تعرضت السياسات التركية تجاه الشرق الأوسط لتقلبات حادة خلال الأسابيع العديدة الماضية، بل وخلال الأشهر الماضية أيضا.شرعت أنقرة أخيرا وعلى مضض في تنفيذ أعمال عسكرية ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) بالتعاون مع الولايات المتحدة، إلا أنها نفذت أيضا ضربات جوية ضد الأكراد، شركاءها السابقين في المفاوضات. فماذا يحدث؟ قد لا تكون هناك استراتيجية شاملة، ولكن الآتي يبدو ممثلا للقضايا الرئيسية التي توجه السياسات التركية.

على رأس القائمة هناك الرئيس إردوغان وبحثه عن الاستمرار السياسي. فبعد الرفض الذي واجه حزب العدالة والتنمية الحاكم في انتخابات شهر يونيو، والذي تسبب في خسارته لأغلبته البرلمانية، يحاول إردوغان الآن بشكل يائس أن يتعافى، وأن يجد شريكا يمكن الاعتماد عليه لتشكيل حكومة ائتلافية، والتي في غيابها سيجبر على إجراء انتخابات جديدة خلال الشهر المقبل على أمل تعويض أغلبيته التي فقدها. وفي ضوء الانطباع المتنامي بالفقد المتزايد للشمولية على المستويات العليا للحكومة التركية، يمثل ذلك نوعا من المقامرة؛ أن يتمكن الحزب من تحقيق نتائج انتخابية أفضل في الشهر المقبل. بالفعل قد يصعد الحزب، ولكنه سيكون أضعف.

في ضوء ذلك، تتواجد أفضل فرص إيجاد شريك ائتلافي للحزب في جعبة حزب الحركة القومية، الذي يعارض المفاوضات مع حزب العمال الكردستاني أو أي تعاون مع حليف حزب العمال الكردستاني في سوريا، حزب الاتحاد الديمقراطي.

دشن حزب العدالة والتنمية منذ عقد مضى مفاوضات مشجعة وتاريخية مع حزب العمال الكردستاني، وكان لدى المراقبين مبرر ليتطلعوا إلى تجاوز هام لتلك القضية العرقية التي تعاني منها تركيا منذ نشأتها تقريبا. ولكن السياسيات الداخلية تدخلت وأدار إردوغان ظهره، على نحو غير مسؤول، إلى المفاوضات، بل وبدء عمليات عسكرية ضد حزب العمال الكردستاني مجددا، ربما لإنهاء أي أمل في تحقيق التوافق لبعض الوقت. تسعد تلك الخطوات العدائية القوميين في حزب الحركة القومية، الذي أصبح الآن شريك تحالف هام محتمل. باختصار، تقضي السياسات الانتخابية قصيرة المدى وقصيرة النظر لحزب العدالة والتنمية على التطلعات من أجل توافق وطني هام.

لدى إردوغان مبرر آخر لتخريب جهوده المبكرة الرائدة لتحقيق التوافق الكردي، فمع المناخ السياسي المتحسن منذ سنوات قليلة، وللمرة الأولى،حقق الحزب الكردي، حزب الشعب الديمقراطي، مكانة وطنية كحزب ليبرالي بحق، متجاوزا القومية الكردية. فقد استحوذ الحزب على أصوات حاسمة بالنسبة لحزب العدالة والتنمية في الانتخابات الأخيرة، ما أثار أردوغان ضد الحزب.

يتمثل العامل الرئيسي الثاني في سوء تفاهم أنقرة تجاه الوضع السوري الكارثي. فقد مثل هوس إردوغان الحالي بالإطاحة بنظام الأسد في سوريا تراجعا مفاجئا لعقد من العلاقات الدافئة والأخوية مع سوريا. لا يعادل أي فشل في السياسة الخارجية لحزب العدالة والتنمية فشله في الكارثة السورية: فقد أدى إلى تكثيف المذابح في النزاع السوري الداخلي الهمجي، وأضر العلاقات الهامة مع العراق وإيران، وساعد في إطلاق فيضان من ملايين اللاجئين السوريين إلى داخل تركيا، وخلق اضطراب داخلي، وأضر الاقتصاد و دفع إردوغان نحو توجه بغيض مع الرياض وضد الأسد.

وفي سبيل ذلك، أجبر إردوغان على غض الطرف، أكثر من أي وقت مضى، عن تطرف القوى الإسلامية المقاتلة ضد الأسد في سوريا، ومنها تنظيم داعش نفسه. ورغم عدم مناصرة إردوغان بشكل حقيقي داعش، إلا أنه تسامح معه. وفي النهاية، فضل إردوغان تقوية داعش أمام دمشق بدلا من تعميق العلاقات التركية مع الأكراد – وهم الشركاء الإقليميين الطبيعيين لتركيا في المستقبل.

