الاتفاق النووي الايراني مع مجموعة (5+1)
الاتفاق النووي الايراني مع مجموعة (5+1)

وبرغم أن إيران تُعد الطرف الأكثر ربحًا جرَّاء ذلك الاتفاق إلا إنه لا يمكن إنكار أن الأطراف الدولية هي الأخرى وفي مقدمتها الولايات المتحدة قد حققت بعض المكاسب الهامة من هذا الاتفاق النووي/السياسي الطابع، في ضوء سياساتها الحالية تجاه منطقة الشرق الأوسط والتحديات التي تفرضها عليها، والتي يأتي على رأسها تنامي خطر الإرهاب وما يتبعه من تأجج في الصراعات في بعض الدول مثل سوريا والعراق.

هذا بالإضافة إلى تأثير ذلك الاتفاق على مصير العلاقات بين إيران ودول الاتحاد الأوروبي، والتي جُمِّدت في السنوات الماضية نتيجة استمرار إيران في برنامجها النووي وما يستتبعه من تهديد للأمن والسلم في المنطقة.

محددات إقليمية

إن الحديث عن مستقبل العلاقات الإيرانية سواء مع الولايات المتحدة الأمريكية أو مع دول الاتحاد الأوروبي بعد الصفقة النووية الأخيرة، يفترض ابتداءًا التطرق إلى بعض المحددات المرتبطة بإقليم الشرق الأوسط وتطورات الأوضاع فيه، وبمدى التزام إيران بتنفيذ بنود الاتفاق النووي، وعدم الإخلال به بأي شكل من الأشكال. ولعلَّ أبرز تلك المحددات ما يلي:

أولا: ارتباط الولايات المتحدة الأمريكية بعلاقات تعاون وثيقة مع دول الخليج العربي، سواء من النواحي الاقتصادية أو العسكرية، خاصة في ظل اعتبار دول الخليج أن الولايات المتحدة بمثابة “الحامي” الخارجي لها ضد أي تهديدات تجاه نظمها الحاكمة أو أراضيها.

القواعد العسكرية الامريكية في الخليج العربي
القواعد العسكرية الامريكية في الخليج العربي

وليس من قبيل الحكمة من جانب الإدارة الأمريكية أن تُفرِّط في تلك العلاقات حتى لو على حساب تقويض الطموح النووي الإيراني، خاصةً أن الولايات المتحدة تحاول أن تُصدِّر فكرة أن تلك تلك الصفقة هدفها طمأنة دول الخليج ومنطقة الشرق الأوسط كله في ظل التخوفات من امتلاك إيران للسلاح النووي وحدوث مزيد من الحروب في المنطقة.

ثانيا: المحدد الإسرائيلي؛ حيث إن إسرائيل تعد من أكثر الرافضين، بجانب دول الخليج، لتلك الصفقة؛ حتى إن رئيس الوزراء الإسرئيلي بنيامين نتنياهو قد أعلن أن بلاده “لن تكون ملزمة بالاتفاق النووي وأنها ستدافع عن نفسها”، معبرًا عن خيبة أمل إسرائيل بشأن الاتفاق الذي وصفه بأنه “خطأ صادم وتاريخي”.

وفي هذا الصدد حاول أوباما طمأنة شريكه الإسرائيلي في اتصال هاتفي أجراه معه الثلاثاء الماضي، يوم إعلان الصفقة رسميًا، وأكد خلاله لنتنياهو أن الاتفاق مع إيران سيرفع عن إسرائيل “التهديد النووي الإيراني”، مجددًا تمسكه وإدارته بضمان أمن إسرائيل، ومشيرا بهذا الصدد إلى أن “خطة العمل المشتركة” الموقعة في فيينا تمثل “نتيجة تراعي المصالح القومية لكل من الولايات المتحدة وإسرائيل”.

بنيامين نتنياهو أثناء خطابه في الكونجرس الأمريكي للتحذير من الصفقة النووية
بنيامين نتنياهو أثناء خطابه في الكونجرس الأمريكي للتحذير من الصفقة النووية

ومن هذا يتضح أن المحدد الإسرائيلي هو الآخر سيكون عقبة هامة في تطوير العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران خاصة إذا بدا أن إيران قد لا تلتزم ببنود الاتفاق أو تخل به بأي صورة، بما قد يهدد الأمن القومي لإسرائيل.

