في نهاية الستينيات وبداية السبعينات وبعد فترة طويلة من الثبات السياسي في إيرلندا الشمالية وراحة البال البريطانية، ومن ضعف الجيش الجمهوري الأيرلندي ( IRA ) ومطالبته هو نفسه بنبذ العنف، قررت طائفة الرومان الكاثوليك في إيرلندا وهي أقلية أنها تريد حقوقها المدنية والاستقلال وتأسيس جمهورية إيرلندا الموحدة لحمايتها من التمييز الذي تلاقيه لصالح البروتستانت، كانت مطالب الكاثوليك سلمية بطبيعتها في البداية وكان من الممكن احتوائها وأن تظل كذلك، لكن تدخل الشرطة الإيرلندية – الموالية تمامًا لبريطانيا- بالغ العنف لمواجهة هذه الاحتجاجات والمطالبات، ومساعدة ( المواطنون الشرفاء ) البروتستانت للشرطة عجلا ببدء حفلة الرعب القومية الأيرلندية مرة أخري !

قرر الأيرلنديون أن القتل لا يواجه إلا بالقتل لتبدأ إحدى أكبر عمليات العنف المتبادلة في التاريخ الحديث

في البدء كان الجيش الجمهوري الإيرلندي منقسمًا على التدخل في المواجهات خوفًا من حمام الدم الذي سيغرق أول ما سيغرق دبلن نفسها، لكن بعد قليل سيدرك قادة التنظيم عبثية الوقوف متفرجين وسيقررون القتال خصوصًا بعد تدخل بريطانيا بشكلٍ مباشرٍ لصالح البروتستانت، سينقسم التنظيم إلي الجيش الجمهوري الإيرلندي الرسمي والجيش الجمهوري الإيرلندي المؤقت وهو الأكثر قوة وإحكامًا لقبضته داخل إيرلندا الشمالية.

عندما أرسلت إنجلترا قواتها العسكرية إلى دبلن كان ذلك بهدف معلن رسمي هو ( حماية الأقلية الكاثوليكية )، وهو ما تم فعلًا ببراعة وذكاء سلطوي معتاد في 1972 حيث كانت هناك مظاهرة كاثوليكية في ديري واجهتها القوات العسكرية البريطانية بالنيران الحية لتقتل ثلاثة عشر شخصًا فيما عرف بالأحد الأسود أو الدموي، تلقائيًا، وبعدها قرر الأيرلنديون أن القتل لا يواجه إلا بالقتل لتبدأ إحدى أكبر عمليات العنف المتبادلة في التاريخ الحديث، حيث بلغت عمليات القصف وتبادل إطلاق النار في نفس عام الأحد الدموي فقط ما يقارب الاثني عشر ألف عملية !

لم يكن ممكنًا لهذا أن يستمر، لذلك تم تعيين روي ماسون وزيرًا للدولة لشئون إيرلندا الشمالية، بدأ ماسون في عملية قمع واسعة النطاق صاحبها اعتقال الآلاف ممن يشتبه في كونهم عناصر في تنظيم الجيش الجمهوري أو من يساعدهم، ويحكي المعتقلون حينها الذين على قيد الحياة الآن أن الاعتقالات كانت من أسوأ الخبرات التي مروا بها مع اتخاذ الشرطة لأساليب غاية في الصعوبة أثناء الاستجواب، وبالأرقام، فقد نجحت قبضة روي في الإمساك بزمام الأمور وتخفيض أرقام حوادث إطلاق النار وحالة الاقتتال الأهلية هناك، فإن كان الكل في السجون فمن سيطلق النار إذًا ؟!

الحل لم يكن أبدًا أمنيًا لمشكلة شبه أمنية كما قال روي ماسون حينها، وأن العنف لا يولد إلا العنف بلا أي احتمالية أخري

كان هذا قبل أن يدرك الجميع أن كل ذلك لم يغذي إلا الثأر لا أكثر !!

بدأ تنظيم المقاومة المسلحة في تعديل أسلوبه ليواكب قوة قبضة روي ماسون ويستطيع مجابهتها، ووجد قادة الجيش الجمهوري أن المواجهات المفتوحة النظامية أو التي في مجموعات كبيرة غير مجدية بالمرة، لذلك لجأوا لتشكيل مجموعات محدودة العدد شبه لا مركزية ومتخصصة لتصبح أصعب في الاختراق وأكثر في الفاعلية القتالية، ثم بدأوا في تأسيس استراتيجية جديدة وهي ( الحرب الطويلة The Long War ) والتي في جوهرها حرب استنزاف للقوات العسكرية البريطانية وحكومة جلالة الملكة والدولة ومن ورائها.