فاقمت تلك السياسات التركية بشكل كبير سخط معظم الأكراد ضد تركيا، خصوصا في سوريا. وأصبحت علاقات إردوغان بالأكراد في كل مكان في خطر، في تركيا، والعراق، وسوريا. إلا أنه عند تحقق تهديد إرهابي خطير من داعش منذ أيام قليلة على الأراضي التركية (مستهدفا أكراد في الأغلب)، اضطر إردوغان لإعادة النظر في تلك العلاقة. ونتيجة لذلك، انحنى إردوغان على مضض للضغوط الأمريكية الهادفة إلى اتخاذ موقف أقوى ضد داعش. في الواقع هناك القليل من القبول في تركيا لداعش، باستثناء أقلية صغيرة جدا من المتشددين. وفي هذا الصدد أيضا، يبدو إردوغان مفتقدا لبوصلة فكرية أمام تلك القضايا الاستراتيجية.

يتمثل المحرك الثالث للسياسات التركية في الاتفاق النووي الأمريكي مع إيران. فذلك الاتفاق المصيري سيكون مغيرا لوجه جيوسياسات الشرق الأوسط. كما أنه عزز المخاطر على أنقرة، ليبدو واضحا أمامها أنها لم يعد في إمكانها تجاهل إيران. إلا أن ذلك لا يجب أن يمثل مشكلة خطيرة لتركيا، فقد شهد العقد الأول لحكم حزب العدالة والتنمية علاقات عامة جيدة مع طهران، وتجنبت تركيا بشكل أساسي المناصرة الفكرية لسنة الشرق الأوسط في الصراع الطائفي.

ومن هنا بدأ تحالف أردوغان الآثم مع الرياض ضد سوريا في دفع الرئيس التركي نحو اتجاه طائفي خطير يتعارض مع جميع المصالح التركية الوطنية تقريبا، ومنها العلاقات مع إيران. تظهر العمليات الجوية الأخيرة لأنقرة ضد داعش بعض علامات التراجع عن ذلك الخطأ الاستراتيجي الفادح، حتى مع خوف الرياض نفسها من تقديم المزيد من الدعم لداعش.

باختصار، لأسباب سياسية داخلية بشكل رئيسي، وبسبب ضغوط خارجية من الولايات المتحدة، وإيران والعراق، تتقلب أنقرة الآن بين اتجاهاتها الاستراتيجية. سيكون من الذكاء إن انضمت لإيران، وروسيا، والصين، وعمان وربما تسعى الآن الولايات المتحدة لتحقيق حل سياسي في دمشق، والذي سيؤدي إلى الاستقالة النهائية للأسد، ولكنه لن يطيح بالنظام الحالي.

ولكن عواقب اتفاق أوباما مع أنقرة على إنشاء منطقة عازلة في سوريا بطول الحدود التركية مزعجة، فقد تجر الولايات المتحدة على نحو أعمق في الحروب البرية المحلية والتنسيق مع السياسات التركية السيئة. الحقيقة أن نظام الأسد يعتبر حاليا خيارا أفضل من استمرار الحرب الأهلية واستمرار نمو قوى التطرف الجهادية والقاعدة، التي تتمركز في وضع مثالي للقضاء على المعارضة الإسلامية المعتدلة ضد الأسد.

حكومة ائتلاف تركية محتملة تضم حزب العدالة والتنمية (مع تعدديته) وحزب الشعب الجمهوري المنتمي إلى يسار الوسط، بالإضافة إلى الحزب الكردي الليبرالي الجديد، قد تبدو مقدمة للمزيج الأفضل للإشراف على السياسات التركية الخارجية في هذه الأوقات المعقدة والمضطربة بشكل استثنائي. كما سيتم معادلة طموحات إردوغان الواثبة والخسارة المتزايدة لحسن التقدير والحنكة السياسية بأفضل شكل داخل هذا الائتلاف. رغم العاطفية المحيطة بالقضية الكردية، هناك جيل جديد من الناخبين الأتراك الذي من غير المرجح أن يصوت لسياسي يسعى لمواجهة أكبر في المنطقة، خصوصا كأداة لتحقيق طموحاته الخاصة.

جراهام إي فولر مسؤول سابق بوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، ومؤلف عدد كبير من الكتب عن العالم الإسلامي.

المصدر