ثالثا: مدى التزام إيران الصارم بتنفيذ بنود الاتفاق النووي؛ إذ إنه برغم أن الأخير يقوض الطموح الإيراني في امتلاك سلاح نووي، إلا أن السياسة الخارجية الأمريكية أو حتى الأوروبية ليس من الواضح أنها تضع ثقتها الكاملة في نوايا إيران السلمية لتنفيذ الاتفاق، ومن ثم أعطت لنفسها فرصة التصرف ضد أي انتهاك إيراني لبنود الاتفاق، خاصةً أن إيران إذا أخلت ببنود الاتفاق واستمرت في برنامجها النووي، فإنها لن يمكنها امتلاك سلاح نووي إلا بعد سنة على الأقل بما يعطي الفرصة للدول الكبرى في اتخاذ الإجراءات اللازمة تجاه هذا الأمر؛ وهو ما بدا ملحوظًا في تصريحات وزير الدفاع الأمريكي آشتون كارتر بأن “الولايات المتحدة لن تتخلى عن سياسة الردع في ضوء الاتفاق الموقع مع إيران، كما أننا جاهزون لتعزيز أمن أصدقائنا وحلفائنا في المنطقة، بمن فيهم إسرائيل، وللدفاع عن أنفسنا من العدوان، وضمان حرية الملاحة في الخليج والحد من نفوذ إيران .. وسنلجأ إلى الخيار العسكري إذا لزم الأمر”.

آشتون كارتر وزير الدفاع الأمريكي
آشتون كارتر وزير الدفاع الأمريكي

انفتاح مشوب بحذر: ملامح التقارب الأمريكي الإيراني

في ضوء المحددات السابقة، يمكن القول أن سيناريو التقارب الأمريكي الإيراني في الفترة المقبلة وإن كان هو الأكثر ترجيحًا واحتمالا، إلا إنه لايزال اقترابًا حذرًا أو قلقًا، لا يعدو كونه تقاربًا مصلحيًا مبنيًا على اعتبارات حسن النوايا الإيرانية من ناحية، وعلى إعطاء مساحة أكثر حرية للتحرك الإيراني في الملفات الإقليمية المختلفة من ناحية أخرى.

ويعد الملف الإيراني هو الملف الأكثر حيوية في سياسات الولايات المتحدة في المنطقة، خاصة وأن إدارة الرئيس أوباما تسعى تحقيق إنجازًا يُوضع في تاريخها في البيت الأبيض، بعد فشلها في تحقيق إنجازها الذي كان أولوية أولى لها في حل القضية الفلسطينية، ومن ثم يصبح هذا الملف، إن اكتمل تحقيقه دون معوقات لفشله، هو الإنجاز الأهم للإدارة الأمريكية الحالية التي ستغادر البيت الأبيض قريبًا.

باراك أوباما
باراك أوباما

كذلك من وجهة النظر الأمريكية فإن هذا الاتفاق يحقق الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط باعتبار أن امتلاك إيران للسلاح النووي هو التهديد الأكثر خطورة خاصة بالنسبة للحلفاء من دول الخليج أو إسرائيل. بيد أن الولايات المتحدة لا يبدو أنها تهدف فقط لحل مسألة البرنامج النوي الإيراني بل تعبتره بمثابة الخطوة الأولى لإيجاد حلول لمشكلات المنطقة التي لا تنتهي والتي تقع إيران بالضرورة في القلب منها، أو بمعنى آخر فإن الاتفاق النووي هو الخطوة الأولى نحو إدماج إيراني أكبر في ملفات المنطقة.

ويأتي في مقدمة تلك الملفات، كل من الوضع في سوريا والعراق واليمن؛ والتي تعد إيران أحد الأطراف الفاعلة بقوة فيها؛ ففي العراق يبدو أن التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية لم يحقق الهدف منه حتى الآن، ومن ثم أصبح الاعتماد على الميليشيات الشيعية الإيرانية هو البديل الأنجع بالنسبة للولايات المتحدة لمواجهة هذا التنظيم السُني المتنامي نفوذه وسيطرته على مساحات واسعة من دول المنطقة.

أما في سوريا فإن إيران تعتبر أحد أطراف الأزمة هناك ومن ثم قد تصبح بعد هذا الاتفاق أحد أطراف الحل إن استطاعت إيجاد بديل سياسي يمكن التوصل إليه بالتعاون مع دول العالم ودول الخليج لإنهاء الخطر الذي لا يقف عن عتبة سوريا فقط بل المنطقة برمتها.

كذلك الوضع المتنامي في اليمن والذي يبدو أن العمليات العسكرية التي تقودها السعودية هناك لم تحقق نجاحًا يمكن الإرتكان عليه في إنجاز اتفاق سياسي بين الأطراف الفاعلة في الداخل اليمني، خاصة في ظل استمرار دعم إيران للحوثيين هناك سواء الدعم المادي أو العسكري، ومن ثم تظهر إيران مرة أخرى بصفتها الدولة التي في يدها الحل للأزمات في ظل الرعاية والرقابة الدولية الأمريكية بالأساس.

