لم تكن السلفية الجهادية قبل سنوات قليلة تحظى بكل هذا الاهتمام الذي تحظى به اليوم، بل كان أفولها أطروحة قوية تبناها بعض المحللين الذين رأوا أنها تيار بلا مستقبل، خاصة بعد ما فتحه الربيع العربي من آفاق التغيير السلمي. لكن السلفية الجهادية لم تلبث أن توهجت في موجة أخرى من الصعود الفكري والحركي، خاصة بعد الانقلاب على الربيع العربي في تقدير أكثر أبنائه. وعلى الرغم من ذلك الحضور القوي للسلفية الجهادية كأيديولوجية متوهجة ولاعب جيوسياسي فاعل بقوة إلى حد اعتباره العدو الوجودي الأول من قبل الأنظمة العربية بل ومن بعض الأنظمة العالمية، كما من قبل الأيديولوجيات العلمانية بل والدينية ذاتها التي لم يكن بعضها أقل رفضا وعداوة لهذا التيار من نظيراتها العلمانية – على الرغم من ذلك، اتسم فهم ذلك التيار بالانفعالية التي انطبع بها الموقف الرسمي ومناخ المواجهة، بل تعامل كثير من المحللين والنقاد معه باستعلاء أيديولوجي يصل إلى تجريد التجربة من إنسانيتها. فكان الاشتباك دوما مع ذلك التيار إما بالسلاح الذي يقوض جسده أو بمشرط التحليل لنفسي الذي يقتل نفسه؛ دون الالتقاء به تعارفا وجدلا؛ وهو ما لا يمكن ما لم نحترم إنسانية التجربة واستنطاقها لتتكلم عن نفسها.


(1) مفهوم السلفية الجهادية :

تحديد المفهوم معضلة بحثية مستمرة، إذ يمثل المفهوم تكثيفا للتصور المرسوم، وهو بالوقت ذاته مسلمة تأسيسية للبحث، فتحديد المفهوم معضلة دائرية. ويتضاعف الجدل مع السلفية الجهادية، إذ الجهاد ذروة سنام الإسلام، ولم يزل المسلمون يجاهدون أعداءهم عبر التاريخ.

إن التيار الجهادي لا يتبنى الجهاد المسلح فحسب، بل يراه واجبا لا يجوز تركه إلى غيره من مناهج الحركة المغايرة

لكننا نستعين في مطلع الورقة بتعريف يجلي الصورة مبكرا بالحد الفارق بين التيار الجهادي المعاصر الذي نريد أن نتعرف عليه، وبين غيره من التيارات الإسلامية وغير الإسلامية – صاغه منظر جهادي بارز هو أبو مصعب السوري في كتابه الموسوعي “دعوة المقاومة الإسلامية العالمية”، حيث عرف التيار الجهادي بأنه:

“يشمل التنظيمات والجماعات والتجمعات والعلماء والمفكرين والرموز والأفراد الذين تبنوا فكرة الجهاد المسلح ضد الحكومات القائمة في بلاد العالم العربي والإسلامي، باعتبارها أنظمة حكم مرتدة: لحكمها بغير ما أنزل الله، وتشريعها من دون الله، وولائها لأعداء الأمة من قوى الكفر المختلفة. كما تبنوا منهاج الجهاد المسلح ضد القوى الاستعمارية الهاجمة على بلاد المسلمين معتبرين تلك الأنظمة التي أسقطوا شرعيتها وخرجوا على عليها حلفاء محاربين للإسلام والمسلمين”

إن هذا الحد يخرج من التيار الجهادي أو الجهاديين، الإسلاميين أو غير الإسلاميين الذين حاربوا الأنظمة الحاكمة في بلدانهم، ليس باعتبار أن تلك الأنظمة مرتدة وأن جهادها بالسلاح هو السبيل الشرعي الوحيد للتعامل معها أو إزاحتها. فقد يحمل الإسلاميون أو غيرهم من الطوائف السياسية أو الفكرية السلاح بسبب انسداد آفاق التغيير السلمي، أو لتحقيق أهداف دون إزاحة الأنظمة الحاكمة، أو لإزاحة الأنظمة لفسادها أو لمبررات دون الردة. فقد شارك الإخوان المسلمون في العمل المسلح في سوريا بين عامي 1976 و 1982 ضد نظام حافظ الأسد؛ لكنهم لا يمكن أن يعتبروا بذلك ضمن التيار الجهادي المعاصر. لذا يعيد أبو مصعب لاحقا اختصار تعريفه مع إضفاء اللمحة الأيديولوجية المميزة للتيار ليكون بالصورة التالية:

“الجهاديون أو التيار الجهادي هم الجماعات أو الأفراد الذين حملوا فكرة الجهاد المسلح ضد الحكومات القائمة في بلاد العالم الإسلامي، أو ضد الأعداء الخارجيين، وحملوا فكرا محددا يقوم على مبادئ الحاكمية وقواعد الولاء والبراء وأساسيات الفكر الجهادي السياسي الشرعي المعاصر كما هو مفصل ومعروف في أدبياتهم”

إن التيار الجهادي لا يتبنى الجهاد المسلح فحسب، بل يراه واجبا لا يجوز تركه إلى غيره من مناهج الحركة المغايرة، وعلى رأسها مساران:

السياسة: وهو المنهج الحركي الذي تبنته جماعة الإخوان المسلمين غالبا على مدى تاريخها.

