في فجر الخامس من يونيو/حزيران الجاري حلقت في سماء الخليج العربي بياناتُ مقاطعةٍ أشبه ببيانات حربٍ صدرت من السعودية، الإمارات، والبحرين بحق قطر. وتوالت بيانات الدول تدعم المقاطعة أو تعارضها؛ إلا المغرب. ترّيث كثيرًا وانتظر سبعة أيام كاملة قبل أن يُفضي يوم 11 يونيو/حزيران بما في جعبته. وجاء البلاغ المغربي بما هو متوقع؛ الحياد الإيجابيّ والوساطة.وهذان هما ورقة المغرب الرابحة منذ سنوات عدة؛ فلطالما عملت الدبلوماسية المغربية على إمساك عصا الخلافات من المنتصف، وتجنب الانحياز إلى طرف دون الآخر. وأراد الملك مُحمد السادس أن يستغل الموقف ليظهر نفسه بالمظهر الذي يحبه كحكيم العرب، العاقل وسط المجانين، والهادئ وسط المُتسرعين؛ كما رفض المغرب استضافة القمة العربية لعام 2016؛ معللًا ذلك بأنها صارت قمة مناسباتية فقط، ولا ينتج عنها قرارات مهمة، وأنها تعطي انطباعًا خاطئًا بوحدة العرب، وهم ليسوا كذلك.

إن بيان الخارجية المغربية يكاد يخرج من باب الحياد الإيجابي إلي باب اللاموقف، فالمغرب يحاول دعم قطر وإرضاء السعودية في الوقت نفسه

ولكن تخطى الأمر الحياد في 12 يونيو/حزيران بصدور بيان آخر بشأن إرسال طائرة محملة بالمواد الغذائية لقطر. الغريب أنه على الرغم من أن سياسة إمساك العصا من المنتصف هي الدبلوماسية المفضلة لقيادة المغرب فإن الاستنتاج المنطقي من استقراء التاريخ يقول إن المغرب كان عليه الانحياز للسعودية، والاصطفاف ضد قطر. حيث شهدت علاقات المغرب وقطر توترًا كبيرًا، كانت قناة الجزيرة سببه حين قررت السلطات المغربية إغلاقها عام 2010 بحجة أنها تنتهك قواعد العمل الصحفي.وعلى النقيض كانت علاقات المغرب بالسعودية، الإمارات، والبحرين جيدة. وهو ما أكده المغرب في يوم إرسال طائرة المساعدات نفسه إلى قطر. حيث ذكّر المغرب دول الخليج الثلاث بمواقفه معها. فذّكر البحرين بقطعه للعلاقات الدبلوماسية مع إيران عام 2009 على خلفية تصعيداتها ضد البحرين. وذكّر الإمارات بمساندته لها في مطالباتها بـ الجزر الثلاث التي تحتلها إيران. وذكّر السعودية بمشاركته في تحالف حرب اليمن الذي تزعمته السعودية، وإرساله قوات عسكرية لحمايتها أثناء اجتياح صدام حسين للكويت.هنا يحق لنا أن نقول إن بيان الخارجية المغربية يكاد يخرج من باب الحياد الإيجابيّ إلى باب اللاموقف؛ فالمغرب يحاول دعم قطر، وفي الوقت نفسه يحاول إرضاء السعودية وحلفائها. فبجانب تذكير المغرب لدول الخليج بمواقفه معها وهو ما يعد تبريرًا مغربيًا لموقفه، وهو ما لم تقم به أي دولة اختارت أن تقف مع السعودية أو مع قطر. أو ما يمكن اعتباره ردًا ضمنيًا دبلوماسيًا على رسالة عتاب أو غضب جاءت للمغرب بسبب موقفه. فهناك نص البلاغ الأول للمملكة، الذي جاء فيه أن المغرب مستعد لبذل مساعٍ حميدة من أجل تشجيع حوار صريح وشامل على أساس عدم التدخل في الشئون الداخلية، ومحاربة التطرف الديني والوضوح في المواقف والوفاء بالالتزامات.فإذا وضعنا هذه الفقرة بجانب بيانات الدول المُقاطعة لوجدنا تشابهًا كبيرًا في الرؤى. فقد جاء في بيان السعودية أن سبب مقاطعتها لقطر هو «احتضان جماعات إرهابية وطائفية» ومحاولتها «شق الصف الداخلي السعودي» و«التملص من التزاماتها».وجاء في بيان الإمارات اتهام قطر بـالتلاعب والتهرب من الالتزامات والاتفاقيات، وبدعم وتمويل واحتضان التنظيمات الإرهابية والمتطرفة والطائفية. وجاء في بيان البحرين أن سبب المقاطعة هو إصرار دولة قطر على المضي في زعزعة الأمن والاستقرار، ودعم الأنشطة الإرهابية المسلحة. إذا كان المغرب حريصًا إلى هذا الحد على عدم إغضاب السعودية والإمارات والبحرين، فالأكثر أمانًا هو التحالف معها، بدلًا من تلك المخاطرة. أو بكلمات أخرى، ما الدوافع القوية التي ألجأت المغرب إلى السير على الجمر؟