كان الأسلوب فعالًا بشدة، ونقلت المجموعات الناجية من الاعتقال المواجهات إلى قلب لندن في عمليات تفجير انتحارية هزت العاصمة الإنجليزية حينها ( أواخر السبعينات )، وفي 1979 نصبت إحدى المجموعات كمينًا لجنود بريطانيين استخدمت فيه قنبلتين لتقتل ثمانية عشر جنديًا دفعة واحدة، بعدها توسعت المجموعات في عملياتها لتستهدف المدنيين البروتستانت والبريطانيين علي السواء.

في التسعينات أيقنت بريطانيا بعد عقود من الصراع وثلاثين ألف قتيل من الجانبين علي الأقل أن الحل لم يكن أبدًا أمنيًا لمشكلة شبه أمنية كما قال روي ماسون حينها، وأن العنف لا يولد إلا العنف بلا أي احتمالية أخري !


الإرهاب هو حرب الضعفاء، وهو كل الوسائل التي تستخدمها المجموعات التي تفتقر للقوة المادية أو السياسية لمحاربة من يرونهم قوى قمعية.

الدكتور كلارك مكولي، الباحث المساعد في مؤسسة START البحثية ومدير مركز سولومون آش لدراسة الصراعات العرقية السياسيةـــــــــــ

في مقاله المعنون بـ ( فهم الإرهاب ) والذى نشر على موقع جمعية علم النفس الأمريكية ذكر توري دي أنجليس بضعة أسباب لسلوك طريق العنف استقاها عالم النفس الدكتور جون هورجان مدير المركز الدولي لدراسة الإرهاب بجامعة بنسلفانيا من خلال مقابلات شخصية تحليلية أجراها مع أكثر من ستين شخصًا سبق وأن سلكوا الطرق العنيفة لمحاربة الأنظمة، بتصرف وفي مقدمتها إحساس هؤلاء الأشخاص بالغضب والتهميش، رؤيتهم لإمكانية إحداث تغيير في ظل النظام السياسي المواكب لوقتهم علي أنها مستحيلة، تماهيهم وتعاطفهم مع من يرونهم ضحايا للظلم الاجتماعي الذي يحاربونه، واعتقادهم أن ممارسة العنف ضد الدولة هو عمل عادي غير متجرد من الأخلاق بأي شكل !

في السادسة من صباح يوم الأحد الأول من فبراير الحالي، كان هناك سائق ميكروباص ينقل ركابًا من الإسعاف للوحدة في مدينة القاهرة، السائق – والذى لا يحمل رخصة قيادة – سيصادف كمينًا في هذه الساعة المبكرة وسيخشى من إلقاء القبض عليه، سيقتحم الكمين محاولًا الفرار وسيطلق الجنود النار على الإطارات الخلفية متسببين في تمزيقها ووقوف السيارة.

لأنه لابد أن نقتل كل من لا يحمل تذكرة .. ولأن الفاشية لن تكون أوضح من ذلك

حتى هذه اللحظة كل الأمور سليمة أمنيًا، يتبقى فقط إلقاء القبض علي السائق، سيفتح السائق باب السيارة وسيهبط ليعدو بعيدًا مدفوعًا بالخوف الغريزي، لكن ضابط الكمين كان له رأى آخر، صوب سلاحه ثم أرداه قتيلًا مباشرة !

في وقت سابق، تم إلقاء القبض علي شخص قيل أنه حاول زرع عبوة ناسفة بجانب قسم الوراق، وتمت إصابته في تبادل لإطلاق النيران ونُقل لمستشفى العجوزة تحت حراسة أحد أمناء الشرطة، بعد قليل، سيستل الشرطي سلاحه وسيقتل المتهم ليس برصاصة واحدة وإنما سبع رصاصات مباشرة، ثم سيخرج بيان الداخلية مؤكدًا علي أن المتهم استفز الأمين وسبه وسب القيادات والدولة مما أثار مشاعر الأمين فقتله !!

الأهم، أن التحقيقات كشفت فيما بعد أن الشرطي قد جعل طفلًا يسجل عملية القتل بكاميرا هاتفه المحمول، ثم بعد ذلك سيقرر الأمين ما حدث وهو أن قيادات في جماعة الإخوان دفعت له حتى يقتل المتهم لكي لا يعترف عليهم ويعطي ما لديه من معلومات لأجهزة الأمن !

