة الخطأ.

ثالثا: كثيرا ما يقوم الزبائن بسرقة أطقم الطعام الفضية من سكاكين وملاعق.

رابعا: 78% من الزبائن يطلبون الوجبة بعينها، شطيرة البرجر مع البطاطس والمشروب (كولا أو ميلك شيك). وهنا قررا أن يحولا المطعم ليقدم فقط شطائر البرجر، وأن يغلفا الطعام في أكياس ورقية، يمكن للزبون تناولها وأكلها في أي مكان سواء في سيارته أو على مقعد في حديقة أو في منزله أو عمله، كل ذلك في 30 ثانية (لأن الطلبات ستكون معدة مسبقا) وبسعر تنافسي (15 سنتا فقط). كان هذا بمنتهى الوضوح القيمة التي يقدمها ماكدونالدز في هذا الوقت Value Proposition، كانت تلك ميزتهما التنافسية التي وعياها جيدا.


الدرس الثاني: اعمل بشكل Lean

لم يقم الأخوان ديك وماك بهدم مطعمهما القديم وبناء مطعم جديد فورا بناء على فكرتهما الجديدة، وإنما قاما أولا باختبار نموذج العمليات Operations Model الذي فكرا فيه. قاما بتخطيط الكيفية التي ستبدو عليها أجزاء المطعم على الأرض بالحجم الطبيعي، ففي هذا المساحة سيتم وضع الجريل، وهنا سيقف الشخص الذي سيتلقى أقراص البرجر ليضعها في صوانٍ دائرية، وفي تلك البقعة سيتم وضع الأقراص داخل الخبز، وهنا سيتم وضع شرائح المخلل ورش المايونيز والكاتشاب.. وهكذا.

ثم طلبوا من فريق العمل أن يقف كل منهم في بقعته المحددة سلفا، وأن يقوموا بعمل محاكاة افتراضية للعملية كاملة، وبدآ يرصدان تفاعل وتقاطع مسارات أفراد العمل، وقاما بتعديل النموذج والمخطط مرارا، حتى حصلا في النهاية على نموذج يسير بشكل ناعم وكفؤ ويعطي أعلى إنتاجية في أقل زمن (30 ثانية للطلب).

تخيل أنهم قاموا بتنفيذ النموذج الأولي دون اختباره، كان سيعني ذلك فشلا ذريعا وتكلفة مادية كبيرة على الأخوين، لكنهما عملا بالـ Lean Model، ابنِ شيئا، ثم اختبره، ثم تعلم منه، وحسّن النموذج السابق وهكذا، إلى أن تصل لأفضل نموذج.


الدرس الثالث: اهتم بالجانب الترويجي

في يوم افتتاح مطعم ماكدونالدز بعد التطوير، كان الناس يأتون بسياراتهم وينتظرون شخصا ما ليخرج من المطعم ليتلقى الطلبات، لكن ذلك لم يحدث، وكان على ديك وماك أن يذهبا لكل عميل ويشرحا له الطبيعة الجديدة للمكان، وأن على الجميع القيام والوقوف صفا أمام نافذة الطلب وهكذا.

كان الأمر يسير ببطء وكان هناك نوع من مقاومة التغيير في سلوك العملاء، وكاد الأخوان يقرران الرجوع للنموذج القديم قبل أن تأتيهما فكرة القيام بإعادة افتتاح المطعم ولكن بشكل مبهر.

في مساء اليوم التالي كانت هناك ألعاب نارية خارج المطعم، وموسيقى صاخبة، وعروض بهلوانية اجتذبت كل المارين بجانب المطعم، وشجعتهم على تناول الطعام بالطريقة الجديدة، وبمجرد أن استكشفوا الـ Value Proposition الحقيقية (وهي الحصول على برجر فاخر في 30 ثانية وبسعر رخيص) عادوا مرة ثانية للمطعم في اليوم التالي، بل استمرت دائرة الدعاية في الاتساع مع إخبار كل زبون لأصدقائه عن هذا المطعم المذهل، الدعاية عبر الـ Word-of-Mouth لا تفشل أبدا.


الدرس الرابع: ابنِ بزنس قابلا للتوسع

يشعر «راي» أن هذه هي فرصته، وأن ماكدونالدز لديها فرصة هائلة للنجاح، وسيطر عليه شعور عميق بالرغبة في أن يكون جزءا من هذا النجاح. أخبر الأخوين أنهما يجلسان على منجم من ذهب، وأن نظام أتمتة إنتاج الطعام Automation يجب أن يتم تكراره في كل بقعة في أمريكا من المحيط للمحيط، يجب أن يفكرا جديا في فتح فروع أخرى عبر نظام الـ Franchise.

أخبراه أنهما فكرا في ذلك لكنهما وجدا الأمر غير مشجع، لأن الملاك الجدد إما أنهم يقدمون خدمة سيئة وجودة أقل للعملاء، أو يقومون بتقديم أطعمة أخرى على قائمة الطعام مما ينسف فكرة ماكدونالدز الرئيسية من الأساس.

أخبرهما راي أنه سيحل كل هذه المشاكل، كل ما عليهم هو أن يقبلا به شريكا ليقوم بتنفيذ مسألة الفرانشايز، لأن تلك هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق نجاح كبير وأموال طائلة، وللانتشار في كل بقعة من أمريكا، وربما في دول أخرى خارجها. كان راي يفكر بعقليته التجارية في كيفية تحويل نموذج العمل الناجح إلى نموذج قابل للتوسع Scalable، قابل للتكرار بحذافيره في أي مكان آخر يحتاج إلى نفس الخدمة، قام الرجل بعمل Operations Manual واضح لكيفية إنشاء المطعم وإدارته.

