بدا لنا الشيعة المعاصرون وكأنهم طائفة واحدة أو فرقة واحدة، تحت ضغط الظرف السياسي الاستثنائي، حتى وقد تلاشى الاختلاف التاريخي وليس فقط الحديث ليتوحد الإمامي العراقي والإيراني مع الزيدي اليمني والعلوي السوري. لكن الحقيقة أن المذهب الشيعي، والشيعة المعاصرون تحديدا، لم يزل يحتضن طيفا واسعا ومتنوعا من التيارات الدينية إلى درجة التضاد. وهو الطيف الذي يعرض له التقرير عرضا لا يقتصر على الإشارة إلى الموقف الديني ولكن يتعداه إلى الحضور الاجتماعي للطائفة أو الأثر الذي يسببه ذلك الموقف.

الصراع الأصولي / الإخباري

ينقسم الشيعة الإمامية بين فرقتين كبيرتين: الأصولية والإخبارية.

فأما الأصوليون فيشتغلون بأصول الفقه كأداة للاجتهاد الذي يدعون إليه. كما يشتغلون بأصول الحديث ويضعفون أكثر ما في كتب الرواية الشيعية الأربعة الكبرى: الكافي للكليني 328 هـ، من لا يحضره الفقيه لابن بابويه القمي 381 هـ، تذكرة الحفاظ للطوسي 460 هـ، الاستبصار للطوسي 460 هـ. بل إن كثيرا من الأصوليين قد برزوا في الدرس الفلسفي وجعلوه من علوم الحوزة الرئيسية.

أما الإخبارية فتثبت كل ما في كتب الرواية الشيعة من الروايات عن الأئمة ولا تضعف منها شيئا. وتمنع الإخبارية من الاجتهاد اكتفاء بالأخبار. وتعتبر المدرسة التفكيكية الشيعية في الفلسفة التي أسسها مهدي الأصفهاني (ت: 1365 هـ) والتي ترفض الفلسفة ممثلا للإخبارية في الدرس الفلسفي.

ظهرت الإخبارية على يد المرجع محمد أمين الاستراباذي (ت: 1033 هـ) الذي ألف “الفوائد المدنية في الرد على القائل بالاجتهاد والتقليد في الأحكام الإلهية”. وطغت بعد ذلك زمنا على المدن الكبرى خاصة كربلاء. لكن الأصولية عادت بقوة على يد الوحيد البهبهاني (ت: 1206 هـ) وتلميذه جعفر كاشف الغطا (ت: 1227 هـ) والذين يتهمان من قبل الإخباريين بالتحريض على قتل الإخباريين يوسف البحراني (صاحب الحدائق) (ت: 1186 هـ) والميرزا محمد الإخباري (1233 هـ). وتسيطر الأصولية إلى اليوم على الشيعة المعاصرين.

لكن ما ينبغي أن نشير إليه هو أن التيار الإخباري يحاول اليوم العودة إلى الوجود رغم التهميش الذي يواجهه من الأصوليين. ويمثل الإخباريين تيار الشيخ سليمان مدني (ت: 2003 م) وجمعيته الرابطة الإسلامية المقربة من السلطة في البحرين. ويتبنى التيار موقفا معارضا بشدة لنظام ولاية الفقيه، ومن رموزه أل عصفور الذين ينشط منهم الشيخ محسن آل عصفور.

1
(الشيخ محسن آل عصفور)

في إيران، يشار إلى المرجع وحيد الخراساني البارز في قم والمعروف بموقفه السلبي تجاه المرشد الأعلى خامنئي باعتباره من القريبين من الإخباريين. كذلك كان آية الله المشكيني (ت: 2007) والذي كان رئيسا لمجلس الخبراء المسئول عن اختيار المرشد الأعلى قريبا من الإخبارية خاصة مع إصداره رسالته العلمية المعروفة بـ (الفقه المأثور).

التيار الشيرازي

نشأ التيار الشيرازي في ستينات وسبعينات القرن العشرين في كربلاء نسبة للمرجع محمد بن مهدي الشيرازي (1928 – 2001)، حيث بدا تيارا تجديديا ثوريا سريعا ما انتشر في الكويت وامتد إلى إيران حيث كان من أبرز التيارات التي شاركت في ثورتها. وعلى الرغم من أن الشيرازيين في بدايتهم التجديدية الثورية سبقوا إلى إحياء نظرية ولاية الفقيه إلا أنهم دخلوا في صدام مع آية الله الخميني حولها، حيث دعوا إلى شورى الفقهاء لا ولاية عامة لفقيه واحد. وسرعان ما أخذ الشيرازيون اتجاها متطرفا كرد فعل لمواقف النظام الإيراني التقريبية مع السنة. فرفضوا قرار النظام بمنع طبع أجزاء من كتاب “بحار الأنوار” للمجلسي لما فيها من إساءة للخلفاء الراشدين، وأعلنوا أسبوع البراءة ردا على أسبوع الوحدة الذي أعلنه الخميني بين 12 ربيع الأول (تاريخ ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم عند السنة) و 17 ربيع الأول (تاريخ ميلاده صلى الله عليه وسلم عند الشيعة).