يتسق ذلك كله مع سياسة الولايات المتحدة الواضحة في فك الارتباط بمنطقة الشرق الأوسط وتوجهها نحو إقليم آسيا والمحيط الهادي لمواجهة النفوذ الصيني الممتد هناك، إلا أن الولايات المتحدة في نفس السياق لا يمكنها التخلي بشكل كامل عن المنطقة لما تمثله الصراعات داخلها إلى تهديدات عابرة للحدود لمصالح الولايات المتحدة، وإذا كان الصعود الصيني أولوية للسياسة الخارجية الأمريكية، فإن هذا من شأنه أن يجعل دول الخليج أكثر أهمية بالنسبة للولايات المتحدة، خاصة وأن تأمين إمدادات النفط الخليجي سيكون عاملا هامًا في استقرار الاقتصاد الصيني.

لذا فقد طمأنت الولايات المتحدة حلفائها بأكثر من طريقة؛ فجددت اتفاقية الدفاع مع قطر لمدة 10 سنوات، ووسعت من قاعدتها العسكرية في البحرين، وتعهدت ببيع أسلحة جديدة لمجلس التعاون الخليجي للقيام بأنشطة وتدريبات جماعية، كذلك تعهدت بزيادة التعاون الأمني على الحدود في مواجهة التمويل الإرهابي، وما إلى ذلك من تصريحات وقرارات بما يؤكد نواياها باستمرار التعاون الأمني مع دول الخليج.

وهذا كله من شأنه أن يجعل الولايات المتحدة تسعى بشكل حثيث لتحقق معادلة التوازن في منطقة الشرق الأوسط؛ بحيث أن الأقرب أنها ستصبح راعيًا لترتيبات إقليمية مشتركة تجمع دول الخليج وعلى رأسها السعودية، مع الخصم التقليدي لها في المنطقة وهي إيران؛ وذلك لحل الملفات الشائكة والتي أبدى الطرفان استعدادهم للتعاون لحلها، وعلى رأسها الملفات المذكورة. ولكنها لا تريد أن تنخرج بشكل كامل في صراعات الإقليم كما فعلت في اليمن، واكتفت بتقديم الدعم اللوجستي للعمليات العسكرية بقيادة السعودية ضد الحوثيين.

من ناحية أخرى، فإن تحقيق التقارب مع إيران أيضًا مرهون بالرغبة والإرادة الإيرانيتين في التعاون مع الولايات المتحدة التي طالما وصفتها بالشيطان الأكبر، وأن الهدف النهائي من سياستها الخارجية هو إبعاد الولايات المتحدة عن التواجد في المنطقة وخصوصًا التواجد العسكري، وبالتحديد في دول الخليج، ويرتبط ذلك التساؤل بمدى وحجم المعارضة الداخلية الإيرانية في هذا الأمر.

لذا يصبح من المُرجح القول أن الولايات المتحدة ستسعى لفتح الطريق أمام المفاوضات في الفترة المقبلة في الملفات الإقليمية المختلفة في حضور الأطراف الفاعلة وعلى رأسها السعودية وإيران، بما يحقق أمن واستقرار الإقليم من ناحية ويحافظ على مصالح الولايات المتحدة من ناحية أخرى.

إيران وأوروبا: فصلُّ جديد من العلاقات

الحوثيين
الحوثيين

فتح الاتفاق النووي الأخير الطريق أمام دول الاتحاد الأوروبي للدخول في فصل جديد من العلاقات التعاونية مع إيران، ويمكن القول أنه على عكس تداعيات الاتفاق على العلاقات مع الولايات المتحدة والتي يغلب عليها الطابع السياسي، فإن تأثير ذلك تلك الصفقة على العلاقات مع دول الاتحاد الأوروبي يغلب عليها الطابع الاقتصادي بشكل أكبر، خاصة في ظل الغياب السياسي ومحدودية التأثير الأوروبي في الملفات الإقليمية والصراعات الدائرة في منطقة الشرق الأوسط.

وينوي عدد من وزراء خارجية الدول الأوروبية زيارة طهران في الفترة المقبلة، وذلك لبحث إمكانية التقارب في الأيام القادمة في بعض النواحي الاقتصادية، خاصة بعد الإفراج عن الأموال الإيرانية المجمدة والتي تُقدر قيمتها ب 150 مليار دولار منذ بدء التفاوض، والتي من شأنها أن تعيد إحياء الاقتصاد الإيراني الذي تعرَّض لضرر كبير جراء العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها من جانب تلك الدول.

