إن في مصر قضاة.. لا يخشون إلا الله
هتاف المتظاهرين لدعم «نادي القضاة المصري» عام 2006

بهذه الكلمات ارتفعت حناجر المتظاهرين في عام 2006، داعمين «نادي القضاة المصري» في معركته ضد الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك، في واحدة من أكبر المعارك التي وقفت المنصة فيها أمام السلطة.

والحقيقة أنه رغم تحقق مبدأ استقلالية القضاء منذ الاربعينيات طبقاً لما أقره المستشار طارق البشري في كتابه «القضاء المصري بين الاستقلال والاحتواء» إلا أن العقود الستة الأخيرة شهدت الكثير من المعارك بين المنصة والسلطة لتحقيق هذا المبدأ.


1. السنهوري أول المدافعين

يقول المستشار فاروق عبد البر، نائب رئيس مجلس الدولة، في كتابه «دور مجلس الدولة المصري في حماية الحقوق والحريات العامة» لأن سبب الاعتداء على المستشار عبد الرازق السنهوري في مارس/ آذار 1954 هو «محاولته العودة بالبلاد إلى الديمقراطية».

بينما يرجع المستشار السيد علي السيد الذي كان وكيلاً للمجلس وقتها الاعتداء لما سماه «تورط السنهوري في صراع سياسي»، وسواء اتفقت مع الرأي الأول أو الثاني، فإن الحقيقة الوحيدة هو أن الاعتداء على السنهوري هو حادث تأسيسي لأي حديث عن معارك استقلال القضاء.

وجاءت واقعة الاعتداء على السنهوري خلال ما يعرف بأزمة «مارس» والتي تمثلت في الصراع بين اللواء محمد نجيب ومجلس قيادة الثورة حول عودة الحياة النيابية والحزبية، وهو الصراع الذي أسفر عن إصدار قرار 25 مارس/ آذار 1954، بعودة الأحزاب، وعدم حرمان أي شخص من حقوقه السياسية، بالإضافة إلى انتخاب جمعية تأسيسية للدستور.

وفي يومي 28، 29 مارس / آذار خرجت المظاهرات تطالب بسقوط الديمقراطية وتهتف ضد اللواء نجيب، واتجهت إحدى المسيرات في اليوم الثاني من المظاهرات إلى مجلس الدولة، ليتحول الهتاف إلى المطالبة بسقوط السنهوري المساند لنجيب.

وكما يقول السنهوري في تحقيقات النيابة حول الواقعة:

توقفت المسيرة خارج بوابة المجلس المغلقة بسلاسل الحديد، فدخل أحد الضباط إلى مكتبي وطلب مني الخروج إلى حديقة المحكمة، لمخاطبة المتواجدين بها والتهدئة من روعهم، وحينئذ اقتحمت جموع المتظاهرين فناء المجلس وانقض بعضهم علي بالسب والضرب، وحينئذ أدركت أن الأمر لم يكن مظاهرة أخاطب فيها المتظاهرين ــ كما ادعى الضابطـ. بل أمر اعتداء مبيت علي، وما لبث المتظاهرون أن دفعوني دفعًا إلى الحديقة وتوالى الاعتداء

القصة لم تنته هنا، فبعد توجيه السنهوري الاتهام بصورة رسمية إلى عبد الناصر، وإصدار تعليمات لزوجته بعدم زيارة عبد الناصر له، صدر قرار في أبريل/ نيسان 1954 من مجلس قيادة الثورة يقضي بحرمان كل من تولى منصبًا وزاريًا في الفترة من 1936 حتى يوليو/ تموز 1952 من تولي الوظائف العامة لمدة خمس سنوات، وهو ما تسبب في عزل السنهوري من القضاء.

وبعد عام واحد من الواقعة تمت الإطاحة بـ18 مستشارًا من مجلس الدولة من المقربين من السنهوري، بعد إصدار عبد الناصر قرارًا بقانون لإعادة تنظيم مجلس الدولة، قضى بإعادة تعيين كافة مستشاري وموظفي مجلس الدولة خلال 15 يومًا، وهو القرار الذي صدر بإغفال اسم 18 مستشارًا تمت إعادة توزيعهم على هيئات قضائية أخرى.


2. بورصة القطن والنحاس

لم يكن صراع السنهوري مع بعد الناصر هو الصراع الأول، فقد سبق وتصارع مع حكومة النحاس الوفدية في 1950، بعد محاولة النحاس عزل السنهوري بدعوى أنه حزبي، إلا أن السبب الحقيقي كان إلغاء السنهوري بعض قرارات بورصة القطن التى يسيطر عليها رأسماليون ينتمون لحزب الوفد، وهو ما رفضه قضاة مجلس الدولة.

وطبقاً لكتاب «مجلس الدولة.. وصراع القضاء والسياسة في مصر»، للدكتور شريف أحمد إمام، فإن الوفد حاول إلغاء مجلس الدولة بمشروع قانون في عام 1951، إلا أن صراع الوفديين حال دون ذلك، ليتم تمرير إلغاء المادتين 11 و12 من قانون مجلس الدولة.