كل ذلك كان مسليًا بالنسبة لحدث الشاشة، مجزرة استاد الدفاع الجوي والتي أطلق فيها الأمن قنابل الغاز المسيلة للدموع علي الآلاف المحاصرين في ممر حديدي شبكي ضيق مما أدي إلى اختناق العشرات ومقتل اثنين وعشرين علي الأقل من المشجعين، وخرجت الداخلية بعدها لتؤكد أنهم ( لم يكونوا يحملون التذاكر ) و ( كان لزامًا علينا الدفاع عن منشئات الاستاد والجماهير ماتت بسبب التدافع )، ورددت جوقة المواطنين الشرفاء ورائهم أنهم ( لم يكونوا يحملون تذاكر ) كتبرير كافٍ جدًا !

لأنه لابد أن نقتل كل من لا يحمل تذكرة .. ولأن الفاشية لن تكون أوضح من ذلك !


كيف تنشأ الحرب الأهلية ؟!

في السنوات السابقات اتفق بعض من أفضل الباحثين السياسيين الدارسين لعلم الاجتماع علي أن مصر من أصعب الدول التي يمكن أن تنشأ فيها حربًا أهلية، عطفًا على العديد من الأسباب أهمها قوة الداخل المصري، القبضة الأمنية المحكمة، وعدم وجود نزاعات طائفية شديدة الخطورة أو تنوعات دينية أو عرقية واسعة النطاق، فضلًا عن طبيعة الشعب المصري نفسه المائلة للدعة والسكينة وغير المتجهة في مجملها للعنف.

كان هذا صحيحًا فيما سبق، قبل أن يأتي الثلاثون من يونيو ويأتي معه الجنرال على رأس الجيش ليغير كل شيء !!

علاقة الفرد بالسلاح في مصر لو تم رصدها بتتبع احصائي دقيق سنجد أنها تتغير في اتجاه متسارع نحو محو الحواجز النفسية والاجتماعية

فيما بعد الثلاثين من يونيو تشققت أعمدة الدولة المصرية البيروقراطية بشكل شديد الوضوح وإن لم يصل بعد لنقطته الحرجة التي ستنهار الأعمدة عندها، أولًا زُرع الشقاق في الداخل المصري وانقسم الناس فعلًا لأسباب تعدت الخلافات السياسية ودخلت في مراحل الثأر والدماء بعد المذابح التي ارتكبها النظام الحاكم علي مدار ثمانية عشر شهرًا وسط تهليل المواطنين الشرفاء، ثانيًا فإن القبضة الأمنية لا تبدو بذلك الإحكام الذي يظهر للأعين، مع انتشار الأعمال ( الإرهابية ) كما تطلق الداخلية عليها في طول البلاد وعرضها وتنامي مجموعات ثورية تتخذ من العنف المضاد لعنف الدولة سبيلًا للتغيير يؤتي ثماره .

ثالثًا سنجد أن النزاعات الطائفية بدأت تخرج للنور، والنزاع هنا يتخذ منحي التكفير البحت مع تمدد جماعة أنصار بيت المقدس في سيناء وعدم قدرة الجيش النظامي علي ردعها أو السيطرة عليها لتصل إلي مرحلة اجراء أو عمليات جهادية متزامنة في مصر علي منشئات تابعة للقوات المسلحة المصرية والمفترض فيها أنها مؤمنة، والتمدد بالمناسبة ليس للجماعة جغرافيًا فقط وإنما فكريًا أيضًا !

ورابعًا فإن طبيعة الشعب المصري تتغير، وكما أوضحت في المقال السابق _ والذي يعتبر هذا متمًا له _ فإن علاقة الفرد بالسلاح في مصر لو تم رصدها بتتبع احصائي دقيق سنجد أنها تتغير في اتجاه متسارع نحو محو الحواجز النفسية والاجتماعية في علاقة ( المواطن & السلاح ).

في أوائل الشهر الحالي أخرجت شركة Verisk Maplecroft ( الشركة البريطانية الرائدة في مجال تحليل المخاطر ) خريطة حديثة لمعدل انتشار عمليات العنف ضد السلطة في مصر منذ الأول من ديسمبر لعام 2012 وحتي الواحد وثلاثين من يناير 2015، الخريطة وضعت مقياسًا لونيًا علي درجات من الوردي للأحمر القرمزي، كلما كان اللون داكنًا كلما كانت المنطقة المُعلمة به أكثر خطورة.