2
(المرجع محمد المهدي الحسيني الشيرازي)

كذلك مثلت فتوى الخميني بتحريم سب الصحابة صدمة عقائدية للتيار الشيرازي. كما اشتهر الشيرازيون بموقفهم المتشدد الحريص على الشعائر الشيعية العنيفة كالتطبير (ضرب الرأس بالسيف) والمشي على الجمر في ذكرى كربلاء. ونجح خطاب الشيرازيين المتطرف في فرض نفسه على الأجواء المحتقنة في العراق ولبنان مما اضطر تنظيمات عرفت بمواقفها التجديدية المعتدلة إلى الانخراط في طقوسه المتطرفة كحزب الدعوة وحزب الله. وقد زادت حدة التوتر بين التيار والنظام بتولي خامنئي منصب المرشد العام للثورة. بعد وفاة محمد مهدي الشيرازي المرجع الأول للطائفة في إيران حيث كان قيد الإقامة الجبرية؛ صار للطائفة مرجعيتان هما صادق مهدي الشيرازي أخوه الأصغر في قم، ومحمد تقي المدرسي ابن أخته في كربلاء.

ويمثل التيار في العراق منظمة العمل الإسلامي (آل المدرسي) وحركة الوفاق الإسلامي (جمال الوكيل) وحزب الطليعة الإسلامي (علي مهدي الياسري)؛ كما يمتلك فضائيات (أهل البيت) و (كربلاء) التي تجتذب الجماهير الشيعية بما تنقله من طقوس. وفي البحرين، أسس هادي المدرسي في السبعينات “الجبهة الإسلامية لتحرير البحرين” لكنه سرعان ما طرد 1979؛ فتأسست حركة أحرار البحرين (حزب الله البحرين) التي تحقق اليوم حضورا واسعا ويرأسها سعيد الشهابي من لندن. كما أسس عبد العظيم المهتدي البحراني (شيرازي مستقل) جمعية آل البيت، إضافة إلى جمعية العمل الإسلامي (محمد علي محفوظ) وجمعية الرسالة (جعفر العلوي) المحسوبتين على التيار.

وفي الكويت، يمثل التيار تجمع العدالة والسلام (الحاج حسن نصير) وفضائية الأنوار التي تعتبر أبرز فضائية شيعية ناطقة بالعربية والتي أسسها النائب صلاح عاشور. كما ينتمي أكثر أعضاء منظمة الثورة الإسلامية (حزب الله السعودية) والتي تجمعه صلات وثيقة بالنظام السوري إلى التيار الشيرازي. من أبناء التيار كذلك الشيعي الذي أثار جدلا واسعا ياسر الحبيب ويمتلك فضائية (فدك)، وإن كان يوجه انتقادات لاذعة للتيار، وهو من أشد الشيرازيين هجوما على النظام الإيراني.

حاول هادي المدرسي كذلك تأسيس فرع له في السودان في الثمانينات من خلال المفكر الشيعي أحمد الكاتب الذي كان وقتها منتميا إلى التيار. وإلى التيار الشيرازي كان ينتمي الداعية الشيعي المقتول في مصر حسن شحاته.

الشيعة العرب والإيرانيين.. التنافس بين مرجعية النجف ومرجعية قم

النجف (العراق) وقم (إيران) هما عاصمتا المذهب الشيعي الإمامي حيث يحتضنان أهم حوزتين (مدرسة) علميتين للإمامية، وإضافة إليهما تأتي كربلاء في العراق ومشهد في إيران. ولم تزل العاصمتان تتنافسان على الريادة في العالم الشيعي. فقد أدى صعود النظام الإسلامي في إيران في مقابل سيطرة النظام البعثي على العراق إلى انتشار مرجعية قم التي وصلت إلى شيعة جبل العامل في لبنان بعد مساع من موسى الصدر الرمز الشيعي اللبناني الكبير؛ وإن بقيت مع ذلك الأسبقية التاريخية لمرجعية النجف.

وقد كثر الحديث حول تلك الأزمة بعد وفاة المرجع النجفي أبو القاسم الخوئي عام 1992، حيث اشتد التنافس والجدل حول من يرث المرجعية حتى تقلدها المرجع الأعلى آية الله علي السيستاني (مرجع عربي) الذي لا يقر بنظرية ولاية الفقيه. وعلى الرغم من أن نظام ولاية الفقيه لا يحظى بعلاقات طيبة مع حوزة قم الإيرانية نفسها التي لا زال كثير من رموزها لا يقر بالنظرية كذلك (تذكر حديثنا أعلاه عن الخراساني)، إلا أن النظام يعاني قلقا أكبر من حوزة النجف التي لا تخضع لسلطاته بخلاف حوزة قم، إلى حد وصف الخطيب الإيراني أحمد جيتي للسيستاني عند تقلده المرجعية بـ”المرجع الإنجليزي”.

(صورة تجمع المرجعين الخوئي وخلفه السيستاني)
(صورة تجمع المرجعين الخوئي وخلفه السيستاني)

وقد صعدت الخلافات مرة أخرى على السطح بعد اندلاع الثورة السورية. فقد طالب خامنئي السيستاني مرجع النجف وكاظم الحائري المرجع القمي بإصدار فتوى للحض على القتال في سوريا، إلا أن السيستاني أبدى تحفظا واضحا تجاه القتال في سوريا. فيما صرح النائب الشيعي العراقي مطشر السامرائي برفضه تنبي الشيعة العراقيين الخطاب السياسي الإيراني تجاه الثورة.

وفي هذا السياق يفسر البعض احتضان النظام الإيراني للمرجع العراقي المشاغب كمال الحيدري في قم، وهو صاحب الانتقادات اللاذعة للمرجعيات التقليدية، حيث توفر له قناة الكوثر الإيرانية نافذة قوية لآرائه وأطروحاته النقدية.

إلى هنا، ينتهي الجزء الأول من التقرير، لكن لا ينتهي الجدل الشيعي-الشيعي الذي يستحق أن نفرد له أكثر من تقرير واحد.