التصفية والتربية: وهو شعار المنهج الذي تبناه الطيف الواسع من التيار السلفي.

وهو ما تؤكده الأدبيات الجهادية كلها من لدن “الفريضة الغائبة” إلى اليوم، إذ “لا يجوز الاجتهاد في كيفية مواجهة الطواغيت مع وجود النص والإجماع” كما يصرح الشيخ عبد القادر بن عبد العزيز (د. سيد إمام)، المنظر الجهادي البارز في كتابه الهام “العمدة”.


(2) منطق التكوين:

إن الفكر الجهادي إذن ليس وليدا مباشرا للاضطهاد والاستبداد فحسب، ولم تكن المجموعات الجهادية الأولى في مصر وليدة التعذيب أو الاعتقال

إن هذا المفهوم المبدئي يرجع تحققه التاريخي عند أكثر مؤرخي الحركة الجهادية المعاصرة إلى ستينيات القرن الماضي، وإلى المجموعات الجهادية المصرية التي تكونت بين عامي 1966 و 1968 وجمعت: أيمن الظواهري وإسماعيل طنطاوي ونبيل البرعي. ويمكن تحديد رافدين رئيسيين لتلك المجموعة وما انبثق عنها:

السلفية: فقد جمعت هؤلاء الشباب دروس مسجد قولة بعابدين في القاهرة، حيث المركز العام لجماعة أنصار السنة المحمدية، التي كان يلقيها رموز كبرى للسلفية كالعالم الأزهري السلفي محمد خليل هراس. وفي مكتبة المسجد تعرف هؤلاء الشباب على أعمال ابن تيمية التي كان لها أثر كبير في تكوين ثقافتهم الشرعية؛ خاصة فتاواه عن التتار الذين أظهروا الإسلام لكنهم عطلوا كثيرا من شرائعه وتسلطوا على المسلمين، حيث وجدوا فيها دعما كبيرا لأفكارهم عن قتال الأنظمة الحاكمة. وقد ظهر هذا الأثر بقوة في كتاب “الفريضة الغائبة” لمحمد عبد السلام فرج قائد تنظيم الجهاد الذي نفذ عملية اغتيال السادات 1981، وهو من الأدبيات الجهادية.

سيد قطب: في عام 1966 تم إعدام الشهيد سيد قطب رحمه الله، الذي كان رمزا ملهما لكل الشباب الإسلامي، ليس فقط في مصر، بل في العالم الإسلامي كله. وكانت أعماله هي البوتقة الفكرية التي انصهرت فيها عقائدهم وخططهم وغاياتهم. لقد تأثرت تلك المجموعة جدا بأعمال سيد قطب، فكان كتاباه الظلال والمعالم ضمن البرنامج التثقيفي لتلك المجموعة.

لكن هذه النشأة لم تكن فكرية خالصة، فقد كانت مدفوعة بالظرف السياسي. فقد كان واضحا أن التغيير السلمي مع الأنظمة الشمولية الحاكمة غير ممكن، وأن العمل المسلح هو الأكثر نجاعة، خاصة في تلك الحقبة الزاخرة بالانقلابات والثورات. لقد تعرض الإسلاميون بل وبعض المعارضين العلمانيين في تلك الفترة إلى اضطهاد شديد، ولم تكن الأنظمة القومية في ذلك الوقت تزداد إلا فسادا وفشلا تكلل بهزيمة يونيو 1967، ثم كان تصالحه مع الكيان الصهيوني صدمة كبرى دعمت أفكار هذا التيار عن فساد تلك الأنظمة. لذا كان الجهاد المسلح والموقف الساخط على تلك الأنظمة بل وعلى المجتمعات المتكيفة معها، خيارا طبيعيا لهؤلاء الشباب في ذلك الوقت.

الفكر الجهادي تيار ضمن النسق الإسلامي له جذوره الفقهية والفكرية؛ وليس من الحكمة التعجل في إصدار الأحكام الناجزة على مستقبله

إن الفكر الجهادي إذن ليس وليدا مباشرا للاضطهاد والاستبداد فحسب، ولم تكن المجموعات الجهادية الأولى في مصر وليدة التعذيب أو الاعتقال حيث تبنى أعضاء المجموعات الأولى جميعا الفكر الجهادي قبل أن يتعرضوا لأية مظلمة اجتماعية؛ بل يذكر أن الضابط إسماعيل القمري وهو من الرعيل الأول للحركة الجهادية التحق بالجيش بهدف الاستعانة بخبراته فيه وبمكانه على الإطاحة بالنظام الحاكم، كما يحكي عنه د. أيمن الظواهري في كتابه “فرسان تحت راية النبي”.

فالفكر الجهادي تيار ضمن النسق الإسلامي له جذوره الفقهية والفكرية؛ وليس من الحكمة إذن التعجل في إصدار الأحكام الناجزة على مستقبله، فقد يتوارى الفكر الجهادي لكن موته يتطلب معالجة طويلة لأصوله الفكرية. لكن توهج هذا التيار لا يمكن فصله كذلك بحال عن السياق الحضاري والسياسي لواقعه، فإن الفساد السياسي وانسداد أفق التغيير السلمي والاستبداد واضطهاد المعارضة أسباب مباشرة لتوهج ذلك الفكر وبروزه.

المراجع
  1. دعوة المقاومة الإسلامية العالمية، أبو مصعب السوري
  2. اختلاف الإسلاميين، أحمد سالم.
  3. الجماعات الإسلامية والعنف، سعود المولى