يشكل هذا الأسبوع أهمية كبرى للقوات المسلحة التركية إذ انعقد في العاصمة أنقرة «مجلس الشورى العسكري الأعلى» بين 3-5 أغسطس برئاسة رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو وعضوية وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان وقادة أسلحة الجيش إضافة إلى كبار القادة العسكريين.

ورغم أن هذا الاجتماع – الذي يعقد كل ستة أشهر- يحظى بالاهتمام دوما؛ إلا أن الاهتمام هذه المرة كان مضاعفا وذا طبيعة خاصة بالنظر إلى ما تشهده البلاد من حرب مزدوجة ضد كل من مقاتلي حزب العمال الكردستاني وتنظيم الدولة. وبالنظر إلى غرق البلاد في بحر الاضطراب السياسي منذ انتخابات السابع من يونيو، ما يجعل من المواقف التي يتبناها القائد الجديد للجيش ذات تأثير كبير على حالة الجدل السياسي المستعرة أصلا في أنقرة منذ شهور. ربما هذا هو ما دفع أردوغان إلى المماطلة مع حزب الشعب الجمهوري في مشاورات تشكيل الحومة لكي يذهب داود أوغلو إلى الاجتماع بوصفه رئيسا لـ «حكومة العدالة والتنمية» لا رئيسا لـ «حكومة ائتلافية يقودها العدالة والتنمية»، ما سيتيح له التأثير بشكل أكبر في تشكيل القيادة الجديدة.

وتمخض الاجتماع عن مجموعة من القرارات، أبرزها: تعيين قائد القوات البرية الفريق الأولخلوصي آكار رئيسا لأركان الجيش التركي، خلفا لرئيس الأركان السابق نجدت أوزال.

كما تم تعيين الفريق الأولعابدين أونال قائدا للقوات الجوية، وقائد الجيش الأول صالح زكي جولاق قائدا للقوات البرية، وقائد قوات منطقة بحر إيجة الفريق الأول غالب مندي قائدا عاما لقوات الدرك، فيما تم تمديد فترة ولاية قائد القوات البحرية الأميرال بولند بوسطان عاما إضافيا واحدا.


وداعا أوزال .. مرحبا أكار

عين رئيس الأركان المنتهية ولايتهنجدت أوزال في منصبه عام 2011 بعدما تقدم قائد أركان الجيش آنذاك أسيتكقشنار وقادة آخرون باستقالة جماعية فيما اعتُبر «استسلاما» للحكومة المدنية وإقرارا بعجزهم عن التوصل لتسوية مقبولة في ملف الضباط المتهمين بمحاولات الإطاحة بالحكومة في قضيتي أرجنكون والمطرقة.

وفي حين انتقد أوزيل من بعض الجهات بعدم اتخاذ رد فعل قوي إزاء سجن الموقوفين من أفراد القوات المسلحة، انتقدته الدوائر المناصرة للحكومة لتجنبه القيام بطرد جماعي لأولئك المحسوبين على جماعة غولن ضمن صفوف القوات المسلحة. لكن ما أثار الإعجاب هو موقفه من رفض المغامرة العسكرية في سوريا، إضافة إلى أنه مدح دوما بسبب إخلاصه وتعاطفه مع مرؤوسيه.

يعرف القائد الجديد أكار بعقليته التحليلية الفذة وتقبله لمختلف وجهات النظر، إضافة إلى إلمامه بالتطورات العالمية، كما أنه من الداعين إلى تعميق العلاقات مع حلف شمال الأطلسي NATO، إضافة إلى علاقات متميزة للغاية مع الولايات المتحدة الأمريكية. وقد ظهرت علاقة أكار الوثيقة مع الأمريكيين خلال الزيارة التي قام بها إلى واشنطن بداية العام الحالي بدعوة من وزارة الدفاع الأمريكية لتكريمه من قبل قائد القوات البرية الأمريكية ومنحه أرفع الأوسمة الأمريكية وهو «وسام الاستحقاق» في حفل مهيب حضره أكثر من مائة جنرال أمريكي من أعلى الرتب. ويعود التكريم إلى الدور الذي قامت به القوات البرية التركية بقيادة أكار على المسرح السوري والذي سمح بتعاون مكثف بين القوات التركية الخاصة والقوات الأمريكية، وبذلك يصبح أكار هو الجنرال التركي الثاني الذي يتم منحه وسام الاستحقاق الأمريكي بعد الجنرال يشار بويوكانت المعروف بعدائه للعدالة والتنمية، عام 2005.

وربما تؤشر تلك العلاقة إلى مواقف القائد الجديد إزاء الأوضاع على الجبهة السورية. فأكار من المحسوبين على «الصقور» داخل المؤسسة العسكرية الذين يتنبون مواقف أكثر تشددا في مواجهة تنظيم الدولة. ويتوقع أن تسهم القيادة الجديدة في زيادة الدور العسكري التركي ضمن التحالف الدولي الهادف للقضاء على التنظيم. وقد ارتفعت أسهم الرجل بعد العملية التي قامت بها القوات المسلحة التركية لاستعادة ضريح سليمان شاه من مناطق سيطرة تنظيم الدولة في سوريا.

كما يعرف عن الرجل اهتمامه الشديد بقضايا أمن الحدود ومكافحة التهريب. ومن خلال قيادته السابقة في قيادة القوات البرية، يمكن التخمين بأن الرجل سيركز خلال ولايته على محاولة إعادة رسم العلاقة بين الجيش والحكومة، بين رئيس الأركان وكل من وزير الدفاع ورئيس الوزراء. إضافة إلى إعادة تنظيم العلاقة داخل الجيش بين قادة الأسلحة المختلفة كالقوات البرية والبحرية وسلاح الجو. ويتوقع أن تكون إصلاحاته جذرية بشكل كبير.

أما فيما يتعلق بموقف الرجل من جماعة غولن أو ما تطلق عليه الحكومة التنظيم الموازي، فقد سرت شائعات في أروقة السياسة التركية بأن أردوغان كان قد فكر في محاولة وقف تعيين أكار لأنه لم يبد اهتماما كافيا بالاتهامات الحكومية بتغول أفراد الجماعة ضمن صفوف القوات المسلحة التركية؛ لكن يبدو أن أردوغان قد صرف النظر عن تلك الفكرة بعد إصرار رئيس الأركان السابق أوزال على دعم موقف أكار من خلال إسناد العديد من مهام القيادة إليه، كما أشار إليه دوما بأنه هو «القائد الأقرب إلى عقله وقلبه».


على طاولة مجلس الشورى العسكري

ثمة قضايا أخرى من المحتمل أن اجتماع مجلس الشورى العسكري قد ناقشها:

منها مكافحة تغول جماعة غولن داخل الجيش، إذ أعدت المخابرات التركية قائمة بنحو 1200 من أفراد القوات المسلحة المشتبه بتورطهم فيما تسميه الحكومة التنظيم الموازي أو جماعة غولن. وفي حين تفضل الحكومة طردا جماعيا لهؤلاء من الجيش، تفضل قيادة الجيش التحقيقات الفردية الحذرة قانونيا.

كما تناول المجلس العسكري الأعلى مسألة العقداء والجنرالات الذين برأهم القضاء من تهم التآمر للإطاحة بالحكومة في قضايا أرجنكون والمطرقة. إذ من المقرر أن يتم ترقية 50 عقيدا تم إطلاق سراحهم إلى رتبة العميد. وسيحاول المجلس كذلك إيجاد الطرق المناسبة لتعويض هؤلاء.


تطور العلاقة بين الحكومة المدنية ومؤسسة الجيش

شكلت العلاقات المدنية-العسكرية أحد أبرز التحديات التي واجهت حزب العدالة والتنمية AKP منذ صعوده إلى السلطة عام 2002. فالجيش الذي قاد انقلابات عسكرية متتالية أعوام 1960، 1971، 1980 إضافة إلى انقلابه الأبيض على حكومة أربكان عام 1997، تعامل دوما مع الحكومات المدنية كأنها «سكرتارية» لهيئة الأركان. واعتُبر منذ تأسيس الجمهورية الأتاتوركية حارسا لقيم العلمانية المتأصلة في البلاد، حتى قيل أن كل بلد في العالم يملك جيشا عدا تركيا، فإن الجيش له البلد. غير أن هذا الحال تغير تدريجيا في السنوات الأخيرة من حكم العدالة والتنمية.

فمنذ العام 2002، أحبطت الحكومة محاولتين للانقلاب في قضيتين عرفتا إعلاميا بـ «قضية المطرقة» و «قضية أرجنكون»، وأحيل مئات الضباط إلى المحاكمة. حكم على بعضهم بالسجن، وبدا في السنوات الأخيرة أن الحكومة المدنية قد استطاعت إلى حد كبير ترويض الجيش بما يمنعه من لعب دور أكبر في المجال السياسي.

ورغم أن إيمان الجيش بقيم العلمانية وولائه لمؤسسه أتاتورك ليس في موضع شك بعد، غير أن التزامه بحماية العلمانية قد تراجع فيما يبدو في سلم أولوياته، ليظهر اهتمامه الأكبر بـ «الخطر الكردي» الذي ينظر إليه على نطاق واسع بصفته مهددا لوحدة الأمة التركية. إضافة إلى أن الجيل الأصغر من الضباط قد نشأ وصعد في ظل حكم العدالة والتنمية، وصار أكثر تقبلا لوجود الحزب الإسلامي في السلطة، وأقل حماسة للقيام بمغامرات غير مضمونة تؤدي به إلى مصير ضباط أرجنكون أو المطرقة.