وقام باختيار أفضل العناصر لامتلاك وإدارة المكان، وكان يقوم بعمل رقابة دورية على المطاعم (وهو أمر لم يكن الأخوان يقومان به لانشغالهما الدائم بمطعمهما الأساسي) لضمان تقديم أعلى جودة، ولا يبدي أي تسامح أمام أي خرق لعقد واضح ومكتوب حول الملاك الجدد للفروع Franchises، وهذا بالضبط هو سبب نمو ماكدونالدز الصاروخي، واليوم ماك تمتلك أكثر من 36,000 فرع في 118 دولة، وتخدم 68 مليون عميل يوميا (1% من غذاء العالم توفره ماكدونالدز)، يخدمهم ما يقرب من نصف مليون موظف.


الدرس الخامس: ابنِ الصورة الذهنية لعلامتك التجارية

في أحد الأيام وجد راي صورة كبيرة في مكتب الأخوين ماكدونالدز، عبارة عن تصور Concept لم ينفذ لشكل مطعمهما، كان التصور عبارة عن المطعم محمول على قوسين ذهبيين كبيرين (تحولا لاحقا ليشكلا سويا علامة ماك الصفراء الشهيرة).

ألهمت تلك الصورة راي بشدة، كان يرى في القوسين علامة للمطعم الذي لا يقدم فقط طعاما، وإنما يقدم كل القيم التي تتميز بها أمريكا، الصداقة، والعائلة، والوقت الطيب، والمرح، والحرية، والانفتاح.. والأهم من ذلك التقدم Progress. كان يرى في القوسين علامة مقدسة، تقترب في قداستها من العلم الأمريكي نفسه، ومن الصليب المرفوع أعلى الكنائس. انتوى راي أن يقدم للعالم رمزا لـ«الكنيسة الأمريكية» الجديدة.

وبذلك قام بتحويل المخطط المعلق على الحائط وتنفيذه على الأرض في جميع فروع ماك، حيث أصبح القوسان الذهبيان Brand أو رمزا شهيرا للغاية يمكن رؤيته من بعيد، ليستدعي في خيال الزبون تلك القيم، الوقت الطيب، الصحبة، العائلة.. والروح الأمريكية.


الدرس السادس: اختر طاقم العمل بعناية

تعلم راي من الخبرات السيئة التي واجهت الملاك الأصليين أثناء تجارب الـ Franchise الفاشلة، ولذلك وضع عدة قواعد لاختيار الملاك الجدد، كان يبحث عن المستثمرين من الطبقة المتوسطة (وليس الطبقة العليا) لأنه يعلم أنهم سيقومون بإدارة العمل والإشراف عليه بأنفسهم.

كذلك كان ينتقي دائما المستثمرين المتزوجين، يبحث عن رجل وامرأة لإدارة كل فرع بنفس الروح العائلية التي يديران بها حياتهما الزوجية، ليقدما الصورة العائلية التي تقوم عليها علامة Brand ماك.

كان يراقب أداء العاملين في الفروع المختلفة، ويعطيهم النصائح بنفسه، وينتقي أفضلهم ليقوم بترقيته خطوة أعلى في السلم الوظيفي بناء على كفاءته وليس على تعليمه أو خلفيته المهنية.

وبذلك استطاع أحد عاملي الجريل بأحد فروع ماك، وهو «فريد تيرنر»، أن يصبح رئيسا تنفيذيا للشركة لاحقا.


الدرس السابع: فكر في مصادر الدخل بعناية

كان اتفاق راي مع الأخوين ينص على حصول الأول على نسبة من أرباح كل فرع يتم إنشاؤه، وجد راي نفسه في مأزق عندما وجد التكاليف المتعلقة بإنشاء الفروع تأكل من حصته، ولا يتبقى لديه شيء لدرجة أنه رهن منزله وهو في قمة النجاح، ليستطيع تسديد ما عليه.

حاول مع الأخوين تقليص النفقات عن طريق مثلا استخدام مسحوق الميك شيك الجاف (الذي كان قد أنتج حديثا في أمريكا) بدلا من اللبن المكلف، وخصوصا أنه يعطي نفس الطعم الغني، لكن الأخوين كانا محافظين في تفكيرهما وتقليديين، ورفضا أيا من اقتراحات راي (وكان ذلك السبب الذي أدى في النهاية لعدم قدرتهما على التكيف السريع مع طريقة وفكر راي المتقدم، وفي النهاية اشترى راي الشركة كلها).

وهنا كان تحول راي للتفكير في مصدر آخر للدخل، وبناء على نصيحة أحد العاملين في مجال الاستثمار، وجد راي أن ماكدونالدز ليست شركة طعام، وإنما من المفترض أن تكون شركة عقارات، أي أنها يجب عليها شراء قطع الأراضي التي تقام عليها الفروع لحسابها، ثم تقوم بتأجيرها لملاك الـ Franchises، فتضمن دخلا إضافيا ثابتا من جهة، وتضمن أيضا يدا عليا على أصحاب الفروع لأن الشركة وقتها سيكون لديها القدرة والتحكم في عدم تجديد عقد الإيجار.

وبذلك أصبح الدخل من عقارات ماك يشكل 78% من دخل الشركة الآن (6 مليارات دولار كل ثلاثة شهور).