(1)

عزيزتي ماريان، عيون البشر كلها تنظر إلى أسوء الأشياء، لقد صنعوا الدليل إلى السعادة ووثقوا في استخدامه إلى الدرجة التي لم يعد ممكنًا معها التراجع عن العدم، نحتاج إلى الوثوق أكثر بالأشياء المغمورة التي تبدو بلا معنى، بالأصوات المبتورة والمترددة التي تبدو بلا عقل، بالعقول الكثيفة التي تخلو من الأرقام، لكننا اليوم في عصر مات فيه كل الوُعّاظ، لقد كانت صناعة الأحلام بسيطة حتى وقت ليس بالبعيد، لكن كم هي أبعد من الشمس اليوم؟

ماريان.. أشعر وكأنّي أشياء لا تحصى، سرديات بلا نهاية، أفكار مُحنّطة من عصر بائد، أسئلة مُلِحّة كزجاجة نصف فارغة أو كزجاجة نصف ممتلئة، أشعر بأني ورقة خريفية فوق رصيف مهجور، طفل يتيم لم يجد من يداعبه، راية مهزومة مَزقتها البنادق.

أنا عاطفي ومُمِل ومُزعج، بقعة تافهة فوق قميص رخيص قد تُشتت انتباهي، ماريان اصعدي إليّ وخلصيني لأني في السحاب أتساقط فوق الجميع، ولأجل سكان الممالك اجعلي أم الصبي تقف في وجه الأمم، وأما أنا فنصيبي أن أفرح بكِ وأتبعك كالجندي على فراش الموت يتمنى الحرب.

في ذلك الزمان أريد ألا يُحاكم أحد، في ذلك الزمان أريد جميع حُبكِ لأجلي ولأجل الطيور والنباتات والأرض؛ لأنه لا سبيل للنجاة دون نوركِ بين ظلام الحقل والمصنع والحانة.


(2)

أُفتّش عن نفسي كما أفتش عن إبرة وسط كومة قش، أُفتّش عن صاروخ ينسف عقلي ويفتته أمامي، عن سبب وجيه واحد يدعوني للبقاء على قيد الحياة، فلا أُبصِر غيرَكِ، نهدكِ العاري يأسرني كطفل، تُجيدين المراوغة، وتعرفين التفريق بين الألوان جيدًا، وهذا سبب فشلي معكِ؛ لأنني منذ مدة ليست بالقصيرة وقبل ظهوركِ في حياتي بالطبع، أصبحت لا أرى الحياة خارج الأبيض والأسود، وأجاهد يائسًا في محاولة رؤيتها كطيف يحمل كل المباهج، لكن لا بهجة لي بدونك، لا إشراقة للشمس دون وجهك في الصباح، ولا رائحة للربيع دون ترنحك بخَدر الورود في لوعة وانتشاء، لكن كم أنتِ بعيدة؟، وكم أنا مغرقٌ في العبث بخصلات شعركِ في خيالي المترنح بهمساتكِ في أذن الليل.

السعادة دُونكِ لا تستحق العناء، كتابة ملحمة خالدة هي فكرة مملة وعبثية بالمقارنة مع افتراش صدركِ وقراءة كتاب. بمناسبة الكتب، في الآونة الأخيرة تحولت إلى حوذي في رواية من الأدب الروسي، ربما يرجع هذا إلى اعتقادي بأن هذا الأدب الذي يعد أعظم ما كتبه البشر تسيطر عليه تلك الشخصية الفريدة التي تقود حصانًا وأربع عجلات – أو اثنتين-، وأن الرحلة التي يخوضها أحدنا لم تكن سوى رحلة العربة من محطة القطار أو المرفأ أو الحانة إلى المنزل، حيث هناك في انتظار البطل امرأة بدينة مُتجهمة قطنية الملامح، باردة تسخر من صاحبنا الذي وهب نفسه للحب والشعر والغناء، فجأة أيضًا أكتشف – ضمن صيحة اكتشافات عشرينية ضخمة – أن الطبيب الذي ولجت منه إلى عالم الكلمات اللانهائي قد التقط حقيقة العالم لا في غرف العمليات ولكن على قصاصات الورق وقبل اختراع الكاميرات، عربة مزعجة تقفز فجأة إلى الأحداث، يَجرّها حصان يضربه بالسياط طيلة الوقت رجل خامد بينما قبعة مهترئة أنهكتها الأمطار وحواديت العشاق والأرامل تستقر فوق رأسه.

فيما بعد، كم هذا مزعج، مجرد التفكير بأية حقيقة دون إشارة منكِ، مجرد العثور على حل لمشكلة كبيرة دون تلميح منكِ بالفرح، سوف تبقى الحياة مُكومة فوق رأسي، الطموحات كلها معطلة، والمشاعر حبيسة هذا الجسد الذي لن يفنى لأنه يتغذى على حبكِ الذي لن ينطفئ. ماريان.. أبحث عن عينيكِ تبصران كلماتي، عن شفاهكِ تنطقان اسمي، وأبحث عنكِ في كل حين.


(3)

أتابع أخباركِ بشغف، وأترقب لقاءكِ حيث يزهر الربيع من حولك هناك في باريس، تلك المدينة المعجزة التي فشل خيالي كُليًة في تَمثلها. وأتساءل: كيف تتنقلين هكذا بين المتاحف دون أي انحناء؟، ديلاكروا عبقري حقيقي، لقد رَسمكِ بصدق؛ دون زيادة أو نقصان أو مواربة؛ ممشوقة الرأس، مرفوعة الجبين، صامدةً ضد الزمن، تقودين الشعب إلى الحرية والعاشقين إلى الجنون. بالمناسبة كلما نظرت إلى اللوحة كلما رغبت في انتزاع البرجوازي على يمينك من الصورة، لم تعرفي بعد يا ماريان ما صنعوا بنا؛ الطبقة الوحيدة التي انتصرت بالفعل، كانت نصرنا الوحيد وهزيمتنا الحتمية، أعود إلى ديلاكروا لأخبرك بأنه ربما كان على علم بأن هناك من يحبك من هنالك؛ من «الشرق الساحر» شاب عشريني يحلم بأبسط مقومات الحياة، يحب وطنه ويحب وطنك فرنسا الجميلة، لكن حرب الجزائر مقرفة، الحروب عمومًا مقرفة، لكن بعض التخريب ضروري من أجل تغيير العالم، الجثث تصنع الجسور نحو تاريخ جديد، ولكي نستلهم روحك فعلينا أن نستعيدها من بين أجساد بالعيها.

من بين حدقات العيون التي تتأمل رونقك، أظل الحدقة الأصدق، ومن بين كل الأحلام الخبيثة التي دارت يومًا بخيالات الشعراء والمراهقين، فأنا أَقدرُهم على صناعة حلم خبيث أيضًا لكنه قادر على إسعادك إلى أقصى حد، تذكريني في سهراتك الطويلة بين قاعات العرض الفارهة والموحشة تلك، وأخيرًا؛ استلهميني فيي أشعار الحرية التي تغزلينها، اقرئي خطابي على الشاب الصغير جافروش، أبلغيه تحياتي؛ وأعلميه بأن عاشقك المتيم يقضي عمره تمامًا مثله؛ في تأمل وجهك وانتظار الثورة.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.