الاقتصاد الإيراني
ويمكن الإشارة في هذا الإطار إلى أبرز مساحات التعاون والتقارب في العلاقات بين إيران وأوروبا على النحو التالي:

المساحة الأولى؛ تتعلق بالغاز الإيراني؛ إذ إن تأثير الأزمة الروسية الأوكرانية على دول أوروبا فيما يتعلق باستيراد الغاز الروسي عبر أوكرانيا قد يكون دافعًا هامًا لدول الاتحاد الأوروبي نحو مزيد من التعاون مع إيران والتي تحتل ثاني أكبر احتياطات من الغاز في العالم بعد روسيا، وتعد بديلا محتملا بعد تلك الصفقة، خاصة في ظل استعداد دول الاتحاد لذلك الأمر وإعلانهم عن رغبتهم في الحصول على الغاز الإيراني حتى قبل إنجاز الصفقة مع إيران.

الغاز الإيراني
الغاز الإيراني

المساحة الثانية، وترتبط بالتبادل الاقتصادي والتجاري بين البلدين؛ حيث إن فرص ومساحات التعاون بين أوروبا وإيران تعد كبيرة؛ إذ أن السوق الإيراني يعد سوقًا رائجة لأوروبا؛ فمثلا قد تصبح إيران منفذا رئيسيا لشركات صناعة السيارات والطائرات والصناعات الغذائية الفرنسية، وذلك قد يساعد على تخلي فرنسا عن تشددها الواضح ضد البرنامج النووي الإيراني. كذلك فإن حجم التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري بين الطرفين سيكون من المحتمل أن يزداد بعد الصفقة وإلغاء العقوبات على الطرف الإيراني، بما يسمح بمزيد من المبادلات التجارية بين الطرفين، ويفتح المجال لأوروبا لتنويع قنواتها التجارية.

المساحة الثالثة، والتي يمكن التحرك فيها في إطار تطوير العلاقات الأوروبية الإيرانية مستقبلا ترتبط بتعزيز التعاون المشترك لمكافحة تهريب المخدرات إلى أوروبا؛ حيث يعد تهريب المخدرات من أفغانستان إلى أوروبا أحد القضايا الهامة في التعاون الثنائي بين الطرفين، لما لها من أهمية خاصة للجانب الأوروبي، ولما لإيران من دور هام وفعَّال في مواجهتها وموقع استراتيجي يساعدها في مواجهة تلك الظاهرة؛ إذ تقع إيران في مسار “أفغانستان – البلقان – أوروبا” بما يتيح لها فرصة مكافحة ذلك الأمر، ويعطيها ميزة تنافسية في العلاقات الثنائية مع أوروبا.

وإجمالا؛ يمكن القول أن الاتفاق النووي مع إيران لا شك قد يساهم في تغيير ملامح العلاقات الإيرانية مع العالم الخارجي، سواء الولايات المتحدة أو دول الاتحاد الأوروبي، إلا أن طبيعة التطورات في الفترة المقبلة قد توضح الصورة بشكل أكبر وتوضح إلى أي مدى تلتزم إيران بتنفيذ بنود الاتفاق الصارمة والتي منها على سبيل المثال السماح للوكالة الدولية بتفتيش كل مكونات البرنامج النووي الإيراني بشكل دائم ومتصل، ليس فقط لسنة أو سنتين بل لـ 10 و15 و25 سنة في بعض الحالات، بل “وفي حال اعترضت إيران على طلب لجان التفتيش الدخول إلى موقع ما، سيُرفع الخلاف إلى اللجنة الدولية المكوّنة من الدول الكبرى الست والمولجة بمتابعة تنفيذ بنود الصفقة. وفي حال قررت اللجنة أن الطلب مُبرر، ستكون الدولة الإيرانية مُلزمة بقبوله خلال 24 يوما”.

أحد المواقع النووية الإيرانية
أحد المواقع النووية الإيرانية

ومن ثم قد يتعارض ذلك مع الأصوات المتشددة في الداخل الإيراني باعتباره تهديدًا للسيادة الإيرانية بل وقد يدفع بعضهم إلى عرقلة تنفيذ ذلك الاتفاق عبر تفجير نقاط تماس مع إسرائيل في الشرق الاوسط مثلا بما يهدد مصير الصفقة بالكامل.

لكن من ناحية أخرى إذا تم الالتزام ببنود الصفقة فإن من شأنه أن يسمح للتحرك الإقليمي الأوسع لإيران في الملفات الشائكة، في إطار من الإشراف والرقابة الدولية الأمريكية بالأساس، وبما يحقق استقرار الإقليم والحفاظ على أمن دول الخليج وإسرائيل، وهي الأولويات الأولى للسياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة.