وقف شابٌ في منتصف العشرينات أمام مقر ولاية سيدي بوزيد (على بعد 265 كم من العاصمة )، وقام بإشعال النيران في نفسه مهرولا في اتجاه المارة مصيبا إياهم بالفزع.

هذا هو بوعزيزي، الشباب الذي قرر أن ينهى حياته بعدما تمت مصادرة العربة التي يبيع عليها الخضروات والفاكهة من قبل الشرطة التونيسية، ولم يقتصر الأمر على مصادرة مصدر رزقه، حيث امتد إلى مصادرة كرامته بعدما صفحته الشرطية بالقلم أمام جميع المارة.

وصلت شرارة نيران بوعزيزي إلى أغلب أرجاء تونس الخضراء واستمرت الاحتجاجات والاشتباكات حتى هروب ابن علي في الرابع عشر من يناير 2011، تاركًا السلطة لرئيس وزرائه محمد الغنوشي.


هل حمى الجيش الثورة؟

نعم عُرض عليّ تسلم السلطة (من قبل وزير الداخلة ووزير الدفاع الوطني ومحمد الغنوشي)، وقيل لي إذا لم تتسلم أنت السلطة فالنهضة (حزب النهضة) ستتسلمها، فقلت لهم أحب أن يكون بلدي ديمقراطيا وفيها الحريات، ولننجز الانتخابات وتأتي النهضة أو غيرها.

هذا ما كشفه قائد الجيش التونسي السابق الجنرال رشيد عمار، في نوفمبر/تشرين الثاني 2015، حيث تم عرض السلطة عليه في 14 فبراير/شباط 2011 بعد هروب ابن علي ولكنه رفض، مؤكدا أنه جنب البلاد انقلابا عسكريا.

لم يكن للجيش التونسي قبل الثورة أي حضور على المشهد العام والمشهد السياسي في البلاد، ولم يكن يرغب أثناء الأيام الأولى من الثورة في الظهور كجزء من المشهد السياسي التونسي، ولكنه رفض إطلاق النيران على المتظاهرين، حيث قال رشيد عمار لابن علي أن الجيش لم ولن يطلق النار على الشعب.

وعلى الرغم من أن مصر أتت تالية لتونس في ثورات الربيع العربي وتشابه الدور بين الجيشين في إسقاط النظام في لحظته الأولى؛ إلا أن المؤسسة العسكرية المصرية ودورها عقب الثورة قد اختلف تمامًا عن دور نظيرتها التونسية. فلم تغِب العسكرية المصرية عن المشهد السياسي في مصر حيث تسلمت مقاليد السلطة عقب تنحي مبارك، كما تورطت في العديد من انتهاكات حقوق الإنسان خلال الفترة التي تولت فيها مقاليد الحكم مثل أحداث ماسبيرو ومجلس الوزراء والعباسية، كما لعب الجيش دورًا محوريًا في إسقاط نظام محمد مرسي بعد 30 يونيو/حزيران 2013.

يشير تقرير المنظمة التونسية لمناهضة التعذيب أنه 4 مارس/آذار 2011 تعرض الشاب محمد صدقي حليمي إلى الإيقاف ونقله إلى ثكنة تابعة للجيش التونسي وخلال فترة احتجازه عُرض الضرب وتم الاعتداء الجنسي عليه من قبل أحد المسؤلين بالجيش.

إلا أنه لم يخضع الجيش التونسي لأية محاولات للإصلاح في مسار العدالة الانتقالية التونسية، نظرًا لخصوصيته التاريخية وعدم تدخله كثيرًا في الحياة السياسية التونسية، إلى جانب أن وضعه من قبل لا يحتاج إلى إصلاح كثير؛ حيث يخضع الجيش إلى وزير مدني لا ينتمي للمؤسسة العسكرية بجانب صغر عدده وميزانيته.


الداخلية والبوليس السياسي

قام وزير الداخلية فرحات الراجحي بطرد 42 مسئولًا أمنيًا بينهم مديري 11 جهازًا أمنيًا، من منصبهم بقرار إداري. بالإضافة إلى حل البوليس السياسي في مارس/ آذار 2011.

كما تم إصدار كتاب الأمن والتنمية، وهو يتناول إصلاح جهاز الشرطة، حيث يعتبر ذلك الكتاب بمثابة خارطة طريق من أجل تغيير عقيدة الشرطة من أداة لقمع المواطنين لأداة تعمل على خدمتهم. وقد تم تقليص دور جهاز الشرطة في المساحات المدنية، حيث تم نقل الاختصاصات الانتخابية من جهاز الشرطة إلى هيئة عليا مستقلة للانتخابات، تتولى الإشراف على مجمل العملية الانتخابية ويقتصر دور الأمن على أعمال التأمين فقط.

وعلى الرغم من تلك المحاولات لإصلاح الشرطة التونسية إلا أنها استمرت في انتهاكاتها، فيشير تقرير المنظمة التونسية لمناهضة التعذيب في تونس أن الشرطة التونسية تورطت في العديد من أعمال العنف، ففي شهر أغسطس 2011 تصدت الشرطة بالعنف والغازات المسيلة للدموع لتظاهرة للمطالبة بتطهير القضاء ومحاسبة المطورتين في انتهاكات حقوق الإنسان، وتكررت أعمال العنف تلك في العديد من التظاهرات، إلى جانب حالات الانتهاكات التي تعرض لها أفراد بعينهم من قبل قوات الشرطة.

كما يشير تقرير منظمة العفو الدولية في يوليو/تموز 2011 إلى منع قوات الشرطة بعض المتظاهرين من القيام بإضراب احتجاجًا على الأوضاع وقبضت على 47 شخص أصيب العديد منهم خلال ملاحقتهم والقبض عليهم، كما أن الحكومة الانتقالية فرضت حالة الطوارئ في أغسطس 2011 لأجل غير مسمى، مما ترتب عليه تعطيل عدد كبير من الحقوق الأساسية للمواطنين، إلى جانب تعطل محاولات إصلاح في تونس.

يشير تقرير منظمة هيومان رايتس واتش الصادر عن حالة حقوق الإنسان في تونس 2015 إلى أن عملية المحاسبة في تونس بشأن أعمال القتل على يد القوات الأمنية واجهت العديد من العقبات، فعلى الرغم من صدور أحكام ابتدائية ضد مرتكبي تلك الانتهاكات إلا أنها واجهت صعوبة في الحصول على الأدلة الجنائية لتحديد الجناة من الأفراد ومعاقبتهم، وخلو المجلة الجزائية وغيرها من التشريعات من نصوص تحمّل كبار الضباط مسؤولية الجرائم التي ترتكبها قوات تخضع لقيادتهم.

وعند الحديث عن المحاسبة لابد من التطرق إلى القضاء فهو المنوط بتفعيل تلك المحاسبة، ويشير تقرير واتش إلى أن القضاء التونسي لا يزال لا يتمتع باستقلالية عن السلطة التنفيذية، ويرجع ذلك إلى عدم تعديل القوانين المنظمة لعمل السلطة القضائية والتي تضع القضاة تحت سلطة وزير العدل.


لجان تقصي الحقائق

تم تشكيل لجنتين للنظر في قضايا فساد نظام ابن علي وانتهاكات حقوق الإنسان، خاصة في أحداث ديسمبر 2010، ولجنة لإستعادة الأصول المهربة إلى الخارج. هذا إلى جانب إصدار عفو عن الأشخاص المعتقلين من النظام السابق بسبب تلفيق اتهامات بممارسة أنشطة تخريبية مثل الانتماء إلى جمعيات سياسية والتظاهر. وتم إعطاء تعويضات محدودة لضحايا ابن علي ومن بينهم شهداء وجرحى الثورة.