1. الإخوان المسلمون

ربما يعد هذا هو السبب الأهم وراء موقف المغرب، وإن كان غير مُعلن. فالصراع بأكلمه يدور حول الإخوان المسلمين، واستضافة قطر لكبرائهم، وتوفير الحماية لمطارَديهم، وتأمين مطلوبيهم. والمغرب إن لم يكن يفعل مثلما تفعل قطر، فإنّه في الوقت نفسه لا يكرههم بقدر كره السعودية والإمارات عينه لهم. بل على النقيض يمكن اعتبار المغرب الملاذ الآمن الأخير الذي يوجد فيه الإخوان المسلمون لا كمطاردين أو لاجئين، بل مواطنين يصلون إلى تشكيل الحكومة.حيث وصل عبد الإله بنكيران إلى رئاسة الحكومة بعد ما حصد حزب العدالة والتنمية 107 مقاعد من أصل 395، متصدرًا لائحة الفائزين. وحتى حين أُعْفِي بنكيران بعد أن فشل لمدة 5 أشهر في تكوين حكومته تولى العثماني بدلًا منه تشكليها، وهو وإن كان مختلفًا عن بنكيران، لكنهما شربا من المنبع الإسلامي نفسه، ويكادان يقتربان في الأهداف وإن اختلفت السبل.


2. العلاقات الاقتصادية مع الجميع

أما بين قطر والمغرب، فمنها ما كان بالرباط في 5 يناير/كانون الثاني 2010 بالاتفاق على التعاون الثنائي في المجال العسكري، التدريب والتقنيات والعلوم.وفي عام 2012 أعلن وزير المالية المغربي أن حجم الاستثمارات القطرية المباشرة في المغرب يبلغ 800 مليون دولار، كذلك حجم العمالة المغربية في قطر؛ فمثلًا وقع الطرفان على اتفاق يقضي باستقدام 15 ألف مغربي ومغربية سنويًا للعمل في قطر، خلال ثلاث سنوات، ما يفيد بأن المغرب يسعى بموقفه هذا إلى أن يحافظ على هذه العمالة المرشحة لأن تصل إلى أكثر من 60 ألف مغربي بحلول 2020، بجانب عددٍ كبير من الاتفاقيات الاستثمارية الأخرى. هذا بجانب العلاقات الاقتصادية القوية بين المغرب والسعودية والإمارات من جهة أخرى. حيث تعتبر السعودية أكبر مستورد للصادرات المغربية في منطقة الخليج بحوالى 920 مليون درهم (100 مليون دولار) من الصادرات، أي ما يعادل 52.4% من إجمالي الصادرات نحو المنطقة، تليها الإمارات بنحو 589 مليون درهم (60 مليون دولار) وبنسبة 33.5%.


3. الداخل المشتعل والنجاة من الربيع العربي

يبدو أن هاجس الربيع العربيّ ومحاولات النجاة منه ماتزال تدور في خلد مُحمد السادس، حيث ذكر في بيان المغرب في القمة الخليجية المغربية أن هناك خططًا تستهدف تقسيم وشرذمة الدول الناجية من الربيع العربي، وخاصة الملكيّات في الخليج والمغرب.ولهذا ارتأى المغرب أن الجلوس في مقعد المُتفرج تحت اسم الوساطة أضمن لبقاء ملكيّته، وأحفظ لها من الدخول في صراع غير محسوب العواقب، وصفه المغرب نفسه بالمُتسرع. خاصةً أن السعودية في هذا الأسبوع الذي صمت المغرب فيه لم تستطع اجتذاب تأييد المجتمع الدولي، الذي أعرب معظمه عن الخوف من تبعات الأزمة على استقرار المنطقة.


4. الكبرياء المغربي ورفض التبعية

كان الود قد بلغ بين المغرب ودول الخليج إلى حد دعوة تلك الدول للمغرب وعمّان إلى الانضمام إلى مجلس التعاون الخليجي كمجلس لما تبقى من مَلكيات العرب، وجاءت تلك الدعوة في العام 2011 بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني. وأعلنت المملكة السعودية أنها تعتبر المغرب امتدادًا لمجلس التعاون الخليجي، وأن المملكتين تواجهان التحديات نفسها مما يُحتم عليهما التعاون، ويجعلهما عونًا لبعضهما البعض في مواجهة مد الربيع العربي. ورغم كل هذا أُقصي المغرب من التشاور في القرار، على عكس مصر مثلًا، التي بدا أنها كانت على علم بالقرار، ورابع ثلاثة قاطعوا الدوحة في ساعات الصباح الأولى.


5. عدم الثقة

الطابع القبلي الذي تتسم به دول الخليج يجعل من الصعب الرهان على مواقفها؛ فبسرعة وحدة قرارات الدول المُقاطعة نفسها يُمكن أن تنتهى الأزمة بموافقة قطر على شروطها، أوبنجاح جهود الوساطة الكويتية، أو بالخضوع للضغط الأوروبي. في كل الأحوال ستنتهى الأزمة، ويُقبل الصغير رأس الكبير، وتُعزف خطابات البيت الخليجيّ الواحد، حينها سيكون الخاسر الأكبر هو غير الخليجي، الذي تدخل فيما لا يعنيه؛ هنا يمكن أن يرتد الأمر على المغرب سلبًا من جميع الأطراف.

تجلي غضب السعودية والإمارات إعلاميا من خلال تقرير نشرته قناة العربية وصفت فيه المغرب بالبلد المحتل للصحراء الغربية

وختامًا، لقد حاول المغرب إرضاء قطر دون إغضاب السعودية. ولقد رضيت قطر عن المغرب إذ بايعها في أزمتها، وقبلت قربان المغرب، وبرهان قبولها أن جعلت قناة الجزيرة، نارها التي تحرق بها أعداءها حاليًا، بردًا وسلامًا على المغرب، وعلى الرغم من أن الجزيرة أعلنت في 2010 تعليقًا على قرار طردها من المغرب أنّها طردت لأنها تنتهج خطًا معاديًا للمملكة وفاضحًا لها، نشر موقع الجزيرة.نت قبل أيام تقريرًا عن حكمة ملك المغرب ودوره الحكيم في مخلتف الأزمات. ولا يُستبعد أن يكون نيل رضا الجزيرة هو أحد الأسباب التي دفعت المغرب لدعم قطر؛ فالمغرب وفي ظل احتجاجات الريف المغربيّ المتصاعدة والتي تغطيها الجزيرة بكثافة لم يكن يحتمل مزيدًا من التأجيج.ولكن غضبت السعودية والإمارات، وهو ما تجلى أيضًا إعلاميًا حيث عرضت قناة العربية (لسان الإمارات والخليج) تقريرًا وصفت فيه المغرب بالبلد المُحتل للصحراء الغربية، وتحدث التقرير بنزعة انفصالية غير معهودة حول مشاكل الصحراء الغربية، وحدودها مع المغرب، ووصفت البوليساريو بـ «الجمهورية العربية الديموقراطية».ليستمر بذلك موقف المغرب الحرج، وتبقى الأيام المقبلة هي الحكم، هل كان من الواجب على المغرب اختيار طرف واحد والاستعداد لتحمل التبعات، بدلًا من تلك الحالة الرمادية! أم تُجدي حالة اللاموقف/الحياد هذه المرة كما أجدت من قبل، وإن كان من المُستبعد أن تجدي هذه السياسة في الأيام المقبلة، خاصةً بعد أن صار محمد بن سلمان ولي العهد الجديد للمملكة السعودية؛ ما يعني مزيدًا من المواقف الفاصلة/الحدية، والتي لا يصلح معها الحياد، إما مع أو ضد، وعلى الدول أن تختار.