من أول ديسمبر 2012 وحتي 31 يناير 2013 لم تكن في مصر أي أعمال عنف ملحوظة، من 1 ديسمبر 2013 وحتي 31 يناير 2014 وضحت الخريطة انتشار أعمال عنف في القاهرة وبورسعيد والسويس وسيناء بمقياس شديد الخطورة ( قرمزي ) وفي عموم الدلتا بمقياس وردي باهت، أما بقية محافظات مصر فخلت من أعمال عنف ضد السلطة، ثم في أواخر عام 2014 وأوائل العام الحالي انتشر اللون الأحمر الداكن ليغطي نصف الدلتا بالكامل وصولًا للمنيا وأسيوط من الجنوب والإسكندرية من الشمال، وبدأت دائرة وردية لأعمال العنف في الظهور في أسوان ( أقصى جنوب مصر )، أما سيناء فدائرة قرمزية ماعدا شمالها فهو خارج نطاق المقياس حيث وضع عليه ” وتحديدًا رفح ” لون أسود !


كل شخص قلق حول الوسيلة التي سيوقف بها الإرهاب .. حسنًا، هناك طريقة سهلة لتحقيق ذلك .. توقفوا عن المشاركة في صنعه !
نعوم تشومسكي

المعتاد بين المزارعين في دول آسيا الوسطي هو تربية كلاب الحراسة لحماية الماشية من ذئاب الجبال المفترسة، في بعض قري كازاخستان في مطلع هذا العام قرر المزارعون هناك عكس النهج كليًا، وفي مسار غريب بدأوا في تربية الذئاب المتوحشة وتعهدها بالرعاية وهي جراء حتي تكبر لتحل محل الكلاب !

أحد المزارعين حينها ” نوريست تزيلكشيباي ” قال أن الذئب يمكن تربيته كالحيوانات الأليفة تمامًا، لكن لابد من إطعامه بمعدل يزيد كثيرًا عن كلاب الحراسة، حيث يأكل الذئب ثلاث مرات يوميًا وبشراهة !

نحن نسير إلي نموذج مصري خاص جدًا من العنف المسلح المتبادل، إلى نقطة الصفر التي سينهار عندها كل شيء

أحد خبراء الذئاب قرر مطالبة الحكومة باتخاذ إجراءات تمنع هذه الظاهرة والتي من الممكن أن تعرض كازاخستان لعواقب وخيمة لو انتشرت علي نطاق واسع، ووصف الذئاب بأنها قنابل موقوتة يمكن أن تنفجر في وجوه أصحابها في أي لحظة لأن الذئاب تبقي أسيرة لغريزتها مهما روضت .

يمكن فهم ما يحدث في اطار مثل هذا، النظام، بأجنحته المتصارعة يبدو أنه يفقد السيطرة تدريجيًا على الذئاب، فالداخلية، الجهاز الذي يعمل في صفوفه أكثر من مليون وسبعمائة ألف شخص منهم أكثر من ربع مليون جندي أمن مركزي علي الأقل لا يبدو بهذه الحماسة للدخول في إطار محاسبة ويتعامل على أنه فوق القانون وهو فعلًا فوقه، فالغابة ليس لها قانون، فضلًا عن أنه ينتقم وبشدة ويدافع في نفس الوقت عن وجوده، لكنه يرسخ للعنف ولمشروعية استخدامه بلا حد أقصى، بالتالي فإن اليوم الذي سيتم فيه استنساخ كمائن الهوية في الحرب الأهلية اللبنانية لتتحول لكمائن وظيفية يتم فيها قتل كل من يعمل في الداخلية ولو بالاشتباه، مع انفلات أمني منقطع النظير واستهداف مباشر وواسع النطاق لجهاز الأمن الداخلي، هذا اليوم حتميًا سيأتي لا محالة !

هل يوجد مخرج من كل ذلك ؟ .. طبعًا، بهيكلة الداخلية وتطهير القضاء ومحاسبة عنيفة للمخطئ من الجهاز الشرطي ومحاولة رتق ثقوب النسيج المجتمعي الذي يتمزق بحماسة، لكن كل ذلك احتمالية حدوثه هي نفس احتمالية انجاب ابن مصري يجيد اللغة الصينية بعد ولادته مباشرة، لذلك فنحن نسير إلي نموذج مصري خاص جدًا من العنف المسلح المتبادل، إلى نقطة الصفر التي سينهار عندها كل شيء .