ووفقا لتقرير المركز الدولي للعدالة الانتقالية، فإن تلك الإجراءات التي تلت الثورة من أجل تعويض الشهداء وضحايا الانتهاكات ولجان تقصي الحقائق لم تأتِ بثمارها، مما دفع لضرورة وجود منهج شامل لإقرار العدالة الانتقالية، حيث صدر قانون العدالة الانتقالية ونص على إنشاء هيئة للحقيقة، صندوق للتعويضات ولجنة لفحص أهلية الموظفين. إلا أنه وبعد نتائج الانتخابات الأخيرة والتي فاز بها السبسي برئاسة الجمهورية فقد تعطل مسار ذلك القانون.

قانون العدالة الانتقالية يعود إلى ىسنوات الخمسينيات وهو غير مقبول، وعندما أصل إلى السلطة وأحصل على الأغلبية في مجلس النواب، سأعمل على تغيير هذا القانون فورًا لأنه قانون تصفية حساب غير عادل

هذا بالفعل ما قام به السبسي عندنا تولى مقاليد الحكم. ووفقا لتقرير مركز كارينجي عن العدالة الانتقالية في تونس، فقد أعادت حكومة الرئيس السبسي النقاش حول العدالة الانتقالية عبر الكشف عن مشروع قانون للمصالحة مع التونسيين المتّهمين بالفساد وجرائم مالية أخرى.


الصراع والانقسام

شهدت تونس عقب التخلص من ديكتاتورية ابن علي الكثير من الصراعات والانقسامات بين التيارات السياسية المختلفة، والتي يمكن أن نقسمها إلى تياريين رئيسيين، وهما: التيار المحافظ بزعامة حركة النهضة، والتيار العلماني والذي تمثل في حزبي المؤتمر من أجل الجمهورية وحزب نداء تونس.

وقد أخذ شكل الخلاف السياسي في تونس العديد من الأشكال منذ اللحظة الأولى لانتصار الثورة، حيث تمثلت أولى نقاط الصراع والانقسام بين التيارات والأحزاب السياسية في مرحلة انتخابات المجلس التأسيسي، وما تلاها. فقد شهدت الانتخابات الأولى بعد الثورة انقسامًا بين التيارين، وسط توجيه مخاوف للشعب من تولي حركة النهضة مقاليد الحكم وتقيد الحريات بدعوى تطبيق الشريعة الإسلامية، ولكن جاءت نتائج تلك الانتخابات مفاجئة للجميع، حيث أتت حركة النهضة في المركز الأول تلاها حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، وفي المركز الثالث العريضة الشعبية ثم التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات.

وقد رفض زعيم حزب المؤتمر، الحزب الثاني في المجلس، تواجد القوي السياسية القديمة في الحكومة التي سيتم تشكيلها، مطالبًا بتشكيل حكومة وحدة وطنية بكفاءات جديدة. وقد أيده في ذلك حزب النهضة والذي يمثل الكتلة الأولى في المجلس. في حين دعا حزب التجديد والذي عرف سابقا بالحزب الشيوعي، إلى حكومة من خارج الأحزاب تمثل حكومة كفاءات وطنية.

وعلى الرغم من الخلافات التي شهدتها مرحلة الانتخابات إلا أن حركة النهضة وحزب المؤتمر من أجل الجمهورية استطاعوا خلق التوافق حول الحكومة، حيث تم الاتفاق على تشكيل حكومة انتقالية بين الحزبيين، يرأسها محمد الغنوشي زعيم حركة النهضة، ومنصف المرزوقي زعيم حزب المؤتمر، ليكون رئيسا للجمهورية.


أزمة دستور تونس

تلك الحالة من التوافق لم تدم طويلًا، فمع بدأ مناقشات الدستور حدث انقسام كبير بين التيارين حول بعض مواد الدستور، وبسبب تلك الخلافات تأخر موعد إقراره، والذي كان مقررًا له أن يتم طرحه للاستفاء الجماهيري بعد عام من انتخاب المجلس التأسيسي، ولكن تم طرحه بعد ثلاثة أعوام من انتخاب المجلس.

وفي منتصف طريق إقرار الدستور عصفت الكثير من الصراعات والانقسامات بتونس الخضراء، فقد شهدت تونس أزمة سياسية استمرت لمدة خمسة أشهر أثناء حكومة التوافق ترتب عليها تعطيل نشاط المجلس التأسيسي المكلف بكتابة الدستور واقتصار عمل حكومة التوافق على تسيير الأعمال، حيث بدأت بوادر تلك الأزمة مع اغتيال المعارض اليساري شكري بلعيد أمام منزله والنائب محمد البرهامي.

انسحب نواب المعارضة من المجلس التأسيسي، ونظموا عددا من التظاهرات والإضرابات من أجل رحيل حكومة النهضة والمؤتمر، وعلى إثر تلك الأزمة تكونت اللجنة الرباعية للحوار الوطني والتي فازت بجائزة نوبل للسلام نتيجة لجهودها في الخروج من الأزمة ومحاولة إكمال مسار العدالة الانتقالية.


الوصول لنوبل السلام

تكونت اللجنة الرباعية للحوار الوطني في تونس من الاتحاد العام التونسي للشغل، الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، والهيئة الوطنية للمحامين التونسيين.

لعبت اللجنة دورًا كبيرًا في عملية العدالة الانتقالية في تونس، وخاضت حوارًا موسعًا بين أطراف الأزمة التونسية، إلى جانب خارطة الطريق التي تم التوقيع عليها من قبل 21 حزبا تونيسيا، في 5 أكتوبر 2011، والتي نتج عنها انتخاب مجلس تأسيسي جديد، فاز بأغلبيته حزب نداء تونس المحسوب على التيار العلماني. وتمت المصادقة على الدستور، كما تم إجراء انتخابات رئاسية جديدة، فاز فيها السبسي، رئيس حزب نداء تونس. وكانت تلك اللجنة هي السبب في حصول تونس على نوبل للسلام في 2015.


تونس الآن

أن الجيش لم ولن يطلق النار على الشعب

يري الشباب في تونس أن الثورة لم تجنِ جميع ثمارها بعد، حيث عبّر عمرو بلحاج، باحث سياسي تونسي، أنه ما زالت أبواب المحاباة والمحسوبية مفتوحة في تونس بعد الثورة، سواء كان للأعمال الصغيرة أو الكبيرة. إلى جانب قانون المصالحة الاقتصادية والمالية الذي اقترحه الرئيس السبسي، والذي من شأنه تجنيب الكثير من رجال الأعمال الفاسدين والمسؤولين الحكوميين المتورطين في قضايا فساد من المسألة القانونية.

كما أشار تقرير منظمة العفو الدولية إلى حالة حقوق الإنسان في العالم لعام 2014/2015؛ أنه على الرغم من احتواء دستور 2014 لضمانات مهمة لحقوق الإنسان، إلا أنه ما زالت هناك انتهكات لحقوق الإنسان. فقد سُجلت العديد من تقارير المنظمة عن حالات تعذيب داخل حجز الشرطة. وأوضح التقرير أن هناك امرئتين لقيتا مصرعهما على يد قوات الشرطة ليلة 23 أغسطس/آب 2015. كما أفرجت السلطة في إبريل/نيسان 2015 عن بعض كبار المسؤولين المسجونين بتهمة عمليات القتل غير القانوني للمتظاهرين في أحداث الثورة.

على الرغم من تعثر تونس في طريقها إلى تحقيق أهداف الثورة، إلا أنها استطاعت أن تخرج من أزمتها السياسية بين التيار العلماني والتيار المحافظ بشكل سلمي ودون تدخل من المؤسسة العسكرية ودون مكابرة من التيار المحافظ، هذا إلى جانب أنها لم تقصِ التيار المحافظ من المشهد السياسي، فما زال يستطيع الترشح في الانتخابات ويمثل جبهة معارضة للحكومة داخل المجلس التأسيسي.

المراجع
  1. تونس ما بعد بن على في مواجهة أشباح الماضي
  2. الاستثناء التونسي: واضعو السياسات يفضلون انتشار الفساد