فارس الصغير

(نعم؛ لماذا لابدّ أن تذبحني؟! لا أريد أن أموت مذبوحًا وتُفصَل رأسي عن جسدي؛ تكفيني طلقة في الرأس أو طعنة في القلب).

رسالةٌ من متوجّسٍ ما.

* * * * *

لكن..هل تكفي هذه الرسالة بعضَ منتسبي “داعش” لإقناعهم بإنهاء الأمر بطريقة سريعة؟ غالبًا لا. لابدّ أن يؤدّي أحدهم عادته المحبّبة في حزّ العنق ذهابًا وإيابًا من الأذن إلى الأذن حتى يفصل الرأسَ تمامًا عن باقي الجسد، أو ربّما يُنجز الأمر بضربة واحدة، بحسبِ ما يرتئيه مناسبًا حينها. هل يرجع هذا (فقط) لقناعته بكونها قِتلة حسنةً أو ذِبحةً أحسن، على نهج الرسولِ الأمين؟ أم أن للفعل دوافعَ أخرى؟!

* * * * *

هل يقتل الإنسانُ الإنسانَ؟ يبدو سؤالاً فيه من العبثية ما يكفي. لكن لنختزل كل العبث الممكن في إجابةٍ مقتضبةٍ بـ”نَعم”.

لكن دعنا نتّفق أن القتل ممارسةٌ شاملةٌ لا تستلزم دوافع دقيقة مذمومة دائمًا؛ بل أحيانًا يندرج فعل القتل تحت سلوكيات الحقّ والنُبلِ والمجد، وأحيانًا الكرَم. ولكن، مرةً أخرى، ثمّة صورًا من صور القتل، تنطلق من دوافع دقيقة للغاية مذمومة دائمًا، من بينها “ذبح الإنسان للإنسان”. لِنرَ.

القتل ممارسةٌ شاملةٌ لا تستلزم دوافع دقيقة مذمومة دائمًا؛ بل أحيانًا يندرج فعل القتل تحت سلوكيات الحقّ والنُبلِ والمجد، وأحيانًا الكرَم

أصلُ الذبحُ –كما في المعجم الاشتقاقي المؤصَّل-: (شَقٌ يغور دقيقًا في جرم ملتحم). أي أنه خَرقٌ مدروسٌ للعادة والناموس، بَقرٌ متعمّد لوعاء السِرّ، تحويلٌ اندفاعيٌ للصورة الحيّة الكاملة إلى مُشوّهٍ ناقصِ الحياة أو معدومِها. وما كان هكذا لَن يتجاهله صاحبُ الشريعة بطبيعة الحال، وإنما سيتعهّده بالتوضيح والتوجيه والإحكام. فهو من جملة ما يقع في حياة الإنسان من أفعال.

ماذا ينبغي أن يكون موقع هذا الفعل (الذبح) في حياة الإنسان إذًا؟!

الإنسان مليءٌ بالطبائع المركّبة؛ هكذا خلقه الله العظيم. ومن بين هذه الطبائع = قابلية الإنسان للتوحّش والتحوّل إلى حيوانٍ كاسِر. ولأنّ الله يعلمُ هذا، أوجَد له ما يُفرِغ به طاقة التوحّش هذه، ولكن على الوجه الذي يرتضيه الله، لا على ما ترتضيه طبيعة التوحّش وفقط. ولهذا كانت إراقة الدمّ بالذبح من أعظم القُربات إلى الله، ولكن لا تتجاوز إراقة الدم هذه ذبحَ الحيوان والطير المُباح. وجزء من تفسير كونها من أعظم القُربات أنّ الإنسان يقاوم فيها شهوةً قاهرةً متسلّطة ويقصرها على مُرادِ الله وحدوده. ونحن هنا لا زلنا نتكلّم عن فعل الذبح مع الحيوان والطير؛ لم نذهب لذبح الإنسان بعد.