وأصبح مجلس الدولة تابعًا لوزير العدل، ولم يعد من حق رئيس المجلس إيقاف القرار الإداري.


3. مذبحة القضاة 1969

وتعد مذبحة القضاة التي وقعت في أغسطس / آب 1969، إحدى أبرز الأزمات في الصراع بين الدولة والقضاء.

وتعود وقائع الأزمة إلى محاولة النظام إشراك القضاء في الاتحاد الاشتراكي عبر ما يعرف بالقضاء الشعبي بما يسمح بإشراك غير القضاة في أعمال القضاء وذلك عقب نكسة 1967، إلا أن تيارًا كبيرًا داخل القضاء رفض هذه الفكرة، وفي انتخابات نادي القضاة فاز التيار الرافض لدعوى الانضمام في الاتحاد الاشتراكي.

وأصدر النادي بيان رفض فيه سماه محاولات السلطة التنفيذية للقضاء.

وعقب البيان، أصدرت الدولة ثلاثة قوانين ستعرف فيما بعد باسم «مذبحة القضاة». وفقًا لهذه القوانين تم حل جميع الهيئات القضائية من محاكم ومجلس دولة، وتم استبعاد نحو 200 من أعضاء الهيئات القضائية، وأنشئت المحكمة العليا لمراقبة دستورية القوانين لتحرم مجلس الدولة من هذا الحق، تم تشكيل المجلس الأعلى للهيئات القضائية.


4. السادات والمحاكم الاستثنائية

في كتابه «ازدهار وانهيار النخبة القانونية المصرية»، يقول د.عمرو الشلقاني إنه رغم التدخل السافر من قبل نظام ناصر في هيكل القضاء المصري، كما حدث في أزمة 1954، ومذبحة القضاة 1969، إلا أن التوجه العام معظم اﻷحيان كان تجنب المواجهة المباشرة مع القضاء والاعتماد على المحاكم الاستثنائية للالتفاف حول استقلاله.

ما قاله الشلقاني يمكن رؤيته في سياق علاقة الرئيس محمد أنور السادات بالقضاء، فالرئيس الذي بدأ عهده بإعادة القضاة المفصولين، وإزالة آثار مذبحة القضاة، حاول احتواء القضاة عن طريق الانتدابات وغيرها من الأسلحة.

إلا أن الصراع مع القضاة خرج إلى العلن في 1980، بعد إنشائه المحاكم الاستثنائية مثل محكمة القيم والعيب، وهي المحاكم التى جارت على اختصاصات القضاء الإداري، وحصنت قرارات السادات، وكان أبرزها قرار عزل البابا شنودة من منصبه.

وبسبب هذه المحكمة دخل السادات في صراع مع المستشار وجدي عبد الصمد رئيس نادي القضاة، الذي انتقده علانية في أحد مؤتمرات النادي.


5. اعتصام القضاة ومبارك

في مايو /آيار 2005 كان نادي القضاة على موعد مع معركة جديدة للوقوف ضد السلطة، لكن هذه المرة سعى القضاة للمعركة ولم تفرض عليهم.

حيث قررت الجمعية العمومية لنادى القضاة إصدار بيان يهدد بالامتناع عن الإشراف على الانتخابات البرلمانية، إذا لم تتم الاستجابة لمطالبه المتمثلة في إقرار قانون السلطة القضائية المقترح من جانب القضاة وتغيير قانون الانتخابات بحيث يعطي القضاة حق الإشراف الكامل على العملية الانتخابية.

وهو ما أسفر عنه الاعتداء على 165 قاضيًا في الانتخابات البرلمانية، وفق إحصاءات نادي القضاة.

وفي أبريل/ نيسان 2006 قرر وزير العدل محمود أبو الليل تحويل المستشارين هشام البسطويسي ومحمود مكي إلى أمام نيابةِ أمنِ الدولة العليا، ثم بعد ذلك إلى لجنةِ الصلاحيةِ، وهو أمرٌ رفضه القضاة واندلعت ضده احتجاجات شعبية واسعة، استمرت نحو 3 أشهر أسفرت عن اعتقالات طالت ما يقرب من 500 مواطن.

ويمكن القول إن مبدأ استقلال القضاء الذي انتزعه القضاة تشريعيًا في أربعينيات القرن الماضي لم يتحقق حتى الآن، ولكن هناك معارك خاضها القضاة أمام كل نظام لتحقيق الاستقلالية للمنصة.

المراجع
  1. كتاب "مجلس الدولة وصراع القضاء والسياسة في مصر د.شريف أحمد عامر – دار الكتب والوثائق القومية
  2. من ضرب السنهوري إلى «تيران وصنافير».. صدامات مجلس الدولة مع السلطة
  3. أربع محطات واجه فيها القضاة السلطة