وحتى في القرآن، ورد لفظ الذبح في عدّة مواضع، ارتبط فيها جميعها فعل الذبح بـ”سُلطة” دافِعة محفّزة مُسانِدة.. سُلطة الوَحي: كما في (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) [البقرة 67]، وفي (قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) [الصافات 102]. وسُلطة الطاغوت:كما في (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ) [البقرة – 49]، وفي (وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) [المائدة 3]. وسُلطة المُلك: كما في (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ) [النمل 21].

ذبحُ الإنسان للإنسان ليس هو اختيارُ الله الأمثل. إنما هو اختيارٌ بشريٌّ خاضعٌ لسُلطان الوحش الكامن في كلّ إنسان

فِعلُ الذبحُ إذًا ينطلق –في مُطلقه- من سُلطةٍ ما، من وحي أو مُلك أو طاغوت… أو من سُلطة “طبيعة التوحُّشٍ” الكامنة داخل الإنسان. لهذا جاء فِعلُ الذبحِ في نصوص الشريعة مقيّدًا بقيودٍ صارمة لا تسمحُ بطبيعة التوحّش هذه بالسيطرة على القائم بفعل الذبح. ومنه قول الرسول الكريم (وإذا ذبحتُم فأحسِنوا الذِّبحة)، وقوله (فليحُدّ شفرَته وليُرِح ذبيحَته). وكذا كلّه أيضًا لا زال في سياق ذبح الإنسان للطير والحيوان.

أما عن ذبحِ الإنسان للإنسان، فإنّك تجدُه في النصوص القرآنية المذكورة توًّا، في موضعين، موضعٌ إجراميٌ منفّر مكروهٌ مذمومٌ، ارتبط بفعل فرعون وجنوده. وموضعٌ اجتهاديٌ من إبراهيم –عليه السلام- اختار الله تعالي له بديلاً عنه (وفدَيناه بذِبحٍ عظيم).

في جميع الأحوال، أنت واصلٌ إلى هذه الحقيقة = ذبحُ الإنسان للإنسان ليس هو اختيارُ الله الأمثل. إنما هو اختيارٌ بشريٌّ خاضعٌ لسُلطان الوحش الكامن في كلّ إنسان.

لماذا يذبحُ الإنسانُ جَنيسَه الإنسانَ إذًا؟!

* * * * *

البشر لا يحتاجون إلى أيديولوجية شريرة أو سيئة لدفعهم لارتكاب سلوك غير إنساني؛ لأن هذه المشاعر تسيطر علينا بسهولة وبدون أي أيديولوجية
كولن ولسون – التاريخ الإجرامي للجنس البشري.

* * * * *

دعونا نلتفت إلى الخلفِ وَهلةً لنتأكّد من الطريق..

لا يخلو تاريخ الحروب التي شهدها الجنس البشري من صور الإبادة والمذابح والوَحشية؛ حتى في تلك الحروب التي كان كلا طرفيها من المسلمين. يمكنك أن تستدعي تلك الأمثلة الشهيرة عن حروب العباسيين والأمويين، وحروب المغول، والحروب الاستعمارية، والحربين العالميتين الأولى والثانية، وحُروب المقاومة، والحروب العِرقية والطائفية المنتشرة في كثير من بقاع العالَم. تشكّلُ الحربُ -وروُحها- دائمًا فرصةً مثالية لبزوغ “طبيعة التوحّش” الإنسانية. وما لَم تنضبط هذه الحروب بالضوابط الصارِمة التي وضعَها خالقُ البشرية، فإن الممارسات تكون فظيعة بشكلٍ ربّما يتجاوز خيالَ الشيطان ذاته!

ومن بين تنظيمات مسلّحة كثيرة متنوّعة الأيديولوجية والأهداف، جاء تنظيم “الدولة الإسلامية” ليشكّل واحدًا من أبرز التجلّيات لـ”طبيعة التوحّش”، وإن كان لا زال منظّروه يُصرّون على الاستدلال لـ”طبيعة التوحّش” هذه من القرآن والسنّة وأقوال العُلماء واجتهادات منظّريهم، بطريقة لا تخلو من “توحّش عقلي” يستحق الدراسة.

لا يخلو تاريخ الحروب التي شهدها الجنس البشري من صور الإبادة والمذابح والوَحشية؛ حتى في تلك الحروب التي كان كلا طرفيها من المسلمين

والحقيقة أن شخصياتٍ كـ”أبو مصعب الزرقاوي”، وهو أحد الآباء المؤسّسين لممارسات الذبح الصادِمة، وهو -كما ذكر شفيق شقير في “الجذور الأيديولوجية لتنظيم الدولة الإسلامية”- الذي عزَّز من “سُنَّة” القتل ذبحًا للمخطوفين والأسرى وبثها للإعلام بقصد الترويع، بل ربما قد يكون أول من جعلها طريقة متبعة في التيارات الجهادية. و”أبو عبد الله المهاجر” أستاذ الزرقاوي وصاحب كتاب “مسائل في فقه الجهاد” الذي قرّر فيه أنّ “ما في القتل بقطع الرأس من الغلظة والشدة أمرٌ مقصود، بل محبوب لله ورسوله”!، و”أبو بكر ناجي” صاحب كتاب “إدارة التوحّش” الذي قرّر فيه: “نحن الآن في أوضاع شبيهة بأوضاع حوادث الردة أو بداية الجهاد فنحتاج إلى الإثخان ونحتاج لأعمال مثلما تم تجاه بني قريظة” وضرورة “اتباع سياسة الشدة بحيث إذا لم يتم تنفيذ المطالب يتم تصفية الرهائن بصورة مروعة تقذفُ الرعب”..

ثلاثتهم لم ينَالوا حقّهم من البحث في سيكولوجيتهم وبنائهم النفسي، وهو ما سنحاول بحثه في مقالات قادمة ما أمكن. إذ الأمر لا يتوقّف عند بحث المستوى والنتاج العِلمي، ولا ينبغي له أن يتوقف عند هذا الحدّ.

هذا على الرغم من أنّ دَحض ما تستندُ إليهم تنظيراتهم وممارساتهم في القتل والذبح، قريبٌ جدًا لكلّ مُريدٍ للصواب. فعِند الفقهاء والمتشرّعة، غايةُ ما يقال في (قتل) أسرى الكُفار –باختزالٍ شديد-، بعد تفصيلٍ موسّع منهم في مَن يصحّ أسره، وضوابط دقيقة في أسباب استحقاق القتل التي لا تتوقّف على كون الأسير أسيرًا وفقط… أنّ قتلَ الأسرى يكون من قبيل المُعامَلة بالمثل، ولا يُقدِم عليه المسلمون إلا إذا مارسه العدوّ في أسرى المسلمين، وتكون صورة قتل الأسير ضرب العنق (وهي أسهل وأسرع وفقًا لما كان متاحًا حينها من أنواع السلاح)، وليس ذبحه أو حزّ عنقه بإمعان؛ فالصورتان مختلفتان اختلافا دقيقًا لدخول الذبح في باب التمثيل بالجُثث.

وأمّا أسرى البغاة، فإنهم يُحبَسون، بلا قتلٍ أو ذبحٍ وخلافه. ففي الحديث الذي رواه الحاكم وصحّحه، عن ابن عمر – رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: أتدري يا ابن أم عبد، كيف حكم الله فيمن بغى من هذه الأمة؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: (لا يُجهَز على جريحها، ولا يقتل أسيرها، ولا يطلب هاربها ولا يقسم فيؤها). وهو ما قال به الشافعي في الأم، والحنابلة كابن قدامة، وابن حزم الظاهري.. وخالفهم أبو حنيفة فقال بجواز قتل أسرى البغاة إذا انهزموا مطلقا كما نقله الكاساني في بدائع الصنائع، وكذا المالكية الذين اشترطوا استتابته فإن تاب وإلا يُقتَل.

منذ بدأ الزرقاوي في 2004م مع نيك بيرج بذبحه، وحتى اليوم، لا زالَت ممارسة الذبح مستمرّة مع غير مسلمين، ومع مسلمين

وأما أسرى المرتدّين، فغالب أقوال العلماء أنهم إذا حاربوا كمحاربة الكفار المسلمين ثم أسروا فحكمهم القتل، مع خلاف في استتابتهم عند بعضهم. [مستفادٌ من: أحكام الأسرى والسبايا في الحروب الإسلامية – د. عبد اللطيف عامر]

ومنذ بدأ الزرقاوي في 2004م مع نيك بيرج بذبحه، وحتى اليوم، لا زالَت ممارسة “الذبح” مستمرّة مع غير مسلمين، ومع مسلمين، بما فيهم رفقاء الميدان السابقين والمغضوب عليهم والمنشقّين والمُتوَجّس منهم!

لِنُكملْ ما بدأناه..

* * * * *

(أنت لا تذبحني لأنني أستحقّ الذبح؛ ولكن لأن لتلك اللحظة شبقًا أنتَ لا تحتملُ تفويته.. خصوصًا مع تلك التكبيرة العالية التي تكافئ زمجرة الشابق في ذروته، ومع ذلك الدفء الأحمر الذي ينقذف ليُغرِق يديكَ وأنتَ تُواصِلُ عملية الذّبح، ومع لمعة الإشباع في عينيكَ وقد تمكّنتَ من إهمادِ ذبيحتك، تمامًا كما يتمكّن المُغتصبُ من ضحيّته).

رسالةٌ من متوجّسٍ ما

* * * * *

على مستوى توجّه التنظيم إجمالاً، يدخُل سلوكُ الذّبح في سياق الحرب النفسية/الدعائية، بهدفٍ رئيسٍ يتمثّل في تحسين جهود التجنيد وحشدِ النفسيات الثأرية وبناء قوة عسكرية أكبر للتنظيم لمحاربة أعدائه القريبين في العراق ومن بعدها سوريا، وبهدفٍ ثانوي يتمثّل في تحدّي وترهيب العدو البعيد في الغرب.

لكنّ استخدام مقاربة نفسية لتفسير سلوك الذبح الذي يمارسه أفراد التنظيم، ليس بهذا الوضوح والبساطة، بل ينطوي على تعقيدٍ وتركيب.

هل تأمّلت وعيدَ أحد منتسبي داعش أو ألتراساتهم، وهو يتوعّد طرفًا ما (سنذبحكم كالفراخ أو كما النعاج)؟! لماذا يستحضر صورة الفراخ أو النعاج تحديدًا في وعيده هذا؟ ستدرك مغزى هذا الإسقاط إذا كنتَ جرّبتَ الأمر مِن قبل مع فرخة أو نعجة.

أنتَ تمثّل بالنسبة له نموذجًا من الضعف والانبطاح، نموذجًا لما كان عليه سابقًا وتخلّص منه، وبالتالي فهو يريد أن يتخلّص منكَ كما لو كُنتَ مجسّدًا لهذا الضعف والانبطاح. هنا تقدّم نظرية (الإحباط– العدوان) تفسيرًا مباشرًا للأمر.أنت عائقٌ أمامَ هدفه المقدّس، وهو قد تجاوز ما يكفي من العوائق التي كان يستسلم لها قَبلاً ويرفض تكرارها، ولن يطيق صبرًا على وجودك بهذه الصفة؛ سيفعل بكَ ما يفعلُه الإنسان عادةً مع الفراخ المستسلمة والنّعاج المنبطحة للذبح.. سيذبحُك لأن قانون “طبيعة التوحّش” يقتضي هذا = القويّ يأكُل الضعيف أو ينهش سِرّ حياته.

يدخُل سلوكُ الذّبح في سياق الحرب النفسية/الدعائية، بهدفٍ رئيسٍ يتمثّل في تحسين جهود التجنيد وحشدِ النفسيات الثأرية وبناء قوة عسكرية أكبر

أمّا عن عملية الذبح نفسَها، فيمكنك أن تتأمّل فعلَ أحدِهم وقد جثم فوق ظهر مذبوحه وشدّ رأسه، ليحُزّ الجلد فالحنجرة فاللحم فالعظم، ذهابًا وإيابًا من الأذن إلى الأذن، وجسدُه متصلّبٌ في لحظةِ شبقٍ شديدة الخصوصية، يُنصِت بدقّة لحنجرة مذبوحه وهي تشخب (صوت خروج الدم من الجريح)، بل ربّما يتلمّس صوتَ حزّ حدّ سلاحِه الحاد على اللحم والعظم.. هناك ذلك الإحساس الفريد بالإصرار والقوة؛ أنّ ما بدأه توًا لابدّ أن ينهيه، أنّه ينتزعُ روحًا بطريقةٍ إمعانية، أنه بالفعل يُنجز جُزءًا ممّا لا يستطيعه كاملاً إلا إله. يرى أنّه يتقرّب إلى الإله بتقليد عملِ الإله، ولو جزئيًا، وعلى قدر إمكاناته البشرية.

وثمّة سؤالٌ: لماذا يستمر الذي ذبحَ إنسانًا مرّةً، ويُصِرّ، على ممارسة الأمر ذاته مرةً من بعد مرّة؟! الواضح أنه إلى جانب إحساسِ الذابح بدرجاتٍ من القوّة والسّطوةِ والإشباع والأداء الرّسالي، ثمّة تفسير يستحقّ الاعتناء: أنّ الفاعلَ في الفترة البينية بين ذبحةٍ وأخرى، يغزوه شعورٌ مُبهَمٌ بعقاب الذات، ولكن بطريقة مركّبة، ففي اللحظة التي يعاقب فيها نفسَه على فِعلته السابقة، لا يلبث العقاب أن يتحوّل -تحت ضغط اللحظة- إلى “انشقاقية تحويلية” تجعله يوجّه فعل العقاب إلى الضحية التالية فيذبحه، وهكذا دواليك. والأكثر إثارة للدهشة حين يتسابق ويتنازع مع الرفاق كي يكون الذبح هذه المرة من نصيبه، كلاعبي كرة يتنازعون ركلة الجزاء!

أجزاءٌ أخرى من تفسير فِعلِ الذبح لدى أفراد داعش سُلوكيًا، توفّرها لنا نظرية “التعلّم الاجتماعي”؛حيث يستقي الفردُ تعزيزًا دافعًا لسلوكه العدواني من طاعة الأوامر من السلطة التي يخافها أو يحترمها أو ينتفع منها، وتشاركه المسئولية الشرعية والنفسية والإجرائية داخل التنظيم أو تتحمّلها عنه ، كما يفسّره ممدوح عدوان في (حيونة الإنسان) ولكن من طريق أخرى.

هنا، تجدُ الرّفاق يقفون حوله يشجعّونه -وهو يذبح مذبوحه- بالتكبير والتهليل، تمامًا كما كان يقف الجنود يشجعون زميلَهم بالتصفيق والتصفير وهو يغتصبُ أسيرةً في ذلك المعسكر الشهير.

هناك جانب همجي لا ينفصل عن عملية الذبح نفسها، يتمثّل فيما بعد الذبح؛ فلا بدّ من صورة للرأس مثبّتة في مكان ليس هو مكانها من الجسد كما خلقها الله عليه، أو صورة للرأس معلّقة على طرفٍ مدبّب ما، ولا مانع من صورة تذكارية مع بعض الرءوس المعلّقة من خلفك، أو المرصوصة بعناية أمامك في استعراضٍ يُشبع تلك النفسية الهمجية، ولا مانع أيضًا لو لعبنا بهذه الرءوس أو بعضها دحرجةً أو ركلاً أو حتى كرة السّلة!

أنّه ينتزعُ روحًا بطريقةٍ إمعانية، يرى أنّه يتقرّب إلى الإله بتقليد عملِ الإله، ولو جزئيًا، وعلى قدر إمكاناته البشرية

يحكي بعضُ الشهود عن زملاء لهم، تونسيين تحديدًا، كانوا يجمعون رؤوس مَن يذبحونهم ويأخذونها معهم كي يتسلّوا في المساء باللعب بها أو بالتقاط الصور “السيلفي” معها. هذه الحكاية يمكننا أن نستشهد بها في استخدام مقاربة نفسية/اجتماعية لتفسير فِعل الذّبح؛ إذ المُلاحَظ في كثيرٍ من منتسبي داعش بدرجة واضحة، أنّه كلّما زادَت درجة القمعُ الذي تعرّض له المجتمع، زادت وحشية هذا المُنضوي الهارب من هذا القمع. وهو ما ينطبق على حالة مثل تونس. وتناظرها ليبيا، غير أنّ الليبيين يتهكّمون على ممارسات داعش المُفرِطة بأنها “لعب عيال” مقارنةً بما يفعله الليبيون أنفسهم داخل ليبيا، كما نقل لي صديقٌ كان هناك.

أيضًا، نفس المقاربة، يمكننا الاستشهاد لها بشريحة مؤسِّسة ورافِدة للممارَسة العُنفية، وهي شريحة “السلفية الجنائية”، وقد أطلق أحد أصدقائنا الباحثين هذه التسمية على أولئك الجنائيين والبلطجية الذين التحقوا بالسلفية الجهادية دون تربية إيمانية أو تعليمٍ شرعيٍ أو ترشيد للعُنف والتشوّه الكامِن بداخلهم.هنا تكونُ الممارسة الميدانية شديدة التشوّه، وتمثّل توجّهات داعِش الحاضنة الأمثل لممارساتهم، ويردّون هُم الجميل لهذه الحاضنة بتقديم أقصى ما يمكنهم من الإبداع في القضاء على مَن يقع تحت أيديهم، وبلمساتهم الجنائية المميتة الخاصّة.

ثمّة مقاربة أنثربولوجية/سُلالية يمكننا استخدامها لتفسير السلوك العنيف لتنظيم “الدولة الإسلامية”، ولكنّها تحتاج إلى تقوية قرائنية من واقِع أشهر الأسماء والجنسيات التي تقوم بفِعل الذبح من بين صفوف داعش.

* * * * *

الوحوش نفسها لن ترتكب مثل هذه البشاعة، لكن توحّش الإنسان لا حدود له
محمد الرايس – تذكرة ذهاب وإياب إلى الجحيم

* * * * *

ولأن الحرب النفسية تعتمد في أحد أهم ركائزها على “التكرار مع التنوع”، ولأن “طبيعة التوحّش” الإنساني إذا سيطَرت لا تتوقّف عند نقطةٍ بعينِها، ولأن الخبرات القادمة مع الأجناس المختلفة لم تُطبّق كلّها بعدُ… فمِن المتوقّع بقوّة أن نرى أفكارًا وأساليبَ إبداعية جديدة يمارسُها تنظيمُ “الدولة الإسلامية” في القتل.

ختامًا، هناك الكثيرَ من سلوكيات الإفناء الإنساني لدى تنظيم “الدولة الإسلامية” ممّا لم ينَل حقّه من تسليط الضوء عليه بالتحليل، وتساعدنا في وضع الأمور في نصابها الصحيح؛ كسلوك الإيذاء المقصود للذات بالمتفجرات (Intentional self-harming by explosive material)، والسلوكيات النفسية التحويلية (Conversion reaction)، وغيرها.. وهو ما سنتابع تسليط الضوء عليه تباعًا بمشيئة الله.

في المقالِ القادِم (دليلك إلى فنون طهي البَشر على الطريقة الداعشية).